د. جابر أبي جابر
انقلاب أكتوبر المسلح والإطاحة بالحكومة المؤقتة
في 24 تشرين1/أكتوبر عام 1917 قررت اللجنة المركزية لحزب البلاشفة التحرك الاطاحة بالحكومة المؤقتة واستدعاء لينين من مخبأه في بتروغراد إلى مقر قيادة الحزب في قصر سمولني. غير أنه لم يطق الانتظار فتوجه من حي فيبورسكايا إلى هناك بالترام مع مرافقه الفنلندي اينو راهيا، وكان متنكراً وحليق الذقن. وحتى تلك اللحظة لم يكن أحد يلاحظ الصراع الدائر لاستحواذ العاصمة الذي كان، في واقع الأمر، صراعاً من أجل بسط السيطرة على البلد بأكمله. وقد جرى بمشاركة 7 آلاف من أنصار البلاشفة منهم 2500 جندي والعدد نفسه من بحارة كروتشتادت وحوالي ألفين من الحرس الأحمر، وذلك في مواجهة بضع مئات من المدافعين عن الحكومة المؤقتة. أما الحامية العسكرية الضخمة لبتروغراد فقد وقفت على الحياد ولم تتدخل في سير الأحداث. وفي الساعة الثالثة والنصف فجراً ألقى الطراد" أفرورا" مرساته عند جسر"نيكولايفسكي"، الذي استولى البحارة عليه بعد أن طردوا أفراد الدورية التابعة للحكومة المؤقتة. وعلى هذا النحو أصبح القصر الشتوي، الذي تعقد الحكومة جلساتها فيه، منعزلاً عن المدينة. وكانت الأسرة القيصرية قد انتقلت نهائياً في عام 1915 إلى تسارسكويه سيلو بضواحي العاصمة وجرى استخدام القاعات الكبيرة للقصر من أجل إيواء الجرحى والمرضى العسكريين.
- اقتحام القصر الشتوي
في صباح 25 تشرين الأول/أكتوبر عام1917 شرعت فصائل صغيرة من الحرس الأحمر بالاستيلاء على المواقع الرئيسية في بتروغراد مثل مبنى التلغراف ومحطات القطارات ومحطة توليد الكهرباء ومخازن المواد الغذائية وبنك الدولة ومركز البريد ومبنى الإذاعة. وقد بدت هذه "العمليات العسكرية" شبيهة بإجراء "تبديل الحرس" إذ أنها لم تشهد أي مقاومة تذكر.
وفي البداية كان البلاشفة في حالة تردد بخصوص اقتحام مقر الحكومة المؤقتة الكائن في القصر الشتوي على الرغم من أن القوى التابعة للحكومة كانت ضعيفة. ويعود هذا التردد إلى عدم مشاركة العمال وحامية بتروغراد في الانتفاضة. وبالإضافة إلى ذلك لم يحرك ساكناً أفراد الحرس الأحمر المرابطين في ضاحية فيبورغ والبالغ عددهم 10 آلاف مقاتل. أما عمال مصنع بوتيلوفسكي، الذين زعم البلاشفة أن من بينهم 1500 مسلح منظم من الحرس الأحمر، فلم يشارك منهم سوى 80 عاملاً.
وبحلول وقت الظهيرة كانت دوريات البلاشفة قد استولت على المواقع المفصلية المذكورة أعلاه. أما كيرنسكي فقد غادر بتروغراد في حوالي الساعة الحادية عشر صباحاً دون أن يترك تعليماته لأعضاء الحكومة، الذين لم يتخذوا فيما بعد أي قرار للدفاع عن معقلهم الأخير وخاصة بالنسبة لتحصيل الذخيرة والمواد الغذائية. وآنذاك لم يبق لدى كيرنسكي تقريباً قوات وفية للحكومة المؤقتة. كما أن أحد قادة الجبهة الشمالية فلاديمير تشيريميسوف انتقل إلى صفوف البلاشفة.
ومع ذلك انضم في النصف الأول من النهار إلى طلاب الكليات الحربية المدافعين عن القصر بعض وحدات كتيبة النساء وفصيلة القوزاق حاملي الرشاشات المؤلفة من 200 نفر وكذلك بطارية المدفعية التابعة لمدرسة المدفعية وبعض المتطوعين. وبينما كانت الحكومة تنتظر تعزيزات جديدة من قوات القوزاق انسحب حاملو الرشاشات، الذين سبق أن أرسلتهم قيادة قوات القوزاق في بتروغراد بناء على الاتفاق، الذي توصلت إليه مع كيرنسكي لدى زيارته لموقعها في 17 أكتوبر، حيث وعد رئيس الحكومة المؤقتة بتلبية شروط القوزاق من أجل دعمه في الوقوف ضد تحركات البلاشفة وسحقهم. ولكن لدى اقتناعهم بعدم نية كيرنسكي تلبية مطالبهم قرروا سحب حاملي الرشاشات المئتين والإحجام عن إرسال قوات إضافية لحماية الحكومة المؤقتة.
وما أن حل المساء حتى تقلص، إلى حد كبير، عدد المدافعين عن القصر الشتوي نظراً لهبوط معنوياتهم وانعدام المواد الغذائية هناك. وفي هذا الوقت انسحب طلاب مدرسة المدفعية بناء على أوامر قائدهم. وقد رفض جزء منهم تنفيذ أوامره. كما خرجت من ساحة القصر مصفحات الحكومة المؤقتة نظراً لعدم توفر البنزين.
وفي الساعة السادسة والنصف جاء فلاديمير أنطونوف- أوفسيينكو قادما من قلعة بطرس وبولس ووجه إنذاراً إلى الحكومة المؤقتة بالاستسلام وتجريد المدافعين عن القصر من السلاح. كما هدد في حال الرفض بقصف مقر الحكومة من طراد أفرورا وقلعة بطرس وبولس.
وقد رمى الطراد "أفرورا" طلقة خلبية أعطى من خلالها الإشارة للجنود المرابطين في قلعة بطرس وبولس بقصف القصر الشتوي بالمدفعية حيث جرى إطلاق حوالي 30 قذيفة. ولكن لم تصب الهدف سوى ثلاثة منها. وعانى من هذا القصف بصورة رئيسية الجرحى والمرضى العسكريين الراقدين في مهاجع المستشفى القائمة في قاعات القصر الكبيرة. وأسفر ذلك عن جرح العشرات منهم حسب بعض الروايات. ولا توجد حتى الآن معلومات أو إحصائيات دقيقة بهذا الخصوص. فثمة روايات أخرى تنفي حدوث إصابات بين نزلاء المستشفى العسكري في القصر الشتوي.
لم يجر في واقع الأمر اقتحام جماهيري جارف للقصر الشتوي ولم تحدث عملياً اشتباكات مسلحة بين الجانبين حيث اقتصر الأمر على مناوشات خاملة. وقد استطاع المهاجمين آنذاك التسلل إلى القصر عبر بواباته الخلفية وتجريد المدافعين من السلاح. ويختلف ذلك تمام الاختلاف عن اللقطات الشهيرة من فيلم "أكتوبر" الدعائي الصامت للمخرج ايزنشتاين (1927)، التي ترسخت في الوعي الاجتماعي السوفيتي حيث نرى سيلاً جارفاً من الحشود الجماهيرية المندفعة نحو القصر الشتوي.
وفي حوالي الساعة الثانية ليلاً تسنى لأنطونوف – أوفسيينكو ومجموعته التغلغل إلى القصر الشتوي واعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة. وقد تمت السيطرة الكاملة على القصر دون وقوع أي اشتباكات تذكر بين المهاجمين والمدافعين، الذين انسحب قسم كبير منهم قبل الهجوم بينما استسلم القسم الآخر. وعقب ذلك شهد مقر القياصرة الروس الفخم بلوحاته الفنية وتحفه النفيسة أعمال نهب وسلب وتخريب عبثي لا حصر لها.
ولم يجد كيرنسكي ضمن قوات الجيش وحدات عسكرية مستعدة لنجدته سوى فيلق الخيالة الثالث بقيادة الجنرال كراسنوف، الذي انتهى زحفه على بتروغراد في 27-30 أكتوبر بالفشل الذريع. وكما ذكر آنفاً فإن موقف معظم الضباط والقادة العسكريين من كيرنسكي تغير تماماً عقب تمرد الجنرال كورنيلوف واعتقاله مع رفاقه من كبار ضباط القوات المسلحة الروسية. كما أن القوزاق اتهموا الحكومة المؤقتة بالتواطؤ مع البلاشفة خلال سحق تمرد كورنيلوف وعدم إعادة الاعتبار لأتمان قوات قوزاق الدون الجنرال ألكسي كاليدين. وبهذا الصدد أشار مؤرخ الثورة الروسية المعروف ميلغونوف إلى أن رفض القوزاق سحق انتفاضة البلاشفة ألحق بروسيا مأساة فظيعة (سيرغي ميلغونوف. كيف استولي البلاشفة على السلطة. موسكو. دار نشر"ايريس- بريس،2007. ص. 148).
- المؤتمر الثاني لسوفيتات العمال والجنود لعموم روسيا
اختلف المؤتمر الثاني لسوفيتات العمال والجنود من حيث القوام الحزبي اختلافاً شديداً عن المؤتمر الأول. ففي خريف عام 1917 تسنى للبلاشفة تأمين الأكثرية في سوفيتات العمال والجنود وخاصة ببتروغراد وموسكو وكذلك في اللجان القاعدية لجنود وبحارة أسطول البلطيق وجبهات الشمال. أما بالنسبة لسوفيتات الفلاحين فإن نجاحات البلاشفة كانت متواضعة جداً حيث لم يكن لهم كتلهم الخاصة في أكثر من نصف السوفيتات المذكورة.
وقد جاءت بلشفة السوفيتات على خلفية احتدام الوضع السياسي والعسكري واعتقال كورنيلوف مع مجموعة من القادة العسكريين. وبعد فترة من المماطلة والتسويف حددت الحكومة المؤقتة برئاسة كيرنسكي موعد انتخابات الجمعية التأسيسية في 12 تشرين 2/نوفمبر عام 1917 على أن تعقد الجلسة الأولى في 28 من الشهر نفسه. وكان لينين يدرك تمام الإدراك أن الأغلبية الفلاحية ستصوت للاشتراكيين الثوريين وأن البلاشفة لن ينالوا أكثر من ربع الأصوات. كما أن تقدم الألمان في مطلع تشرين 1/أكتوبر أصبح يشكل خطراً على بتروغراد نفسها. وهذه الظروف مجتمعة دفعت الزعيم البلشفي إلى الإصرار على الإسراع بعقد المؤتمر رغم أن الهيئة التنفيذية المركزية لم توافق على ذلك وقررت تأجيل المؤتمر من 17 إلى 25 أكتوبر. وأثناء التحضير له نشبت خلافات بين لينين وتروتسكي حيث أكد الأخير على ضرورة تأجيل الانتفاضة المسلحة إلى ما بعد انعقاد المؤتمر، بينما كانت لدى لينين اعتبارات هامة تدفعه لاقناع القيادة الحزبية في القيام بعكس ذلك. فإن الشروع بالانتفاضة المسلحة قبل انعقاد المؤتمر لا بد ، حسب تقديره، أن يثير استياء جميع المندوبين غير البلاشفة ويدفعهم إلى الانسحاب منه مما سيطلق لجماعة لينين الحرية التامة في اتخاذ كافة القرارات التي تلائمهم. وهذا ما حصل بالضبط. ومع ذلك يرى العديد من المؤرخين أن السبب الرئيسي، الذي دفع لينين إلى مناشدة اللجنة المركزية إلى الإسراع بالانتفاضة، يكمن في اعتزام الحكومة المؤقتة توقيع صلح منفرد مع النمسا وبلغاريا والدولة العثمانية في 8-9 تشرين 2/نوفمبر. وقد أكد كيرنسكي بنفسه هذا التفسير في مقابلة أجراها معه راديو كندا في عام 1964، وأشار رئيس الحكومة المؤقتة إلى أن بارفوس أبلغ لينين بهذا الأمر حيث علم به عن طريق المسؤولين الألمان المقرب منهم.
وبينما كانت تجري الاستعدادات من جانب البلاشفة لاقتحام القصر الشتوي ببتروغراد انعقد في الساعة 22 و45 دقيقة من مساء 25 أكتوبر بقصر "سمولني" مؤتمر سوفيتات العمال والجنود الثاني لعموم روسيا، الذي ضم 649 مندوباً منهم 390 عن البلاشفة و160 عن الاشتراكيين الثوريين و72 عن المناشفة وعشرات المندوبين الممثلين للبونديين والمجموعات السياسية الصغيرة وغير الحزبيين. ولم يشارك في هذا المؤتمر نواب سوفيتات الفلاحين الذين كانوا يمثلون أكثر من ثلاثة أرباع السكان.
وقد افتتح المؤتمر المنشفي فيدور دان بوصفه القائم بأعمال رئيس الهيئة التنفيذية المركزية لعموم روسيا، وهي الهيئة الدائمة للسوفيتات، وترأس جلساتها البلشفي ليف كامنيف. أما لينين فلم يكن حاضراً في قاعة المؤتمر وإنما كان يجلس قريباً في إحدى غرف "سمولني"، ويدعو الرفاق إلى الإسراع في الاستيلاء على القصر الشتوي واعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة. وكان المنشفي يوليوس مارتوف في مقدمة الخطباء حيث طالب بأن يسعى المؤتمر، قبل كل شيء، إلى تسوية الأزمة السياسية بالطرق السلمية ويعمد إلى حل إشكالية السلطة. ولهذه الغاية اقترح وقف الأعمال القتالية ثم الشروع في مفاوضات حول تأليف حكومة ديمقراطية ائتلافية مقبولة لدى كافة القوى الديمقراطية. وقد دعم اقتراح مارتوف ممثل النواب الاشتراكيين الثوريين اليساريين سيرغي مستيسلافسكي. كما أعلن البلشفي أناتولي لوناتشارسكي، الذي اعتلى المنبر، أنه ليس لدى كتلة البلاشفة أي اعتراض على اقتراح مارتوف. وفي هذه اللحظة طرح كامنيف ذلك الاقتراح على التصويت فتم قبوله بالاجماع وسط تصفيق حار من جانب القاعة بأكملها. وأثناء ذلك كان المؤتمر قاب قوسين أو ادنى من تشكيل حكومة سوفيتية متعددة الأحزاب.
ولكن بعد قليل احتدم الجو السياسي للمؤتمر حينما تحدث أمام المندوبين باسم "مجموعة الجبهة" المندوبان المنشفيان ياكوف خاراش وغيورغي كوتشين (أورانسكي) ثم أدلى بتصريحاتهما كل من المنشفي ليف خنتشوك والاشتراكي الثوري اليميني ميخائيل غيندلمان واقترحا إجراء مفاوضات مع الحكومة المؤقتة حول تشكيل سلطة تستند إلى كافة شرائح القوى الديمقراطية. وقد أعلن هؤلاء أن كتلتيهما قررتا الانسحاب من المؤتمر احتجاجاً على المؤامرة والانتفاضة المسلحة. كما أطلق تصريحات مماثلة عدد من النواب البونديين وعقب ذلك خرج من القاعة النواب المناشفة والاشتراكيون الثوريون والبونديون وممثلو قوى سياسية اخرى. ورغم أن مارتوف استمر في الإصرار على اقتراحه إلا أن النواب اتخذوا تحت تأثير البلاشفة المتشددين القرار، الذي طرحه تروتسكي، حول انتقال السلطة كلها إلى السوفيتات التي يُناط بها ضمان النظام الثوري.
وبعد فترة الاستراحة أعلن للنواب عن نجاح البلاشفة في اقتحام القصر الشتوي واعتقال وزراء الحكومة المؤقتة. واستُقبل هذا الخبر بعاصفة من التصفيق. وفي صباح 26 تشرين 1/ أكتوبر صادق المؤتمر على نداء لينين "إلى العمال والجنود والفلاحين" واختتمت الجلسة الأولى في الساعة الخامسة والربع من صباح يوم 26 أكتوبر.
أما الجلسة الثانية فقد بدأت في الساعة التاسعة مساء يوم 26 أكتوبر. وتضمن جدول الأعمال بحث مسألة السلام والأرض. وقد أقر المؤتمر دون بحث أونقاش وثيقتين تاريخيتين تلاهما لينين بنفسه وهما - "مرسوم السلام"، الذي تضمن نداء إلى شعوب وحكومات الدول المتحاربة للشروع فوراً بمفاوضات لإبرام سلام عادل بدون ضم أراضي الغير ودفع التعويضات، و"مرسوم الأرض" القاضي بمصادرة أراضي الإقطاعيين وكبار الملاكين الآخرين والكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وفي الساعة الرابعة من صباح 27 أكتوبر تبنى المؤتمر الاقتراح الخاص بتنظيم السلطة حيث تقرر تشكيل حكومة بلشفية برئاسة لينين سُمّيت بمجلس مفوضي الشعب وأصبح الوزراء يسمَّون بمفوضي الشعب.
وضمت الحكومة البلشفية الأولى كلاً من:
فلاديمير أنطونوف – أفسيينكو وبافيل ديبينكو ونيكولاي كريلنكو للحربية والأسطول البحري
ألكسي ريكوف للداخلية
ليون تروتسكي (ليبا برونشتين) للخارجية
غيورغي أبوكوف (لوموف)
الكسندر شلابنيكوف للعمل
الكسندرا كولونتاي للشؤون الاجتماعية
نيكولاي أفيلوف (غليبوف) للبريد والتلغراف
أناتولي لوناتشارسكي للمعارف
جوزيف ستالين لشؤون القوميات
ايفان سكفورتسوف (ستيبانوف) للمالية
فلاديمير ميلوتين للزراعة
فكتور نوغين للتجارة والصناعة
ايفان تيودوروفتش لشؤون المواد الغذائية
ادوارد ايسين للرقابة الحكومية
في اليوم التالي للانتفاضة البلشفية كتبت صحف بتروغراد أن "المغامرة البلشفية" مجرد "فقاعة صابون" ستتلاشى قريباً. ولم يخطر ببال أحد آنذاك أن هذه الانتفاضة ستحدد مسيرة التاريخ العالمي في القرن العشرين.
يرى المؤرخان ميخائيل غيللر والكسندر نيكريتش في كتابهما "الطوباوية في السلطة" أن نيكولاي بردياييف لم يكن على صواب حينما اعتقد أن البلشفية "كانت أقل طوباوية وأكثر واقعية وملائَمةً للوضع القائم بروسيا في عام 1917". فقد انتصرت الثورة الشيوعية بسهولة لأنها كانت تقدم للجميع الوعود الطوباوية المزمع تنفيذها على الفور. ويبدو أن مظهر الحقيقة، كما يقول الفيلسوف الإسباني ميغيل دي أونامو، مخيف ولهذا يحتاج الشعب إلى الأساطير والأوهام والخداع. فالحقيقة في اعتقاده شيء لا يطاق ومثير للهلع بل ومميت. ويؤكد المؤرخان المذكوران على أن البلاشفة قدموا وهْم "الخبز والأرض والسلام" بينما تجلى الواقع في حرب جديدة فظيعة شملت كافة أنحاء البلاد، وفي مصادرة الحبوب من الفلاحين، وانتشار المجاعات، وعربدة إرهاب حكومي لانظير له ضد شتى فئات السكان ووقوع ملايين الضحايا البشرية.
قبيل انقلاب أكتوبر عكف لينين المختبئ في فنلندا على وضع مشروع لإعادة بناء روسيا فقام بتأليف طوباويته تحت عنوان "الدولة والثورة" وذلك انطلاقاً من "تعاليم ماركس وإنجلس" واستناداً إلى تجربة كومونة باريس. وحسب اعتقاده لا مكان في هذه الدولة الجديدة للشرطة والجيش، وسيكون الموظفون منتخبين، وستصبح وظائف إدارة الدولة سهلة، إلى حد كبير، بحيث يستطيع أي شخص القيام بذلك حتى الطباخة، ولن يتجاوز راتب الموظف أجرة العامل المؤهل. ويعترف لينين بأن انتصار البروليتاريا لن يعني الإنشاء الفوري للمجتمع الشيوعي، إذ يحتاج الأمر إلى مرحلة انتقالية معينة تشغل فيها دكتاتورية البروليتاريا مكان الدولة البرجوازية وذلك "ليس لمصلحة الحرية وإنما من أجل تحطيم الأعداء". ولدى دكتاتورية البروليتاريا وظيفتان هما : "سحق مقاومة الطبقات المستغِلة وقيادة الجماهير الشعبية". وقد بدت المهمة الأولى للينين بسيطة جداً حيث أن قمع الأقلية البسيطة للمستغِلّين يجري من قبل الأغلبية الساحقة من السكان أي الشعب الكادح. كما أن المهمة الثانية لم تكن صعبة، إذ على الشغيلة "أن تخضع للطليعة المسلحة حتى تتعلم الالتزام بأبسط شروط العيش المشترك".
وهكذا فإن الثورة قد تمت أخيراً. ولكن في البداية لم يلحظ أحد هذا الحدث سواء أهالي بتروغراد ،الذين كانوا يملأون صالات المسارح ودور السينما والمطاعم ويستمعون إلى شتى المحاضرات الفلسفية والأدبية والسياسية، أو أعضاء الحكومة المؤقتة، الذين لم يلاحظوا أن السلطة قد أفلتت من أيديهم. أما البلاشفة فهم، بدورهم، لم يدركوا تمام الإدراك أن السلطة أصبحت في متناولهم.
عشية أحداث أكتوبر أشار غوركي في صحيفة "نوفايا جيزن" (الحياة الجديدة)، التي كان يقوم بتحريرها في بتروغراد، إلى أنه "لا مكان للثورة الاجتماعية بروسيا في ظل الظروف الراهنة، إذ ليس من المعقول أن نجعل بجرة قلم 85 بالمائة من أهالي البلد الفلاحين وأمثالهم مواطنين مؤمنين بالعقيدة الاشتراكية. زد على ذلك أنه يوجد ضمن السكان ملايين من الأقوام الرحل غير الروس، الذين يعيشون في ظروف ما قبل الإقطاعية ". وعقب الثورة البلشفية كتب غوركي في صحيفته قائلا : "ينبغي على الطبقة العاملة الروسية أن تفهم بوضوح أن لينين يقوم بتجاربه على أجساد العمال ودمائهم. فهو يعمل كباحث كيميائي، ولكن بفارق واحد وهو أن الكيميائي يستخدم في تجاربه المادة الجامدة الميتة ويعطي عمله نتائج مفيدة لحياة الناس، بينما يجري لينين تجاربه على أناس أحياء ويقود الثورة نحو الهلاك المحتوم. ولهذا ينبغي على العمال السائرين وراء لينين أن يدركوا تمام الإدراك أن الطبقة العاملة تخضع لتجربة قاسية ستؤدي إلى إبادة خيرة قواها وصفوة ممثليها وستوقف لفترات طويلة التطور الطبيعي للثورة الروسية". وبعد عدة أشهر من صدور هذه المقالة أقدمت السلطات البلشفية على إغلاق جامعة شانيافسكي الشعبية بحجة رواج "آراء مغايرة" في أوساط المدرسين. وقد كان رد فعل غوركي على هذا الحدث عنيفاً حيث كتب يقول في صحيفته المذكورة : "لم يكن في وسعنا أن نتوقع شيئاً آخر من سلطة تخشى النور والعلنية، سلطة جبانة ومعادية للديمقراطية. إنها تقوم باضطهاد العمال وتبعث بحملات تأديبية إلى المناطق الريفية لقمع حركات وانتفاضات الفلاحين.... لقد أصيب لينين وتروتسكي وأعوانهما بعدوى السلطة المُهلِكة. ويشهد على ذلك موقفهم المشين من حرية التعبير ومجمل الحريات العامة، التي ناضلت القوى الديمقراطية في روسيا من أجلها طيلة عقود عديدة. ويلاحظ أن المتعصبين العميان والمغامرين الطائشين، الذين فقدوا ضمائرهم، يندفعون نحو ما يسمى بطريق الثورة الاجتماعية. إنه، في واقع الأمر، طريق الفوضى الذي سيؤدي إلى هلاك البروليتاريا وانتكاسة الثورة ".(مكسيم غوركي. "أفكار سابقة لأوانها"، موسكو، دار نشر "آزبوكا- كلاسيكا".2008).
ومن جهة أخرى لم يقف البلاشفة مكتوفي الأيدي إزاء الانتقادات اللاذعة لممارساتهم السياسية من جانب شخصية كبيرة كغوركي. فقد بدأت تظهر على صفحات البرافدا وبعض الصحف البلشفية الأخرى مقالات ومواد عديدة تتضمن اتهامات مباشرة لغوركي بأن صحيفته باعت نفسها للإمبرياليين والإقطاعيين وأصحاب البنوك والبرجوازيين. وقد كانت لهجة هذه المقالات مهينة جداً بالنسبة للكاتب الذي كان اسمه رمزاً للثورة الاشتراكية ليس في روسيا وحدها فحسب بل وفي العالم أجمع.
أما بليخانوف فقد عارض بدوره ثورة أكتوبر معتبراً روسيا بمستوى تطورها الاقتصادي الاجتماعي آنذاك غير مؤهلة للثورة الاشتراكية. وقد حذر من أن الاستيلاء على السلطة من قبل طبقة بمفردها أو الأنكى من ذلك من قبل حزب واحد لا بد أن يؤدي إلى عواقب وخيمة. وقد نشر في صحيفته "يدينستفو" (الوحدة) يوم 28 أكتوبر رسالة مفتوحة إلى عمال بتروغراد أشار فيها إلى أن الثورة الاشتراكية سابقة لأوانها إذ أن البروليتاريا تشكل أقلية في البلد وهي ليست جاهزة لمهمة من هذا النوع وأكد قائلاً: "لا تزال طبقتنا العاملة بعيدة عن إمكانية استلام كامل مقاليد السلطة السياسية بحيث تكون مفيدة لنفسها وللبلد. وإن فرض سلطة كهذه عليها يعني دفعها نحو مصيبة تاريخية كبرى لها ولروسيا بأجمعها".
وكان بليخانوف يعارض المزج بين الثورة، التي تطيح بالملكية المطلقة، والثورة الاجتماعية. فهو ضد الاستيلاء الثوري الاشتراكي على السلطة أي ما حدث في أكتوبر إذ ينبغي، حسب اعتقاده، انتظار الثورة الاجتماعية حتى تنضج الظروف الملائمة لها. وكان يرى أن تحرير العمال يجب أن يكون قضية العمال أنفسهم وليس مهمة حلقة ثورية. كما أن ذلك على حد قوله يتطلب زيادة عدد العمال الصناعيين وتطور مستوى وعيهم بالإضافة إلى توفر صناعة متطورة. وأكد بليخانوف على أن الدكتاتورية لن تستطيع أن تفعل شيئاً طالما الطبقة العاملة غير جاهزة للثورة. كما أشار إلى الطابع الرجعي للمشاعية الفلاحية المعرقلة للتطور الاقتصادي وأعلن عن ضرورة الاستناد إلى العملية المجتمعية الموضوعية. وبالتالي فهو لم يقبل ثورة أكتوبر لأنه كان دائماً يعارض الاستيلاء على السلطة قبل أن يتم إعداد القوة والوعي اللازمين. فالمسألة تحتاج إلى وعي مثورن وليس لحركة عفوية وينبغي أن ينبثق هذا الوعي، حسب قوله، من الطبقة العاملة نفسها وليس من أقلية حزبية منظمة.
وفي وصيته السياسية، التي كتبها قبيل وفاته، أشار بليخانوف إلى أن الخطأ الأكبر ،الذي ارتكبه في حياته، تجلى في عدم تقديره حق تقدير للينين وأضاف قائلاً : " إنني لم ألق بالاً إلى أهدافه وطموحاته المتطرفة. وكنت أنظر بتسامح وسخرية إلى غلوه. وقد قدمت له كل العون اللازم وأدخلته إلى دائرة الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين المعروفين ورعيته مما أتاح له أن يقف على قدميه. وكنت أظن آنذاك أنه سيكون بوسعي، مع مرور الوقت، تخفيف تطرف مواقفه وفي الوقت نفسه التأثير على مارتوف في الاتجاه المرغوب. وبهذا أحافظ على وحدة الحزب. ولكنني سرعان ما أدركت أن الوحدة مستحيلة إذ أن كل ما لا يوافق لينين الرأي لم يكن له الحق في الوجود.... وسرعان ما استجمعت البلشفية قواها بفضل جاذبية شعاراتها بالنسبة للبروليتاريا الروسية المتخلفة وكذلك بفعل التصميم غير الاعتيادي للينين وقدرته الخارقة على العمل. وللأسف لم يعد ممكناً تصحيح خطأي. وهذا هو السبب في أن السيد تشيرنوف يؤكد على أن البلاشفة أولادي وأن مزحة آدلر بخصوص أبوتي للينين لا تخلو من الصحة.... إن هذا الخطأ قد كلف روسيا وسيكلفها ثمناً باهظاً. كما أنه كان مهلكاً بالنسبة لي أيضاً".(ملحق صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا، 30 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1999).
وفي يوم استيلاء البلاشفة على السلطة بدأت الاحتجاجات على هذا العمل القسري. وكانت وفود المؤتمر الثاني لسوفيت العمال والجنود عن الاشتراكيين الثوريين والمناشفة والبوند واللجان العسكرية للجبهة قد أصدرت بياناً ضد" المؤامرة العسكرية واغتصاب السلطة" قبل الخروج من القاعة. وفي الليلة ذاتها جرى في مجلس دوما بتروغراد تشكيل "لجنة إنقاذ الوطن والثورة" برئاسة نيكولاي أفكسِنتيف، الذي وجه نداء ناشد فيه مواطني البلد عدم تنفيذ تعليمات المغتصبين والعمل على استرجاع الحكومة المؤقتة.
وقد حاول الذراع العسكري للجنة المذكورة القضاء على مقر البلاشفة في "سمولني". ولكن أفكسِنتيف لم يجد الدعم في أوساط القوزاق والقطعات الأخرى من حامية بترواغراد نظراً لانزعاجهم الشديد من تصرفات كيرينسكي ضد الجنرال كورنيلوف. كما أن الجنود العاديين لم يروا فرقاً كبيراً بين كيرينسكي ولينين واعتبروا النزاع بينهما مجرد صراع على السلطة.
- اقتحام أقبية القصر الشتوي.
عقب الاستيلاء على المقر الشتوي للقياصرة الروس واعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة تعرض القصر الشتوي من جديد إلى الهجوم من قبل الجنود والبحارة والعمال. ولكن هذا الحدث ظل طي الكتمان حيث حرصت السلطات البلسفية طيلة سبعة عقود على عدم ذكره نظراً لأن "الاقتحام" استهدف أقبية القصر الحاوية على شتى أصناف الخمور الفاخرة من نبيذ وفودكا وويسكي وكونياك وشمبانيا (عشرات آلاف الزجاجات فضلاً عن براميل النبيذ والبيرة)، التي كانت تضم خمس المشروبات الكحولية في بتروغراد. ويبدو أن رائحة الخمر المغرية تغلبت على الروح الثورية لـ "البروليتارية المنتصرة" ولهذا لم يتمكن أفراد الحرس البلشفي من "الصمود" أكثر من يوم واحد أمام هذه الفرصة السانحة فارتموا على هذا الصيد النادر وشرعوا بإفراغ مستودعات القيصر من محتوياتها. وإذا كان الهجوم المسلح على القصر الشتوي قد أسفر عن مقتل بضعة أشخاص فإن اقتحام أقبية الخمور أدى إلى وفاة عدد أكبر من أبطال الثورة نتيجة الإفراط في السكر والغرق في الخمور المسكوبة بأرضية الأقبية. أما الجنود من طواقم السيارات المصفحة، الذين أرسلوا إلى القصر لإحلال النظام، فقد تم تسليمهم عند وصولهم عدد كبير من زجاجات الخمر لكسب ودهم فما لبثوا أن نسوا كل شيء على الفور وعمدوا مباشرة إلى احتساء المشروبات النفيسة بنهم شديد.
ثم جرى سد مداخل الأقبية بالطوب صفاً واحداً ثم صفين. ولكن لم يسفر ذلك عن أية نتائج إيجابية، إذ أن الحراس كانوا يعمدون إلى فك لبنات الطوب لكي يتسنى لهم الدخول إلى الأقبية أو يتوغلون في حالات أخرى عبر النوافذ بعد خلع الحواجز المشبكة.
وبعد ذلك جاء جنود فوج بريوبراجنسكي، الذين عولت عليهم السلطات لإحلال النظام في هذه المسألة الحساسة. ولكن لسوء الحظ شرع هؤلاء منذ الليلة الأولى بنهب محتويات أقبية القصر القيصري. وعندئذ استدعت السلطات جنود فوج بافلوفسكي ولكن الأمر ما لبث أن تكرر من جديد. فما كان من هذه السلطات أن بعثت عوضاً عنهم مقاتلي الحرس الأحمر الواعيين. غير أن وعيهم ما لبث أن " تبخر" بعد احتساء الزجاجات الأولى.
وكان الجنود يفتحون السدادات الخشبية لبراميل النبيذ بحرابهم ويشربون حتى الثمالة، ثم يقعون في "بحر" النبيذ المسكوب على أرضية الأقبية مما يؤدي في حالات غير قليلة إلى اختناق العديد منهم ثم يجري انتشال جثثهم ووضعها في الساحة على صف واحد. وعقب فشل هذه المحاولة بعثت السلطات فرق الإطفاء لشفط "الكوكتيلات" الكحولية من أقبية الخمور وضخها في نهر نيفا.
وأخيراً تقرر إرسال وحدات من الرماة اللاتفيين ومنحهم تفويضاً يإطلاق النار على الجنود دون أي تردد في حال إقدام على نهب المشروبات الكحولية هناك. وعندها فقط تسنى قطع دابر هذه الظاهرة. ولكن رغم ذلك تعيَّن على اللجنة العسكرية الثورية التعهد بتقديم المشروبات الكحولية لممثلي القطعات العسكرية بواقع زجاجتين لكل جندي يومياً. وحسب شهود عيان فإن لينين ضاق ذرعاً من هذا الوضع وكان يصيح قائلاً: "إن هؤلاء الأنذال سيغرقون الثورة برمتها في الخمر". (غيورغي سولومون. مع الزعماء الحمر. موسكو، دار نشر" سوفريمنيك"، 1995، ص. 15).
وإلى جانب احتياطات القصر الشتوي كان يوجد في بتروغراد 570 من مستودعات وأقبية خمور في قصور أمراء عائلة رومانوف والأرستقراطيين والأغنياء، ناهيك عن مستودعات المطاعم وتجار الخمور. وقد تعرضت بدورها إلى أعمال النهب والسلب، التي شارك فيها هذه المرة أشخاص مدنيون. وفي نهاية المطاف تم وضع حد لهذه الأعمال المسيئة للثورة بحلول عام مطلع عام 1918.(صحيفة "أرغومنتي إفاكتي. العدد 43، 25 تشرين 1/أكتوبر، عام 2017).
وقد وصف غوركي هذه الأحداث على النحو التالي: "في كل ليلة كانت حشود الجنود تتدافع إلى أقبية الخمور لتنهال على جرع شتى أنواع المشروبات الكحولية حتى الثمالة. وبعد ذلك يقوم هؤلاء برمي الزجاجات على رؤوس بعضهم البعض ويجرحون أيديهم بشظايا الزجاج ثم يتمرغون في الوحل والدماء كالخنازير" (مكسيم غوركي. أفكار سابقة لأوانها. موسكو. دار نشر"أزبوكا – كلاسيكا"،2008).
وتجدر الإشارة إلى أن البلاشفة اعتبروا عربدة الجنود المسيئة لهم استفزازاً من جانب البرجوازية والعملاء الأجانب لإضعاف دعم الجنود والعمال للثورة. كما كانت هنالك رواية أخرى لتفسير هذه الظاهرة وهي تشير إلى أنه شوهد ضمن القائمين بأعمال نهب محتويات أقبية الخمور محرضون من لجنة"إنقاذ الوطن والثورة" يسعون بهذه الطريقة إلى إسقاط السلطة الجديدة.
وقد حاول البلاشفة بيع هذه الخمور للسويد للتخلص منها ولدعم أحوالهم المادية. وفي هذا الإطار جرت مباحثات مع الجانب السويدي ولكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة.
- محاولات إنشاء ائتلاف اشتراكي
في اليوم الثالث لانتفاضة أكتوبر وافقت اللجنة المركزية لحزب البلاشفة على إجراء مفاوضات مع بقية الأحزاب الاشتراكية لتشكيل حكومة ائتلافية عقب تهديد الهيئة التنفيذية لنقابة السكك الحديدية بعدم نقل الجنود إلى موسكو، التي كانت تشهد معارك طاحنة بين الحرس الأحمر وخصومه، وكذلك بإعلان الإضراب العام في كافة أرجاء البلاد. وفي صباح 30 أكتوبر بدأت الجولة الأولى من المفاوضات بمشاركة مندوبين عن 8 أحزاب و9 منظمات. ولكنها ما لبثت أن تأجلت إلى مساء اليوم نفسه حيث تعذر على اللجنة صياغة مشروع القرار الخاص بالائتلاف وذلك على خلفية المعارك الجارية في شوارع موسكو. وقد رفض ممثلو الأحزاب الاشتراكية مشاركة البلاشفة المتورطين بانقلاب أكتوبر في الحكومة، ثم تم الاتفاق على امكانية هذه المشاركة شريطة بحث ترشيح كل واحد من الشخصيات البلشفية على حدة.
وفي 31 أكتوبر تم الاتفاق في اللجنة على إنشاء برلمان تمهيدي جديد يسمى السوفيت الشعبي المؤقت من 100 ممثل عن اللجنة التنفيذية المركزية لنواب العمال والجنود و75 ممثلاً من سوفيت نواب الفلاحين و100 ممثل من مجلسي دوما بتروغراد وموسكو و50 ممثلاً من اتحاد النقابات. وقد جرت نقاشات حادة بخصوص قوام الحكومة حيث طالب الاشتراكيون بإبعاد لينين وتروتسكي عن المشاركة بينما دعا البلاشفة إلى إبعاد كيرنسكي وأفكسنتيف. ومهد الاتفاق إلى امكانية وقف الصراع المسلح الناجم عن انقلاب أكتوبر مع الحفاظ على دور السوفيتات المهيمن في المجتمع وذلك على الأقل حتى انعقاد الجمعية التأسيسية.
والجدير بالذكر أنه كان بين عمال بتروغراد أنصار وخصوم سلطة البلاشفة واللجنة التنفيذية المركزية. ومع ذلك فإن الأغلبية أعلنت تأييدها لإنشاء ائتلاف اشتراكي من شأنه أن يحل محل السلطة البلشفية ذات الحزب الواحد، ويضمن وقف الحرب الأهلية. غير أن هزيمة كيرنسكي في استعادة سلطة الحكومة المؤقتة ونجاحات البلاشفة العسكرية في موسكو بعد معارك دموية طاحنة بدلت الوضع إلى حد كبير. ورغم أن كامنيف وأنصاره أكدوا بكل صدق دعمهم لتشكيل ائتلاف واسع فإن مجموعة لينين المتشددة عارضت هذا الاتجاه. وفي الأول من تشرين2/نوفمبر دعا لينين خلال جلسة منظمة بتروغراد الحزبية إلى قطع المفاوضات، ولكن الحاضرين صوتوا إلى جانب اقتراح تروتسكي الرامي إلى "فضح محاولة إنشاء سلطة ائتلافية". وقد كان لينين مستاء للغاية من سير المفاوضات التي يمكن أن تسفر عن إقالته. وبهذا الصدد بلغ به الأمرإلى المطالبة باعتقال أعضاء الوفد البلشفي وضمنهم كامنيف حيث اتهمهم بالخيانة وهدد بالانشقاق والاستعانة بالبحارة. ومن جهة أخرى أعرب لوناتشارسكي عن دعمه للاتفاق آملاً تسخير الجهاز الحكومي للبناء الاشتراكي بدون الاضطرار إلى استخدام العنف والإرهاب. فإن الاتفاق سيضمن وقف إضراب موظفي ومستخدمي دوائر الدولة والمؤسسات العامة. أما نوغين فكان يرى أنه إذا ذهب الاشتراكيون فستنهار السوفيتات وتساءل قائلاً : " فما المغزى عند ذلك من السلطة السوفيتية؟".
غير أن الوضع في بؤر المواجهة المسلحة كان يتبدل آنذاك بسرعة كبيرة لصالح البلاشفة. ولهذا تقرر عدم التنازل عن لينين وتروتسكي، وتلاوة مطالب البلاشفة في المفاوضات على شكل إنذار نهائي وضمنها الاعتراف بقرارات المؤتمر الثاني لسوفيتات نواب العمال والجنود والوقوف بالمرصاد لمؤامرات الثورة المضادة. وفي الثاني من تشرين2/نوفمبر اتخذت اللجنة المركزية لحزب البلاشفة قراراً اعتُبِر فيه البلاشفة المعتدلين معارضة حزبية انتهكت قرارت المؤتمر الثاني المذكور لموافقتها على تسليم السلطة إلى الأحزاب التي تشكل أقلية في السوفيتات. وفي نهاية المطاف أصدرت اللجنة العسكرية الثورية أمراً باعتقال ومحاكمة أعضاء" لجنة إنقاذ الوطن والثورة".
وبحلول ربيع عام 1918 أصبح المناشفة والاشتراكيون الثوريون الخيار الطبيعي لمن يؤمن في الاشتراكية "ذات الوجه الإنساني". وفي تلك الأوقات سعت اللجنة المركزية للمناشفة إلى تقوية نفوذ الحزب في السوفيتات المحلية. فخلال الفترة الواقعة بين نيسان/أبريل وحزيران/يونيو فاز المناشفة والاشتراكيون الثوريون بنسبة تتراوح بين 67و87 من الأصوات في قازان وأوريول وتامبوف وتولا وياروسلاف. وفي 23 مدينة كبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة البلاشفة حصلت المعارضة على أغلبية ملحوظة. ويعني ذلك أنه سيكون بوسع المعارضة في مؤتمر السوفيتات القادم نيل الأغلبية في الهيئة التنفيذية المركزية لعموم روسيا وعزل حكومة لينين بالطريقة الديمقراطية. غير أنه لم يكن بمقدور البلاشفة السماح بذلك. ولهذا فقد قامت الهيئة المذكورة قبل انعقاد المؤتمر الجديد بفصل جميع المناشفة والاشتراكيين الثوريين من كافة السوفيتات. وهكذا تخلص البلاشفة إلى الأبد من سلطة السوفيتات المستقلة عنهم. فبعد 14 حزيران/يونيو عام 1918 لم يبق للسوفيتات أي سلطة تذكر حيث جرى تحويلها إلى مجرد هياكل شبحية يتناوب على إدارتها بيروقراطيون مُعيَّنون من قبل الحزب ("تاريخ روسيا في القرن 20" بإشراف أندريه زوبوف. المجلد(1)،موسكو. دار نشر" ايكسمو".2016).
3766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع