د.جابر أبي جابر
انتفاضة بحارة كرونشتادت ضد البلاشفة عام 1921
باتت روسيا في مطلع عام 1921 على عتبة كارثة قومية من جراء الحرب الأهلية المدمرة ونظام الشيوعية العسكرية، الذي فرضه البلاشفة. فقد أسفر النشاط المتزايد لفرق مصادرة فوائض المحاصيل لدى الفلاحين عن انتشار المجاعات في أوساط 20 % من السكان. وكانت 60-70 % من قاطرات السكك الحديدية معطلة. وخلال تلك الفترة العصيبة تقلص عدد سكان بتروغراد من مليوني نسمة إلى 800 ألف. كما أن عدداً كبيراً من مصانعها ومعاملها توقف عن العمل.
انفردت انتفاضة كرونشتادت بخاصية معينة تميزها تماماً عن كافة الانتفاضات وأعمال المقاومة المسلحة ضد السلطة الشيوعية خلال الحرب الأهلية الروسية، حيث أن الجهة المتمردة على البلاشفة كانت قد لعبت دوراً حاسماً في انتصار ثورة أكتوبر ووصول حزب لينين إلى الحكم. فهؤلاء البحارة بالذات كانوا المشاركين الأساسيين في الانقلاب البلشفي حيث سيطروا على العاصمة وبقيت هذه المدينة في قبضتهم حتى جرى تحقيق النصر النهائي. وفي كرونشتادت نفسها قام البحارة في وضح النهار بإعدام أبرز ممثلي الجيش القيصري من أميرالات وضباط كبار. وقد كان البحارة الدعامة الأساسية لحكومة البلاشفة وأصبحت السترات العسكرية السوداء فزاعة حقيقية لسكان العاصمة وروسيا عموماً. ولكن ما أن مضى أقل من أربع سنوات على تلك الأحداث حتى أدرك بحارة أسطول البلطيق أن السلطة، التي كافحوا وقاتلوا وضحوا من أجلها، والتي كان ينبغي أن تكون سلطة العمال والفلاحين، لا تعود في واقع الأمر لا للعمال ولا للفلاحين. وفي آذار/مارس عام 1921 أضحت روسيا على عتبة ثورة جديدة، ووصلت إلى مسامع العالم في كل مكان كلمة" كرونشتادت". وهكذا فإن بحارة القاعدة البحرية الحربية الروسية الأساسية في البلطيق كانوا قوة ثورية بامتياز ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتبار حركتهما في كرونشتادت معادية للثورة وإنما كانت حركة تصحيحية ضمن إطار النظام السوفيتي، الذي كان يُفترض أن يستند فعلياً إلى سلطة السوفيتات، ويخدم بالدرجة الأولى مصالح العمال والفلاحين.
في 24 شباط/ فبراير عام 1921 شهدت بتروغراد إضرابات ومظاهرات لعمال المدينة المتذمرين من أوضاعهم المعيشية. وقد اعتبرت لجنة المدينة للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) هذه الإضرابات في المعامل والمصانع تمرداً سافراً من قبل العمال ففرضت هناك الأحكام العرفية وقامت باعتقال عدد كبير من نشطاء العمال تجاوز الألفين. وقد دفعت تصرفات السلطة البلشفية حامية كرونشتادت إلى التمرد على هذه السلطة ولا سيما أن بحارة هذه المدينة وجنودها كانوا مستائين أصلاً من تحول شعار لينين" كل السلطة للسوفيتات" إلى سلطة الحزب الشيوعي.
ففي 29 شباط/ فبراير عقد اجتماع لقيادتي البارجتين "سيفاستوبل" و"بتروبافلوفسك" اتخذ خلاله قرار يتضمن المطالبة بإعادة انتخاب السوفيتات وإلغاء مؤسسة المفوضين السياسيين في الجيش والأسطول البحري ومنح حرية النشاط لكافة الأحزاب الاشتراكية وإطلاق حرية التجارة.
وقد أُقيم يوم 1 آذار/ مارس اجتماع حاشد في ساحة" ياكورنايا" بكرونشتادت شارك فيه زهاء 15 ألف من البحارة وأفراد الحرس الأحمر تحت شعار"السلطة للسوفيتات وليس للأحزاب". وكان هؤلاء يتوقعون أن يأتي لينين إليهم للتباحث معهم والاستماع إلى مطالبهم. ولكن بدلاً منه جاء لمقابلة المحتجين والتفاهم معهم ممثل الهيئة التنفيذية المركزية لعموم روسيا ميخائيل كالينين حيث حاول تهدئة انفعال المحتشدين. ولكنهم قاطعوا خطابه مما اضطره إلى مغادرة المكان بدون أية مضايقات. وبعد ذلك جرى اعتقال المفوض السياسي للأسطول في كرونشتادت نيكولاي كوزمين ورئيس سوفيت المدينة بافيل فاسيليف.
وقد اتخذ البحارة وأفراد الحرس الأحمر في كرونشتادت قراراً يقضي بضرورة دعم عمال بتروغراد وطالبوا بالإفراج عن جميع ممثلي الأحزاب الاشتراكية. كما دعوا إلى إجراء انتخابات حرة للسوفيتات بالاقتراع السري وإتاحة حرية التعبير والاجتماعات والنشاط النقابي لأعضاء كافة الأحزاب الثورية، وفسح المجال لممارسة الانتاج الصناعي اليدوي، والسماح للفلاحين في استخدام أراضيهم والتصرف بمنتجات عملهم دون أي شروط.
كما جرى في 1 آذار/ مارس بقلعة المدينة تشكيل" اللجنة الثورية المؤقتة" برئاسة البحار ستيبان بتريتشينكو. وقد ضمت اللجنة نائبه ياروفينكو ورئيس قسم الآليات أرخيبوف ورئيس مجموع عمال الكهرباء توكين ومديرمدرسة العمل الثالثة اوريشين. وأنيط بهذه اللجنة مهمة إدارة وتسيير شؤون المدينة ومنحت كافة الصلاحيات لتحقيق ذلك.
وبفضل استخدام محطتي اللاسلكي للسفينتين الحربيتين أذاعت اللجنة الثورية المؤقتة على الفور قرار الاجتماع الجماهيري وطلبت من الأهالي المساعدة. وكان المتمردون يصدرون صحيفة خاصة بهم وهي "إزفستيا" اللجنة الثورية المؤقتة. وقد نشرت الصحيفة في عددها الصادر يوم 8 آذار/ مارس مقالة بعنوان " ما الذي نناضل من أجله؟" وجاء فيها ما يلي: " عندما قامت الطبقة العاملة في روسيا بثورة أكتوبر كانت تتطلع إلى التحرر من العبودية ولكنها في المحصلة وجدت نفسها تواجه، تحت حكم البلاشفة، ظروفاً استعبادية أسوأ مما كان عليه الأمر قبل الثورة حيث الحربة والرصاص والاعتقال التعسفي والمعاملة اللاإنسانية من جانب رجال الشرطة السرية. فبعد النضال الطويل والمعاناة الفظيعة لم يحصل الكادح في روسيا السوفيتية إلا على الفقر والجوع ومضايقات السلطة... لقد استبدلت الحكومة الشيوعية شعار دولة الكادحين الرائع " المنجل والمطرقة" بالقمع والسجون للحفاظ على الحياة الهادئة والرغيدة للبيروقراطية الجديدة المؤلفة من المفوضين (القوميساريين) وكبار الموظفين الشيوعيين ومسؤولي أجهزة الحزب والأمن. وعن طريق النقابات المهنية، التي تسيطر عليها الدولة، ربطوا العمال بآلات المصانع وجعلوا من العمل عبودية جديدة بدلاً من أن يكون مصدر فرح وسعادة. وأصبح من الواضح أن الحزب الشيوعي ليس نصيراً للشغيلة كما كان يدّعي زعماؤه. فبعد وصوله إلى السلطة لم يعد يخشى سوى فقدانها. ولذلك فإنه لا يتورع الآن عن استخدام كافة الأساليب القذرة للحفاظ عليها وضمن ذلك: الافتراء والعنف والخداع والإعدامات بحيث أن الحياة نفسها تحت نير دكتاتورية الشيوعيين أصبحت أفظع من الموت. والآن وضعنا هنا في كرونشتادت حجر الأساس للثورة الثالثة، التي ستفسح طريقاً جديداً لحياة كريمة ومجتمع اشتراكي جديد".
أثارت أخبار الأحداث الجارية في كرونشتادت قلقاً بالغاً لدى حكومة لينين. ففي اليوم نفسه نشر نداء سوفيت موسكو بعنوان" إلى جميع عمال موسكو وريفها وكافة الفلاحين وأفراد الجيش الأحمر وللمواطنين عموماً". وقد تضمن توضيح أسباب الصعوبات الاقتصادية المؤقتة. واختتمت الوثيقة بما يلي" ليسقط عملاء دول الوفاق"! ليس بالمظاهرات والإضرابات، وإنما بالعمل المنسق في المصانع والورشات والسكك الحديدية، يمكننا التخلص من الفقر والفاقة وتجنب المجاعة والبرد القارس".
كان سكان كرونشتادت يسعون إلى إجراء مفاوضات صريحة وعلنية مع السلطات البلشفية. غير أنها لجأت إلى اعتقال أعضاء وفد بحارة وجنود وعمال هذه القاعدة العسكرية البحرية، الذي جاء إلى بتروغراد لتوضيح مطالبهم. وقد أصبح موقف السلطات جلياً من بداية الأحداث وهو رفضها إجراء أي مفاوضات مع المشاركين في الانتفاضة أو تقديم تنازلات لهم، بل أنه إلى جانب ذلك تعرض أهالي زعماء الانتفاضة للقمع والاضطهاد في بتروغراد، حيث كان يجري احتجازهم بصفة رهائن وضمنهم أسرة وأقرباء وأصدقاء الجنرال السابق الكسندر كوزلوفسكي (27 شخصاً)، الذي كان يخدم في الجيش الأحمر كخبير عسكري.
في 2 آذار/مارس أعلنت حالة الحصار في بتروغراد وريفها. وفي اليوم نفسه وجه سكان كرونشتادت النداء التالي" أيها الرفاق والمواطنون! يشهد بلدنا مرحلة عصيبة من تاريخه حيث يطبق قبضته علينا الجوع والبرد القارس والتدهور الاقتصادي. أما الحزب الشيوعي الحاكم فقد انسلخ عن جماهير الشعب، وأصبح عاجزاً عن انتشال البلد من حالة الانهيار الشامل. كما أنه فقد ثقة العمال نظراً لأنه لا يقيم لهم وزناً ويضرب عرض الحائط بالمطالب، التي يطرحونها حيث يعتبرها جزءاً من مؤامرات الثورة المضادة. ولكنه بهذا الصدد يقع في ضلال مبين إذ أن هذه الإضرابات والمطالب هي صوت الشغيلة وكافة فئات الشعب. وفي ضوء ذلك فإن الاجتماع الجماهيري لمدينتنا المنعقد يوم الأول من آذار/مارس قرر بالاجماع المطالبة بإجراء انتخابات للسوفيتات على أساس عادل ونزيه وبالاقتراع السري لكي تمثل الشغيلة بشكل حقيقي وتكون هيئة نشيطة وفعالة".(فلاديمير كريستيانينوف. حول انتفاضة كرونشتادت، سانت بطرسبورغ، دار نشر"أوستروف"، 2016).
وعلى خلفية هذه الأحداث اتخذت الحكومة السوفيتية إجرءات سريعة لإخماد الانتفاضة وقررت أن تتزامن بداية عملية اقتحام كرونشادت مع افتتاح المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) سعياً منها لرفع معنويات الجنود المهاجمين. وقد تعرض هؤلاء الجنود قبيل وأثناء الاقتحام لحملة دعائية تضليلية واسعة النطاق كشف البلاشفة خلالها عن امتلاكهم لمخيلة خصبة وموهبة مسرحية فذة. وهذا كله من أجل إقناع الجنود بأنهم لا يواجهون أخوتهم في السلاح وإنما أمامهم مؤامرة للبيض بدعم من جواسيس وعملاء دول" الوفاق". وعلى سبيل المثال كان يطلب من بعض الضباط والجنود الموثوقين أن يرتدوا بدلات العسكريين الفنلنديين، ويجري بعد ذلك تصويرهم، ثم إظهارهم على أنهم أسرى. وكان يذاع بأن عملاء فرنسا يدخلون إلى كرونشتادت ويوزعون الذهب هناك.
وفي 4 آذار/ مارس وجهت لجنة الدفاع عن بتروغراد إنذاراً نهائياً إلى كرونشتادت. وقد وضع الإنذار أمام المتمردين خيارين لا ثالث لهما : إما قبوله أو رفضه. وفي حال الرفض سيتعين عليهم اللجوء إلى القتال. وفي اليوم نفسه عقدت اللجنة الثورية المؤقتة جلسة حاسمة تقرر خلالها الدفاع عن المدينة.
وآنذاك كان عدد أفراد حامية كرونشتادت يبلغ حوالي 26 ألف عسكري منهم 450 جندياً رفضوا الانضمام إلى الانتفاضة فاعتُقلوا وزُج بهم في عنبر البارجة" بتروبافلوفسك". كما غادر المدينة بأسلحتهم طلاب ومعلمو المدرسة الحزبية وقسم من البحارة الشيوعيين( حوالي 400 شخص).
كانت الحكومة السوفيتية تخشى، إلى حد كبير، امتداد الانتفاضة إلى بحارة بتروغراد وعمالها. وللحيلولة دون حدوث ذلك أرسلت على الفور دعاتها السياسيين إلى قطعات الجيش والأسطول ومصانع المدينة لكي توحي لهم بأن أحداث كرونشتادت مجرد مؤامرة من تدبير البيض والدول المعادية ولا ترمي إلى خدمة مصالح البحارة والشغيلة. وفي الوقت نفسه قررت السلطات اتخاذ إجراءات عاجلة لإرضاء سكان المدينة وخاصة العمال من خلال زيادة الحصة التموينية حيث توقفت عن إرسال المؤن المخصصة لكرونشتادت وحولتها لتلبية احتياجات بتروغراد. كما خصصت مبلغ 10 ملايين روبل ذهبي لاستيراد كميات كبيرة من المواد الغذائية من الخارج على جناح السرعة.
- عملية اقتحام كرونشتادت (7-18 آذار/ مارس)
في 5 آذار/ مارس أعيد تشكيل الجيش السابع بقيادة ميخائيل توخاتشيفسكي، الذي قام بإعداد خطة الاقتحام الرامية إلى" سحق التمرد بأسرع وقت ممكن". ولم يكن من قبيل الصدفة تزامن موعد بدء عملية الاقتحام مع افتتاح أعمال المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي(البلاشفة) في 8 آذار/مارس إذ كان ذلك خطوة سياسية مدروسة.
وقد بلغ مجمل تعداد افراد الحرس الأحمر المشاركين في هذه العملية يوم 7 مارس زهاء 17,5 ألف مقاتل. وكانت القوة الضاربة بقيادة بافيل ديبينكو.
بدأ قصف كرونشتادت في مساء 7 آذار/ مارس. وفي صباح اليوم التالي، أي في يوم افتتاح المؤتمر الحزبي، شرع جنود الجيش الأحمر في الهجوم على المدينة. ولكنهم سرعان ما ردوا على أعقابهم فانسحبت القوات المقتحمة إلى المواقع الأولية لانطلاق العملية العسكرية تاركة وراءها بعض الخسائر البشرية. وقد علق كليمنتي فوروشيلوف على هذا الاقتحام الفاشل قائلاً:" إن الحالة المعنوية لبعض القوات كانت تثير لدينا قلقاً بالغاً". والمعروف أن فوجين من فرقة الرماة(235و237) رفضا المشاركة في القتال فتم تجريد أفرادهما من السلاح وإعدام العشرات منهم. ولم تنشر الصحف السوفيتية آنذاك أي معلومات تتعلق بفشل الاقتحام والخسائر، التي منيت بها قوات توخاتشيفسكي المهاجمة.
وفي 12 آذار/مارس بلغ عدد البحارة والجنود المتمردين زهاء 18 ألف وكان في حوزتهم مئة مدفع للحراسة الساحلية و40 مدفعاً على متن البارجتين "سيفاستوبل" و" بتروبافلوفسك" بالإضافة إلى مئة رشاش وكمية كبيرة من الذخيرة.
ولدى التحضير للاقتحام الثاني وصل تعداد القوات المهاجمة إلى 24 ألف مقاتل وكانت مسلحة بـ 159 مدفعاً و433 رشاشاً. وكان ضمن أفراد التعزيزات الإضافية 182 من رجال الشرطة السوفيتية و300 من مندوبي المؤتمر الحزبي و1114 شيوعياً متطوعا و3 أفواج من طلاب المدارس العسكرية.
بدأ الاقتحام المكرر في ليلة 16 آذار/مارس. وفي اليوم التالي اندلعت معارك ضارية بين الطرفين. وقد وقد استخدمت قيادة الجيش الأحمر 25 طائرة حربية لقصف مواقع المتمردين وخاصة البارجة" بتروبافلوفسك". وفي صباح يوم 18 من الشهر نفسه أخمدت مقاومة سكان كرونشتادت وأفرج عن البحارة والجنود الشيوعيين المعتقلين داخل عنبر" ستافروبول". وقد اعتقل عدد كبير كبير من المتمردين. وهرب حوالي 8 آلاف منهم إلى فنلندا.
بلغت خسائر المهاجمين 527 مقاتلاً وأصيب 3285 مقاتلاً بجروح مختلفة. وخلال الهجوم قتل زهاء ألف متمرد وجرح منهم حوالي الألفين. ووقع ألفان آخران من الكرونشتادتيين في الأسر.
وعقب انتهاء القتال قامت الجهات الأمنية السوفيتية بأعمال ملاحقة وقمع شملت أيضاً أهالي المدينة. وقد أعدم 2013 شخصاً رمياً بالرصاص وصدرت أحكام أخرى بالسجن لمدد مختلفة بحق 6459 شخصاً. وسارعت هذه الجهات، قبل كل شيء، إلى مصادرة مطبوعات المتمردين لكي لا يطلع الجنود الحمر عليها فيفتحون عيونهم على حقيقة الوضع. وبعد بضعة أيام من سحق التمرد جرى لأغراض الدعاية تصوير فيلم "وثائقي" شارك في تمثيله جنود الجيش الأحمر حول عملية الهجوم على كرونشتادت. وقد عُرض الفيلم في دور السينما كنقل مباشر للأحداث. وفي الوقت نفسه وضعت في قائمة الوثائق السرية كافة المواد السينمائية والفوتوغرافية والصحف المحلية المتعلقة بالانتفاضة ولم يتم رفع السرية عنها حتى عام 1993. ورغم مرور سنوات عديدة على هذه الأحداث عادت السلطات البلشفية مجدداً في الثلاثينات إلى ملاحقة المشاركين فيها. وقد أعيد اعتبارهم جميعاً في عام 1994 خلال عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين.
ومن سخرية القدر أنه قد تم فيما بعد تصفية المشاركين البارزين في سحق انتفاضة كرونشتادت من قبل السلطة، التي خدموها بكل حماس وتفان، وهم وزير الدفاع آنذاك ليون تروتسكي (اغتيل بالمكسيك في عام 1940 على يد أحد عملاء ستالين وهو الشيوعي الإسباني رامون ميركادير)، وسكرتير المنظمة الحزبية في بتروغراد أثناء تلك الأحداث غريغوري زينوفييف (أعدم في عام 1936 بتهمة الانتماء إلى مجموعة المركز التروتسكي الزينوفييفي المعادي للسوفيت)، وكذلك مخطِّط وقائد عملية اقتحام كرونشتادت ميخائيل توخاتشيفسكي، الذي ترقى فيما بعد إلى رتبة مارشال، وأصبح في منتصف الثلاثينات يشغل منصب نائب وزير الدفاع السوفيتي (أعدم في عام 1937 بتهمة الانتماء للتنظيم العسكري التروتسكي المعادي للسوفيت)، والمشرف على القوات الرئيسية لهذه العملية بافيل ديبينكو، الذي عيّن عقب سحق الانتفاضة قائداً لأسطول كرونشتادت (أعدم في عام 1938 بتهمة الاشتراك في مؤامرة فاشية عسكرية والتجسس لحساب الولايات المتحدة).
وهكذا انتهت الملحمة البطولية لبحارة وجنود كرونشتادت وهم نفس المقاتلين الشجعان، الذين استولوا على القصر الشتوي واعتقلوا وزراء الحكومة المؤقتة، ثم أقاموا السلطة السوفيتية والسلاح في أيديهم، وطردوا نواب الجمعية التأسيسية، والتزموا فيما بعد بنهج الحزب البلشفي في كافة جبهات الحرب الأهلية.
769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع