د. سوسن إسماعيل العسّاف*
سقوط ليز تراس كان متوقعاً، لكن سرعة حدوثه أصاب البريطانيين بصدمة… رئيس الوزراء البريطاني الجديد رشي سوناك بين الإنكفاء الداخلي والاصرار على لعب دور خارجي ربما لم يعد ممكناً
للمرة الرابعة خلال ستة اعوام يخسر حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا رئيسه الذي يشغل منصب رئيس الوزراء ايضا. رغم اصرارها على البقاء في الحكم، متحدية بذلك فشلها في اتخاذ الاجراءات المناسبة لاصلاح الوضع الاقتصادي، اضطرت ليز تراس رئيسة الوزراء لاعلان استقالتها، بعد 45 يوماً فقط من تسنمها هذا المنصب، لتكون اول شخصية تقضي اقصر مدة في هذا المنصب على مستوى تاريخ المملكة المتحدة، (قبلها توفى رئيس الوزراء كانيك بصورة مفاجئة عام 1827 بعد 127 يوما من فوزه بذات المنصب). كما انها اتخذت هذا القرار الصعب في اليوم التالي لتصريح لها قالت فيه (بانها مقاتلة) ولن تستقيل بسهولة وستخوض معركة الانتخابات العامة القادمة في 2024، مع اعتذار على الاخطاء التي ارتكبتها والفشل في الايفاء بوعودها الانتخابية وعلى ما يبدو كانت خيالية وليست واقعية. فالميزانية المصغرة التي اعلنتها لتجميد قيمة فواتير الطاقة مع تخفيض الضرائب بطريقة تاتشرية، قد نتج عنها (حسب السكاي نيوز) خسارة 45 مليار جنية مع ارتفاع في قيمة فوائد الاقتراض 7.7% ومعها تم الغاء 1000 صفقة رهان عقاري، مع زعزعة المعاشات التقاعدية لتدفع البنك البريطاني الى شراء سندات حكومية بقيمة 65 مليار دولار لحمايتها، مع انهيار الجنية الاسترليني وزيادة نسبة التضخم العام 10%، مع نسبة ديون عالية للغاية وصلت الى (حسب النيويورك بوست) 98% من الناتج المحلي الاجمالي البالغ 2.4 تريليون جنية استرليني. أما سياسياً فقد تسببت خطتها هذه في زيادة شعبية حزب العمال وتشرذم حزب المحافظين مع فوضى اثبتت ان الاقتصاد الان هو المتحكم الفعلي. حصرت تراس المشكلة ونتائجها الكارثية في ثلاث امور أولها تركة حكومة جونسون الاقتصادية، ثانيها الحرب الاوكرانية وقطع بوتين-روسيا الغاز عن أوروبا، وثالثها وزير ماليتها الذي اقالته، ثم عينت جيرمي هانت بدلا عنه والذي سارع الى طرح إستراتيجية اقتصادية جديدة ركيزتها التقشف. ومع ذلك اخذت استطلاعات الراي العام توضح هبوط شعبية تراس. حتى وجدت نفسها امام ازمات خانقة اقتصادية وسياسية ونفسية سرعت من قرار تقديمها الاستقالة. لم يثر سبب الاستقالة استغراب الجمهور والمراقبين، وانما ما اثار استغرابهم السرعة التي وصلت فيها تراس لهذه القرار، حيث ان اغلبهم كانوا يعتقدون ان استقالتها قد تأخذ مدة اطول، بسبب قوة الاصرار وعنف المواقف التي اتخذتها، ونَفَس المغامرة الذي اظهرته حتى على مستوى السياسة الدولية. ولعل إعلانها أن حكومتها تدرس نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة دليل على ذلك، خصوصاً بعدما عززته بتصريحها بإنها ليست فقط مع دعم، او من اكبر الداعمين لاسرائيل، ولكنها صهيونية من الطراز الاول. الامر الذي جعل منتقديها يتجاهلون هذه المبادرة الإستفزازية، والتي اعادت ذكريات قديمة بخصوص دور بريطانيا في كارثة إغتصاب الاراضي الفلسطينية. وقد يكون طلب تراس من الملك تشارلس الثالث في عدم المشاركة في مؤتمر البيئةCOP27 المزمع عقده في مصر الشهر القادم، على الرغم من ان الملك من المهتمين بهذا الموضوع ، دليل أخر لانه اثار الشكوك الدولية حول احتمالية تراجع بريطانيا عن الوعود التي قطعتها بهذا الشأن في عهد مواجهتها لأزمة اقتصادية عميقة.
السرعة التي تم فيها اختيار سوناك ربما تكون شعور الغالبية في حزب المحافظين بتأنيب الضمير، لانهم فضلوا عليه تراس التي ليس لها تجربة في الاقتصاد، علماً ان سوناك قال لتراس بصورة واضحة اثناء المناظرات التلفزيونية ان الخطط الاقتصادية التي تتحدث عنها لاصلاح الوضع البريطاني خيالية وغير قابلة للتطبيق، (مع الاخذ بالاعتبار العلوية الانكلو-سكسونية خاصة بالنسبة للاعضاء الذين لم يستطيعوا تقبل فكرة ان يكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل من اصول هندية). ولكن الواقعية والحاجة الى (منقذ اقتصادي) على اسس المصلحة العليا للدولة قالت كلمتها في النهاية، وتم تعيين ريشي سوناك كأول رئيس وزراء ملون لبريطانيا، وأغنى واصغر من تسلم هذا المنصب القيادي، وأول رئيس وزراء يكلف من قبل ملكً تشارلس الثالث لتشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من الصورة الديمقراطية التي عكسها النظام السياسي البريطاني بإختيار رئيس الوزراء سوناك، إلا إن جملة انتقادات وجهت له حتى قبل ان يبدأ عمله، ولعل في مقدمتها عدم مساعدته تراس في حل الازمة الاقتصادية مع العلم انه من نفس الحزب الحاكم المنتخب من الاغلبية، كما انه لم يسهم في تعديل مسار حكومة جونسون، وتسببت إستقالته في سوء الاوضاع الاقتصادية التي استطاع (سوناك) تفاديها أثناء ازمة جائحة كورونا، وفضل ان يترك الحكومة في وقت صعب مع الحرب الاوكرانية. الانتقاد الثاني جاء من قبل برلمانيين من حزب العمال والليبراليين الديمقراطيين سبق وان طالبا سوناك (حسب الصحف البريطانية) الاجابة على حصة زوجته في شركة خدمات واستشارات تكنولوجيا المعلومات (انفوسيس) المستمرة في العمل مع روسيا، في الوقت الذي طالب فيه جميع الشركات البريطانية ايقاف التعامل مع روسيا كجزء من العقوبات الاقتصادية. الانتقاد الثالث جاء على لسان العديد من السياسيين والذي مفاده أن سوناك تم تعيينه من قبل اعضاء محددين في حزب واحد داخل البرلمان فقط، ولم يتم انتخابه من قبل الشعب وعليه ان يدعو الى انتخابات عامة ليقول الشعب كلمته بذلك، لكن الحقيقة تقول أن سوناك وصل المنصب بالطريقة الديمقراطية والاسس الدستورية-السياسية المتعارف عليها. اما الأنتقاد الأخير فكان بسبب إصراره على اعادة تعيين وزيرة الداخلية التي سبق وان استقالت من حكومة تراس، سويلا بريفرمان، معتبرين إياها غير كفوءة.
ad
ذكاء سوناك ظهر مبكرا عندما نجح في الاستفادة من اخطاء ليز تراس، وفي مقدمتها انها لم تعتمد على خبراء اقتصاديين من فريق سوناك على اساس انهم داعمين له، بينما ابقى هو العديد من وزراء تراس. بذات المناصب نظرا لكفائتهم ولم يهتم بموالاتهم لها. من ناحية اخرى فلقد اظهر سوناك انه يتمتع بميزتين مطلوبتين: الاولى هي المرونة والهدوء (القوة الناعمة) لمواجهة وحل الكثير من الامور العالقة والمشاكل الداخلية التي تركتها حكومتي جونسون وتراس، وخاصة في مسألة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي فيما يتعلق ببروتوكول ايرلندا الشمالية، (مع العلم انه من المدافعين المتحمسين للخروج من الاتحاد) مع الابقاء على التحالف كأسس للعلاقات. وبالمقابل فانه اظهر الميزة الثانية عبر (المعارضة الشرسة) فيما يخص وحدة المملكة المتحدة، وبالتحديد فيما يتعلق بإجراء استفتاء ثاني حول استقلال اسكتلندة. فقد اعاد ما كرره سابقاً أنه يعد (موضوع الاستفتاء الثاني سخيف ومثير للانقسام وغير ضروري)، وقال “افضل الاشياء التي يمكننا القيام بها هي ان نكون حازمين مع نيكولا ستورجون (الوزيرة الاولى في اسكتلندا) بشأن استفتاء أخر”. علماً ان نيكولا تعتزم اقامة استفتاء ثاني في اكتوبر 2023 المشروط بموافقة المحكمة العليا في المملكة. دوليا هناك امور وقضايا قد تحرج سوناك وقد تتسبب له بمشاكل مستقبلية، اذا اصر على جعلها من اولوياته، منها مثلاىإعتباره الصين (اكبر تهديد لبريطانيا وللامن العالمي) وطرح فكرة بناء تحالف دولي لمواجهة التهديدات الصينية. وهذا الموقف يمثل انعكاسا للموقف الامريكي، الذي يريد، كما الحال مع الازمة الاوكرانية، ان يجعل من اوربا خط الدفاع الاول للمصالح الامريكية. المسألة الاخرى تتمثل في إصرار اللوبي الصهيوني على إكمال ما بدأته تراس في قضية نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة. قبل ان يُنتخب لمنصبه الجديد، قال سوناك امام محافظين اصدقاء لإسرائيل أن هناك “حجة قوية للغاية” لنقل السفارة الى القدس “العاصمة التأريخية لإسرائيل بلا منازع”، لكنه حذر في الوقت نفسه وبطريقة ذكية، من الحساسيات التي يمكن ان يثيرها القرار من معارضين ورافضين له، وانه ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض. وعوضاً عن ذلك قال إنه سيوافق على مشروع قانون لمكافحة حركة المقاطعة وبناء نصب تذكاري (للهولوكست) لتبقى الاجيال تتذكرها؟ وهذا تأكيد بأنه لن يحيد عن سياسة المحافظين والتزامهم بإسرائيل، لكنه لن يندفع في مسألة نقل السفارة. من ناحية أخرى أبدى سوناك أيضاً استعداده للتركيز على برنامج الحكومة لمكافحة الإرهاب وتوسيعه ليشمل كل عمل يساهم في (تشوية سمعة المملكة المتحدة)، وتعهد بالعمل على (إجتثاث اولئك الذين يتحدثون بكراهية عن بلدنا) و (معالجة التطرف الإسلامي) بإعتبارهما تهديدات لبريطانيا. هذا التصريح دفع قائد سابق في الشرطة البريطانية للقول أن هذه الرؤيا ستضر بمصداقية وسمعة بريطانيا لأنه مقترح قد يحرف معنى الارهاب ويحوله الى جرائم فكرية تضر بالامن القومي. علماً ان سوناك قد صوت في عام 2016 بالضد من فتح تحقيقات بشأن الاخبار المضللة التي مهدت لحرب 2003 على العراق. من ناحية أخرى يبدو أن سوناك من مؤيدي فرض وتشديد العقوبات على إيران لإجبارها على توقيع الإتفاق النووي، وإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن المنظمات الإرهابية، وهذا كله أيضا إنسجاما مع الموقف الأمريكي.
بالتأكيد ان رؤية وخبرة سوناك الاقتصادية وحزمة الاصلاحات التي اعدها كانت الاساس في اختياره للمنصب، بحيث وبمجرد الاعلان عن فوزه استعاد مثلاً الجنية الاسترليني قوته في سوق العملات، كما وإعلان تمسكه ببرنامج 2019 لتحسين الصحة والتعليم والامن والبيئة والسيطرة على الهجرة طمأنَ الوضع العام. كما انه لم يخفِ على البريطانيين ان هناك قرارات صعبة في انتظارهم يجب ان يتحملوها، وقد يكون من بينها تخفيض نسبة خطة الدفاع من 3% (كما ارادت تراس) الى 2%، كما ان التوقعات تشير الى أن ذلك قد يفضي الى تخفيض المساعدات المالية لإوكرانيا، وهذا قد يغضب الولايات المتحدة ومؤيدي ضرورة مواجهة روسيا، مع تخفيض المساعدات لباقي دول العالم خاصة في الشرق الأوسط وافريقيا، وهذا ما قد يثير منطمات إنسانية عالمية كثيرة، ولكنه سيحظى بدعم البريطانيين الذين يطمحون الى استعادة دولتهم صفتها (العظمى). والسؤال المهم هو هل ستنجح قرارت سوناك وخطته في اصلاح الوضع الاقتصادي؟ وهل يمتلك البريطانيون الصبر الكافي للتجاوب معه؟ وكيف ستكون ردود افعال المجتمع الدولي الذي هو الاخر يترقب نتائج التغيير في السياسة البريطانية؟ واخيرا هل استقالة تراس السريعة، واختيار البديل الصعب بسرعة ايضاً، ستكون درساً تستفاد منه منطقتنا العربية في اختيار وتشكيل حكوماتها وانتشالها من الغرق في الفساد الاقتصادي والسياسي لتصحيح المسار، بدلا من الاستمرار في متاهة ضياع مستقبل الاجيال القادمة؟
*أكاديمية وكاتبة عراقية
سقوط ليز تراس كان متوقعاً، لكن سرعة حدوثه أصاب البريطانيين بصدمة… رئيس الوزراء البريطاني الجديد رشي سوناك بين الإنكفاء الداخلي والاصرار على لعب دور خارجي ربما لم يعد ممكناً
سقوط ليز تراس كان متوقعاً، لكن سرعة حدوثه أصاب البريطانيين بصدمة… رئيس الوزراء البريطاني الجديد رشي سوناك بين الإنكفاء الداخلي والاصرار على لعب دور خارجي ربما لم يعد ممكناً
د. سوسن إسماعيل العسّاف
للمرة الرابعة خلال ستة اعوام يخسر حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا رئيسه الذي يشغل منصب رئيس الوزراء ايضا. رغم اصرارها على البقاء في الحكم، متحدية بذلك فشلها في اتخاذ الاجراءات المناسبة لاصلاح الوضع الاقتصادي، اضطرت ليز تراس رئيسة الوزراء لاعلان استقالتها، بعد 45 يوماً فقط من تسنمها هذا المنصب، لتكون اول شخصية تقضي اقصر مدة في هذا المنصب على مستوى تاريخ المملكة المتحدة، (قبلها توفى رئيس الوزراء كانيك بصورة مفاجئة عام 1827 بعد 127 يوما من فوزه بذات المنصب). كما انها اتخذت هذا القرار الصعب في اليوم التالي لتصريح لها قالت فيه (بانها مقاتلة) ولن تستقيل بسهولة وستخوض معركة الانتخابات العامة القادمة في 2024، مع اعتذار على الاخطاء التي ارتكبتها والفشل في الايفاء بوعودها الانتخابية وعلى ما يبدو كانت خيالية وليست واقعية. فالميزانية المصغرة التي اعلنتها لتجميد قيمة فواتير الطاقة مع تخفيض الضرائب بطريقة تاتشرية، قد نتج عنها (حسب السكاي نيوز) خسارة 45 مليار جنية مع ارتفاع في قيمة فوائد الاقتراض 7.7% ومعها تم الغاء 1000 صفقة رهان عقاري، مع زعزعة المعاشات التقاعدية لتدفع البنك البريطاني الى شراء سندات حكومية بقيمة 65 مليار دولار لحمايتها، مع انهيار الجنية الاسترليني وزيادة نسبة التضخم العام 10%، مع نسبة ديون عالية للغاية وصلت الى (حسب النيويورك بوست) 98% من الناتج المحلي الاجمالي البالغ 2.4 تريليون جنية استرليني. أما سياسياً فقد تسببت خطتها هذه في زيادة شعبية حزب العمال وتشرذم حزب المحافظين مع فوضى اثبتت ان الاقتصاد الان هو المتحكم الفعلي. حصرت تراس المشكلة ونتائجها الكارثية في ثلاث امور أولها تركة حكومة جونسون الاقتصادية، ثانيها الحرب الاوكرانية وقطع بوتين-روسيا الغاز عن أوروبا، وثالثها وزير ماليتها الذي اقالته، ثم عينت جيرمي هانت بدلا عنه والذي سارع الى طرح إستراتيجية اقتصادية جديدة ركيزتها التقشف. ومع ذلك اخذت استطلاعات الراي العام توضح هبوط شعبية تراس. حتى وجدت نفسها امام ازمات خانقة اقتصادية وسياسية ونفسية سرعت من قرار تقديمها الاستقالة. لم يثر سبب الاستقالة استغراب الجمهور والمراقبين، وانما ما اثار استغرابهم السرعة التي وصلت فيها تراس لهذه القرار، حيث ان اغلبهم كانوا يعتقدون ان استقالتها قد تأخذ مدة اطول، بسبب قوة الاصرار وعنف المواقف التي اتخذتها، ونَفَس المغامرة الذي اظهرته حتى على مستوى السياسة الدولية. ولعل إعلانها أن حكومتها تدرس نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة دليل على ذلك، خصوصاً بعدما عززته بتصريحها بإنها ليست فقط مع دعم، او من اكبر الداعمين لاسرائيل، ولكنها صهيونية من الطراز الاول. الامر الذي جعل منتقديها يتجاهلون هذه المبادرة الإستفزازية، والتي اعادت ذكريات قديمة بخصوص دور بريطانيا في كارثة إغتصاب الاراضي الفلسطينية. وقد يكون طلب تراس من الملك تشارلس الثالث في عدم المشاركة في مؤتمر البيئةCOP27 المزمع عقده في مصر الشهر القادم، على الرغم من ان الملك من المهتمين بهذا الموضوع ، دليل أخر لانه اثار الشكوك الدولية حول احتمالية تراجع بريطانيا عن الوعود التي قطعتها بهذا الشأن في عهد مواجهتها لأزمة اقتصادية عميقة.
السرعة التي تم فيها اختيار سوناك ربما تكون شعور الغالبية في حزب المحافظين بتأنيب الضمير، لانهم فضلوا عليه تراس التي ليس لها تجربة في الاقتصاد، علماً ان سوناك قال لتراس بصورة واضحة اثناء المناظرات التلفزيونية ان الخطط الاقتصادية التي تتحدث عنها لاصلاح الوضع البريطاني خيالية وغير قابلة للتطبيق، (مع الاخذ بالاعتبار العلوية الانكلو-سكسونية خاصة بالنسبة للاعضاء الذين لم يستطيعوا تقبل فكرة ان يكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل من اصول هندية). ولكن الواقعية والحاجة الى (منقذ اقتصادي) على اسس المصلحة العليا للدولة قالت كلمتها في النهاية، وتم تعيين ريشي سوناك كأول رئيس وزراء ملون لبريطانيا، وأغنى واصغر من تسلم هذا المنصب القيادي، وأول رئيس وزراء يكلف من قبل ملكً تشارلس الثالث لتشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من الصورة الديمقراطية التي عكسها النظام السياسي البريطاني بإختيار رئيس الوزراء سوناك، إلا إن جملة انتقادات وجهت له حتى قبل ان يبدأ عمله، ولعل في مقدمتها عدم مساعدته تراس في حل الازمة الاقتصادية مع العلم انه من نفس الحزب الحاكم المنتخب من الاغلبية، كما انه لم يسهم في تعديل مسار حكومة جونسون، وتسببت إستقالته في سوء الاوضاع الاقتصادية التي استطاع (سوناك) تفاديها أثناء ازمة جائحة كورونا، وفضل ان يترك الحكومة في وقت صعب مع الحرب الاوكرانية. الانتقاد الثاني جاء من قبل برلمانيين من حزب العمال والليبراليين الديمقراطيين سبق وان طالبا سوناك (حسب الصحف البريطانية) الاجابة على حصة زوجته في شركة خدمات واستشارات تكنولوجيا المعلومات (انفوسيس) المستمرة في العمل مع روسيا، في الوقت الذي طالب فيه جميع الشركات البريطانية ايقاف التعامل مع روسيا كجزء من العقوبات الاقتصادية. الانتقاد الثالث جاء على لسان العديد من السياسيين والذي مفاده أن سوناك تم تعيينه من قبل اعضاء محددين في حزب واحد داخل البرلمان فقط، ولم يتم انتخابه من قبل الشعب وعليه ان يدعو الى انتخابات عامة ليقول الشعب كلمته بذلك، لكن الحقيقة تقول أن سوناك وصل المنصب بالطريقة الديمقراطية والاسس الدستورية-السياسية المتعارف عليها. اما الأنتقاد الأخير فكان بسبب إصراره على اعادة تعيين وزيرة الداخلية التي سبق وان استقالت من حكومة تراس، سويلا بريفرمان، معتبرين إياها غير كفوءة.
ad
ذكاء سوناك ظهر مبكرا عندما نجح في الاستفادة من اخطاء ليز تراس، وفي مقدمتها انها لم تعتمد على خبراء اقتصاديين من فريق سوناك على اساس انهم داعمين له، بينما ابقى هو العديد من وزراء تراس. بذات المناصب نظرا لكفائتهم ولم يهتم بموالاتهم لها. من ناحية اخرى فلقد اظهر سوناك انه يتمتع بميزتين مطلوبتين: الاولى هي المرونة والهدوء (القوة الناعمة) لمواجهة وحل الكثير من الامور العالقة والمشاكل الداخلية التي تركتها حكومتي جونسون وتراس، وخاصة في مسألة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي فيما يتعلق ببروتوكول ايرلندا الشمالية، (مع العلم انه من المدافعين المتحمسين للخروج من الاتحاد) مع الابقاء على التحالف كأسس للعلاقات. وبالمقابل فانه اظهر الميزة الثانية عبر (المعارضة الشرسة) فيما يخص وحدة المملكة المتحدة، وبالتحديد فيما يتعلق بإجراء استفتاء ثاني حول استقلال اسكتلندة. فقد اعاد ما كرره سابقاً أنه يعد (موضوع الاستفتاء الثاني سخيف ومثير للانقسام وغير ضروري)، وقال “افضل الاشياء التي يمكننا القيام بها هي ان نكون حازمين مع نيكولا ستورجون (الوزيرة الاولى في اسكتلندا) بشأن استفتاء أخر”. علماً ان نيكولا تعتزم اقامة استفتاء ثاني في اكتوبر 2023 المشروط بموافقة المحكمة العليا في المملكة. دوليا هناك امور وقضايا قد تحرج سوناك وقد تتسبب له بمشاكل مستقبلية، اذا اصر على جعلها من اولوياته، منها مثلاىإعتباره الصين (اكبر تهديد لبريطانيا وللامن العالمي) وطرح فكرة بناء تحالف دولي لمواجهة التهديدات الصينية. وهذا الموقف يمثل انعكاسا للموقف الامريكي، الذي يريد، كما الحال مع الازمة الاوكرانية، ان يجعل من اوربا خط الدفاع الاول للمصالح الامريكية. المسألة الاخرى تتمثل في إصرار اللوبي الصهيوني على إكمال ما بدأته تراس في قضية نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة. قبل ان يُنتخب لمنصبه الجديد، قال سوناك امام محافظين اصدقاء لإسرائيل أن هناك “حجة قوية للغاية” لنقل السفارة الى القدس “العاصمة التأريخية لإسرائيل بلا منازع”، لكنه حذر في الوقت نفسه وبطريقة ذكية، من الحساسيات التي يمكن ان يثيرها القرار من معارضين ورافضين له، وانه ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض. وعوضاً عن ذلك قال إنه سيوافق على مشروع قانون لمكافحة حركة المقاطعة وبناء نصب تذكاري (للهولوكست) لتبقى الاجيال تتذكرها؟ وهذا تأكيد بأنه لن يحيد عن سياسة المحافظين والتزامهم بإسرائيل، لكنه لن يندفع في مسألة نقل السفارة. من ناحية أخرى أبدى سوناك أيضاً استعداده للتركيز على برنامج الحكومة لمكافحة الإرهاب وتوسيعه ليشمل كل عمل يساهم في (تشوية سمعة المملكة المتحدة)، وتعهد بالعمل على (إجتثاث اولئك الذين يتحدثون بكراهية عن بلدنا) و (معالجة التطرف الإسلامي) بإعتبارهما تهديدات لبريطانيا. هذا التصريح دفع قائد سابق في الشرطة البريطانية للقول أن هذه الرؤيا ستضر بمصداقية وسمعة بريطانيا لأنه مقترح قد يحرف معنى الارهاب ويحوله الى جرائم فكرية تضر بالامن القومي. علماً ان سوناك قد صوت في عام 2016 بالضد من فتح تحقيقات بشأن الاخبار المضللة التي مهدت لحرب 2003 على العراق. من ناحية أخرى يبدو أن سوناك من مؤيدي فرض وتشديد العقوبات على إيران لإجبارها على توقيع الإتفاق النووي، وإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن المنظمات الإرهابية، وهذا كله أيضا إنسجاما مع الموقف الأمريكي.
بالتأكيد ان رؤية وخبرة سوناك الاقتصادية وحزمة الاصلاحات التي اعدها كانت الاساس في اختياره للمنصب، بحيث وبمجرد الاعلان عن فوزه استعاد مثلاً الجنية الاسترليني قوته في سوق العملات، كما وإعلان تمسكه ببرنامج 2019 لتحسين الصحة والتعليم والامن والبيئة والسيطرة على الهجرة طمأنَ الوضع العام. كما انه لم يخفِ على البريطانيين ان هناك قرارات صعبة في انتظارهم يجب ان يتحملوها، وقد يكون من بينها تخفيض نسبة خطة الدفاع من 3% (كما ارادت تراس) الى 2%، كما ان التوقعات تشير الى أن ذلك قد يفضي الى تخفيض المساعدات المالية لإوكرانيا، وهذا قد يغضب الولايات المتحدة ومؤيدي ضرورة مواجهة روسيا، مع تخفيض المساعدات لباقي دول العالم خاصة في الشرق الأوسط وافريقيا، وهذا ما قد يثير منطمات إنسانية عالمية كثيرة، ولكنه سيحظى بدعم البريطانيين الذين يطمحون الى استعادة دولتهم صفتها (العظمى). والسؤال المهم هو هل ستنجح قرارت سوناك وخطته في اصلاح الوضع الاقتصادي؟ وهل يمتلك البريطانيون الصبر الكافي للتجاوب معه؟ وكيف ستكون ردود افعال المجتمع الدولي الذي هو الاخر يترقب نتائج التغيير في السياسة البريطانية؟ واخيرا هل استقالة تراس السريعة، واختيار البديل الصعب بسرعة ايضاً، ستكون درساً تستفاد منه منطقتنا العربية في اختيار وتشكيل حكوماتها وانتشالها من الغرق في الفساد الاقتصادي والسياسي لتصحيح المسار، بدلا من الاستمرار في متاهة ضياع مستقبل الاجيال القادمة؟
*أكاديمية وكاتبة عراقية
للمرة الرابعة خلال ستة اعوام يخسر حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا رئيسه الذي يشغل منصب رئيس الوزراء ايضا. رغم اصرارها على البقاء في الحكم، متحدية بذلك فشلها في اتخاذ الاجراءات المناسبة لاصلاح الوضع الاقتصادي، اضطرت ليز تراس رئيسة الوزراء لاعلان استقالتها، بعد 45 يوماً فقط من تسنمها هذا المنصب، لتكون اول شخصية تقضي اقصر مدة في هذا المنصب على مستوى تاريخ المملكة المتحدة، (قبلها توفى رئيس الوزراء كانيك بصورة مفاجئة عام 1827 بعد 127 يوما من فوزه بذات المنصب). كما انها اتخذت هذا القرار الصعب في اليوم التالي لتصريح لها قالت فيه (بانها مقاتلة) ولن تستقيل بسهولة وستخوض معركة الانتخابات العامة القادمة في 2024، مع اعتذار على الاخطاء التي ارتكبتها والفشل في الايفاء بوعودها الانتخابية وعلى ما يبدو كانت خيالية وليست واقعية. فالميزانية المصغرة التي اعلنتها لتجميد قيمة فواتير الطاقة مع تخفيض الضرائب بطريقة تاتشرية، قد نتج عنها (حسب السكاي نيوز) خسارة 45 مليار جنية مع ارتفاع في قيمة فوائد الاقتراض 7.7% ومعها تم الغاء 1000 صفقة رهان عقاري، مع زعزعة المعاشات التقاعدية لتدفع البنك البريطاني الى شراء سندات حكومية بقيمة 65 مليار دولار لحمايتها، مع انهيار الجنية الاسترليني وزيادة نسبة التضخم العام 10%، مع نسبة ديون عالية للغاية وصلت الى (حسب النيويورك بوست) 98% من الناتج المحلي الاجمالي البالغ 2.4 تريليون جنية استرليني. أما سياسياً فقد تسببت خطتها هذه في زيادة شعبية حزب العمال وتشرذم حزب المحافظين مع فوضى اثبتت ان الاقتصاد الان هو المتحكم الفعلي. حصرت تراس المشكلة ونتائجها الكارثية في ثلاث امور أولها تركة حكومة جونسون الاقتصادية، ثانيها الحرب الاوكرانية وقطع بوتين-روسيا الغاز عن أوروبا، وثالثها وزير ماليتها الذي اقالته، ثم عينت جيرمي هانت بدلا عنه والذي سارع الى طرح إستراتيجية اقتصادية جديدة ركيزتها التقشف. ومع ذلك اخذت استطلاعات الراي العام توضح هبوط شعبية تراس. حتى وجدت نفسها امام ازمات خانقة اقتصادية وسياسية ونفسية سرعت من قرار تقديمها الاستقالة. لم يثر سبب الاستقالة استغراب الجمهور والمراقبين، وانما ما اثار استغرابهم السرعة التي وصلت فيها تراس لهذه القرار، حيث ان اغلبهم كانوا يعتقدون ان استقالتها قد تأخذ مدة اطول، بسبب قوة الاصرار وعنف المواقف التي اتخذتها، ونَفَس المغامرة الذي اظهرته حتى على مستوى السياسة الدولية. ولعل إعلانها أن حكومتها تدرس نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة دليل على ذلك، خصوصاً بعدما عززته بتصريحها بإنها ليست فقط مع دعم، او من اكبر الداعمين لاسرائيل، ولكنها صهيونية من الطراز الاول. الامر الذي جعل منتقديها يتجاهلون هذه المبادرة الإستفزازية، والتي اعادت ذكريات قديمة بخصوص دور بريطانيا في كارثة إغتصاب الاراضي الفلسطينية. وقد يكون طلب تراس من الملك تشارلس الثالث في عدم المشاركة في مؤتمر البيئةCOP27 المزمع عقده في مصر الشهر القادم، على الرغم من ان الملك من المهتمين بهذا الموضوع ، دليل أخر لانه اثار الشكوك الدولية حول احتمالية تراجع بريطانيا عن الوعود التي قطعتها بهذا الشأن في عهد مواجهتها لأزمة اقتصادية عميقة.
السرعة التي تم فيها اختيار سوناك ربما تكون شعور الغالبية في حزب المحافظين بتأنيب الضمير، لانهم فضلوا عليه تراس التي ليس لها تجربة في الاقتصاد، علماً ان سوناك قال لتراس بصورة واضحة اثناء المناظرات التلفزيونية ان الخطط الاقتصادية التي تتحدث عنها لاصلاح الوضع البريطاني خيالية وغير قابلة للتطبيق، (مع الاخذ بالاعتبار العلوية الانكلو-سكسونية خاصة بالنسبة للاعضاء الذين لم يستطيعوا تقبل فكرة ان يكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل من اصول هندية). ولكن الواقعية والحاجة الى (منقذ اقتصادي) على اسس المصلحة العليا للدولة قالت كلمتها في النهاية، وتم تعيين ريشي سوناك كأول رئيس وزراء ملون لبريطانيا، وأغنى واصغر من تسلم هذا المنصب القيادي، وأول رئيس وزراء يكلف من قبل ملكً تشارلس الثالث لتشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من الصورة الديمقراطية التي عكسها النظام السياسي البريطاني بإختيار رئيس الوزراء سوناك، إلا إن جملة انتقادات وجهت له حتى قبل ان يبدأ عمله، ولعل في مقدمتها عدم مساعدته تراس في حل الازمة الاقتصادية مع العلم انه من نفس الحزب الحاكم المنتخب من الاغلبية، كما انه لم يسهم في تعديل مسار حكومة جونسون، وتسببت إستقالته في سوء الاوضاع الاقتصادية التي استطاع (سوناك) تفاديها أثناء ازمة جائحة كورونا، وفضل ان يترك الحكومة في وقت صعب مع الحرب الاوكرانية. الانتقاد الثاني جاء من قبل برلمانيين من حزب العمال والليبراليين الديمقراطيين سبق وان طالبا سوناك (حسب الصحف البريطانية) الاجابة على حصة زوجته في شركة خدمات واستشارات تكنولوجيا المعلومات (انفوسيس) المستمرة في العمل مع روسيا، في الوقت الذي طالب فيه جميع الشركات البريطانية ايقاف التعامل مع روسيا كجزء من العقوبات الاقتصادية. الانتقاد الثالث جاء على لسان العديد من السياسيين والذي مفاده أن سوناك تم تعيينه من قبل اعضاء محددين في حزب واحد داخل البرلمان فقط، ولم يتم انتخابه من قبل الشعب وعليه ان يدعو الى انتخابات عامة ليقول الشعب كلمته بذلك، لكن الحقيقة تقول أن سوناك وصل المنصب بالطريقة الديمقراطية والاسس الدستورية-السياسية المتعارف عليها. اما الأنتقاد الأخير فكان بسبب إصراره على اعادة تعيين وزيرة الداخلية التي سبق وان استقالت من حكومة تراس، سويلا بريفرمان، معتبرين إياها غير كفوءة.
ad
ذكاء سوناك ظهر مبكرا عندما نجح في الاستفادة من اخطاء ليز تراس، وفي مقدمتها انها لم تعتمد على خبراء اقتصاديين من فريق سوناك على اساس انهم داعمين له، بينما ابقى هو العديد من وزراء تراس. بذات المناصب نظرا لكفائتهم ولم يهتم بموالاتهم لها. من ناحية اخرى فلقد اظهر سوناك انه يتمتع بميزتين مطلوبتين: الاولى هي المرونة والهدوء (القوة الناعمة) لمواجهة وحل الكثير من الامور العالقة والمشاكل الداخلية التي تركتها حكومتي جونسون وتراس، وخاصة في مسألة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي فيما يتعلق ببروتوكول ايرلندا الشمالية، (مع العلم انه من المدافعين المتحمسين للخروج من الاتحاد) مع الابقاء على التحالف كأسس للعلاقات. وبالمقابل فانه اظهر الميزة الثانية عبر (المعارضة الشرسة) فيما يخص وحدة المملكة المتحدة، وبالتحديد فيما يتعلق بإجراء استفتاء ثاني حول استقلال اسكتلندة. فقد اعاد ما كرره سابقاً أنه يعد (موضوع الاستفتاء الثاني سخيف ومثير للانقسام وغير ضروري)، وقال “افضل الاشياء التي يمكننا القيام بها هي ان نكون حازمين مع نيكولا ستورجون (الوزيرة الاولى في اسكتلندا) بشأن استفتاء أخر”. علماً ان نيكولا تعتزم اقامة استفتاء ثاني في اكتوبر 2023 المشروط بموافقة المحكمة العليا في المملكة. دوليا هناك امور وقضايا قد تحرج سوناك وقد تتسبب له بمشاكل مستقبلية، اذا اصر على جعلها من اولوياته، منها مثلاىإعتباره الصين (اكبر تهديد لبريطانيا وللامن العالمي) وطرح فكرة بناء تحالف دولي لمواجهة التهديدات الصينية. وهذا الموقف يمثل انعكاسا للموقف الامريكي، الذي يريد، كما الحال مع الازمة الاوكرانية، ان يجعل من اوربا خط الدفاع الاول للمصالح الامريكية. المسألة الاخرى تتمثل في إصرار اللوبي الصهيوني على إكمال ما بدأته تراس في قضية نقل السفارة البريطانية الى القدس المحتلة. قبل ان يُنتخب لمنصبه الجديد، قال سوناك امام محافظين اصدقاء لإسرائيل أن هناك “حجة قوية للغاية” لنقل السفارة الى القدس “العاصمة التأريخية لإسرائيل بلا منازع”، لكنه حذر في الوقت نفسه وبطريقة ذكية، من الحساسيات التي يمكن ان يثيرها القرار من معارضين ورافضين له، وانه ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض. وعوضاً عن ذلك قال إنه سيوافق على مشروع قانون لمكافحة حركة المقاطعة وبناء نصب تذكاري (للهولوكست) لتبقى الاجيال تتذكرها؟ وهذا تأكيد بأنه لن يحيد عن سياسة المحافظين والتزامهم بإسرائيل، لكنه لن يندفع في مسألة نقل السفارة. من ناحية أخرى أبدى سوناك أيضاً استعداده للتركيز على برنامج الحكومة لمكافحة الإرهاب وتوسيعه ليشمل كل عمل يساهم في (تشوية سمعة المملكة المتحدة)، وتعهد بالعمل على (إجتثاث اولئك الذين يتحدثون بكراهية عن بلدنا) و (معالجة التطرف الإسلامي) بإعتبارهما تهديدات لبريطانيا. هذا التصريح دفع قائد سابق في الشرطة البريطانية للقول أن هذه الرؤيا ستضر بمصداقية وسمعة بريطانيا لأنه مقترح قد يحرف معنى الارهاب ويحوله الى جرائم فكرية تضر بالامن القومي. علماً ان سوناك قد صوت في عام 2016 بالضد من فتح تحقيقات بشأن الاخبار المضللة التي مهدت لحرب 2003 على العراق. من ناحية أخرى يبدو أن سوناك من مؤيدي فرض وتشديد العقوبات على إيران لإجبارها على توقيع الإتفاق النووي، وإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن المنظمات الإرهابية، وهذا كله أيضا إنسجاما مع الموقف الأمريكي.
بالتأكيد ان رؤية وخبرة سوناك الاقتصادية وحزمة الاصلاحات التي اعدها كانت الاساس في اختياره للمنصب، بحيث وبمجرد الاعلان عن فوزه استعاد مثلاً الجنية الاسترليني قوته في سوق العملات، كما وإعلان تمسكه ببرنامج 2019 لتحسين الصحة والتعليم والامن والبيئة والسيطرة على الهجرة طمأنَ الوضع العام. كما انه لم يخفِ على البريطانيين ان هناك قرارات صعبة في انتظارهم يجب ان يتحملوها، وقد يكون من بينها تخفيض نسبة خطة الدفاع من 3% (كما ارادت تراس) الى 2%، كما ان التوقعات تشير الى أن ذلك قد يفضي الى تخفيض المساعدات المالية لإوكرانيا، وهذا قد يغضب الولايات المتحدة ومؤيدي ضرورة مواجهة روسيا، مع تخفيض المساعدات لباقي دول العالم خاصة في الشرق الأوسط وافريقيا، وهذا ما قد يثير منطمات إنسانية عالمية كثيرة، ولكنه سيحظى بدعم البريطانيين الذين يطمحون الى استعادة دولتهم صفتها (العظمى). والسؤال المهم هو هل ستنجح قرارت سوناك وخطته في اصلاح الوضع الاقتصادي؟ وهل يمتلك البريطانيون الصبر الكافي للتجاوب معه؟ وكيف ستكون ردود افعال المجتمع الدولي الذي هو الاخر يترقب نتائج التغيير في السياسة البريطانية؟ واخيرا هل استقالة تراس السريعة، واختيار البديل الصعب بسرعة ايضاً، ستكون درساً تستفاد منه منطقتنا العربية في اختيار وتشكيل حكوماتها وانتشالها من الغرق في الفساد الاقتصادي والسياسي لتصحيح المسار، بدلا من الاستمرار في متاهة ضياع مستقبل الاجيال القادمة؟
*أكاديمية وكاتبة عراقية
506 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع