فرقة مسرح الفن الحديث

                                                      

                                 عمّــار وهبي

       

                     فرقة مسرح الفن الحديث

في نهاية أعوام الستينات وامتدادا في أعوام السبعينات كان من المعتاد ان ترتاد العوائل العراقية .. متمثلةً بمختلف انواع الطبقة المثقفة والمتعلمة ومنهم الأساتذة وطلبة الجامعات .. المسرح في بغداد .. وكان كل هؤلاء حريصون على حضور اية مسرحية جديدة وجيدة حال سماعهم بها .. فكانت مدرجات المسرح تغص بهذا الجمهور .. هكذا كانت الحركة المسرحية في بغداد في فترة الستينيات والسبعينيات ..

                

فكانت هناك (الفرقة القومية للتمثيل) والتي أسسها الفنان الراحل "حقي الشبلي" رائد الفن المسرحي في العراق عام 1967 .. تنافسها فرقة مسرحية أخرى .. (فرقة مسرح الفن الحديث) والتي كانت باكورة أعمالها مسرحية (النخلة والجيران) والتي قدمت يومها على خشبة (المسرح القومي) الواقع في كرادة مريم مقابل المجلس الوطني .. قبل ان تغلق هذه المنطقة ويصبح من المحرمات المرور فيها بل النظر بأتجاهها .. وأيضا من قبل افتتاح في نهاية السبعينات (مسرح الرشيد) في الصالحية قرب محطة الاذاعة والتلفزيون (تقريبا مقابل فندق ميليا المنصور حاليا) .. وكذلك (المسرح الوطني) في بداية منطقة الكرادة .. حيث كان في بغداد مسارح معدودة .. المسرح القومي آنف الذكر .. وقاعة الشعب (قاعة الملك فيصل الثاني سابقا) والتي أقام فيها الزعيم عبد الكريم (محكمة الشعب - المهداوي) .. وكذلك (قاعة الخلد) والتي جرت فيها محاكمة الرفاق من قبل الرئيس صدام .. وقدمت في هذه القاعة بالذات عروض غنائية لاتنسى من مشاهير المطربين .. "فيروز" و "شادية" و "گوگوش" .. وفي سبعينيات القرن الماضي خصصت ايّام من كل شهر للفرقة السيمفونية الوطنية لتقديم عروضها ومعزوفاتها الموسيقية الرائعة لاشهر الموسيقيين العالميين مثل (بتهوفن وموزارت وجايكوفسكي) .. حيث يذهب اليها الجمهور بسهولة ودون اي عناء أو تعقيدات من خلال حافلة نقل الركاب الحمراء ذات الطابقين رقم (15) التي تمرّ بكرادة مريم منطلقةً من ساحة النصر وينتهي خطّها عند القاعة لتعود مرة اخرى في نفس المسار .. وفِي الثمانينات وبعد غلق هذه المنطقة ومنع الوصول الى مكوناتها ومن ضمنها قاعة الخلد .. انتقلت الفرقة السيمفونية الوطنية تقدم عروضها في قاعة الرباط في الوزيرية (قرب ملعب الكشافة) .. ولي الفخر اني أديت دورا مسرحيا على مسرح قاعة الخلد وانا صبي .. ضمن الفرقة المسرحية لرعاية الشباب عندما احتاجوا صبيا لأداء دور رئيسي في هذا العمل المسرحية (مسرحية الشموع) وكانت من اخراج عمّي .. الاستاذ في جامعة بغداد .. مؤيد وهبي

      

نعود الى مسرحية (النخلة والجيران) رواية الكاتب العراقي "غائب طعمة فرمان" .. والتي أصدرت عام 1965 ..
هذه الرواية وقعت محط اعجاب المخرج الشاب (قاسم محمد) وهو في المراحل النهائية لدراسته في موسكو عام 1969.. فقام بالأستئذان من الكاتب على تحويلها الى مسرحية واعدادها اعدادا فنيا يتلاءم مع متطلبات النص والواقع الشعبي العراقي .. مع الحفاظ على على طابع الرواية وشخصياتها .. والتأكيد على ابراز مشاكلهم وابعاد شخصياتهم .. وهكذا تم الاعداد لتجسيد احداث الرواية .. وأحيل عرض النص الى فرقة (المسرح الفني الحديث) .. ونوقش سيناريو المسرحية وبحضور المؤلف "غائب طعمة فرمان" الذي زار العراق .. وتم اجراء تعديلات طفيفة من أجل الحفاظ على الصبغة العراقية الشعبية في كل مشاهد المسرحية .. مع البناء الدرامي للرواية ..
وبدأت التمرينات منذ اشهر طويلة قبل العرض .. فالعمل ليس سهلا .. والمسرحية تحتاج معظم اعضاء الفرقة لتمثيل شخصياتها فالأدوار كثيرة .. ولابد من اختيار الممثلين القديرين بتجسيد هذه الشخصيات .. واعطاء سماتها الاصلية .. ولايمكن التساهل في حذف شخصية ما .. فالمؤلف قد خلق مجموعة من (الناس) ظلوا على ارتباط مصيري فيما بينهم بالرغم من بعد كل واحد منهم عن الاخر .. لذا كان لزاماً على المخرج اختيار وجوها شابة تشارك الممثلين الرئيسيين والمعروفين من أفراد الفرقة لأكمال هذا العمل الكبير .. فأختيرت فتاة تقف على المسرح لأول مرة "تماضر عبد الوهاب" تؤدي شخصية "تماضر" ومعها القامتين المسرحيتين .. "زينب" و"ناهدة الرماح" .. وشابا آخر مازال طالبا في مراحل دراسته الفنية "فاضل خليل" يمثل دور "حسين" أمام الكبيرين .. "يوسف العاني" و"وخليل شوقي" و"سامي عبد الحميد" و"كريم عواد" ..
وتتلخص رواية (النخلة والجيران) بنخلة عاقر نمت امام منزل (سليمة - أم حسين الخبازة) .. وهذه النخلة رمز العراق كانت لاتثمر ولكنها تتحدى تغيرات السنوات والمواسم ثابتة في مكانها تعيش حالها كحال (أم حسين) في شراكتهم البؤس والشقاء .. فأم حسين تعاني من الشقاء لكنها لا تبدي امتعاضا .. تقوم بعملها من عجين إلى خبيز إلى تكسير الحطب .. وتتحمل السرقات التي يقوم بها "حسين" .. كما تتحمل النخلة المياه القذرة .. والأثنان يتحملان ماحلّ بهم من أجل الحياة .. ويتحمل العراق قذارة وسرقة الانگليز له عند احتلاله .. والتمازج الطبقي والديني للمجتمع العراقي في ظل هذه الظروف .. الأرمني واليهودي والمسلم ..
مسرحية (النخلة والجيران) لا تكمن في تحويل رواية عراقية الى أداء مسرحي فحسب .. بل هي تتسع لتشمل تقنيات فنية راقية ورائعة في تلك الفترة .. فقد تمّ وضع (12) ديكورا كمنظر خلفي لكل فصل من فصول المسرحية على قاعدتين متحركتين صممها الفنان "كاظم حيدر" .. لتسهل على الفنيين وعلى المشاهدين ايضا متابعة العمل المسرحي .. بدون اسدال ستارة وضياع وقت في تثبيت منظر وازالة اخر .... وحين تأتي الموسيقى التي وضعها "حسين قدوري" .. فكانت مستوحاة من اغاني عراقية شائعة في تلك الفترة .. وهي فترة الحرب العالمية الثانية .. وهكذا أصبحت تجربة مسرحية (النخلة والجيران) تجربة رائعة ومدعاة اعتزاز بالذين ساهموا في خلق هذا العمل المسرحي الكبير ..
في هذه المسرحية تألق "خليل شوقي" بدور (مصطفى)الرجل المراوغ والمتستر بأسم الدين والذي يحتال على الارملة المسكينة (سليمه الخبازه) والتي قامت بالدور الممثلة "زينب" .. تلك المسرحية الرائعة اثرت وبشكل كبير على الشارع العراقي الى درجة ان بعض (القفشات) او العبارات التي استعملت في المسرحية صارت تردد في الحياة اليومية بل أصبحت عبارات مألوفة في الأحاديث العراقية مثل (جُقّه مصطفى) وهي العبارة التي استعملها (خاجيك الارمني) والذي قام بالدور الفنان "خليل عبد القادر" مع مصطفى المتدين في البار عندما كانا يسكران سوية!... كذلك عبارة (عغبنجي نزل السقف)... و(هاي مَرَة.. ومَرتَك مَرَة؟) التي استعملها "يوسف العاني" اثناء تمثيله في المسرحية بدور (حمادي العربنجي) ...
وهكذا كان الشغف بالعروض المسرحية في بغداد شئ رائع ولايضاهي .. فعلى الرغم من انه كان عصر ازدهار السينما العربية والأجنبية .. والعروض الرائعة لخيرة الأفلام المنتجة آنذاك .. فمعظم الأفلام العربية تعرض على صالة سينما (النصر) و (بابل) .. كأفلام (أبي فوق الشجرة) و (العصفور) و (لاتزال الرصاصة في جيبي) و(ثرثرة فوق النيل) و (خلي بالك من زوزو) و (عودة الأبن الضال) .. أمّا خيرة الأفلام الأجنبية فكانت من اختصاص سينما (غرناطة) و(سميراميس) و(النجوم) ومن بعدها ( سينما المنصور) والتي افتتحت بداية الثمانينات في ساحة الاحتفالات
ففي السينما يتعامل المشاهد مع ناس لايصل اليهم بل انهم يعيشون في الخيال فقط .. اما في المسرح فالممثلين هم أمامه على خشبة المسرح بحقيقتهم ... تتفاعل معهم ويتفاعلون معك... تضحك من كل قلبك عند بعض المواقف واحياناً يضحكون هم ايضاً على مواقف يؤدونها أو يؤديها الممثل المقابل لهم .. وفي تفاعلك معهم تحس بأنك تكافأهم على ما بذلوه من جهد لاسعاد الجمهور..
وهكذا كانت هناك الفرق المسرحية تتنافس مع بعضها .. (ففرقة المسرح الفني الحديث) تنافس (الفرقة القومية) .. والتي كانت تضم معظم يساريوا الفن العراقي .. أمثال الفنانين "زينب" و"يوسف العاني" و"فاضل خليل" و"صلاح القصب و"ناهده الرماح" و "خليل شوقي" وغيرهم ... بعد ذلك استمرت الفرقة بتقديم اروع المسرحيات بعد امتلاكها لمسرح صغير يدعى (مسرح بغداد) والذي يقع خلف سينما النصر في شارع السعدون ... وهناك حضرت مع والدي (رحمه الله) والذي لايفوت هذه المسرحيات الكوميدية التي اشتهروا بها كال (الشريعة) و (الخان) و (القربان) و (أحوال ذلك الزمان) .. كانت فترة رائعة وبسيطة .. يتنوع فيها النشاط الثقافي والفكري في وقت كان العراق يحتوي على اكبر عدد من المثقفين في كل الوطن العربي ..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع