الصراعات داخل الحزب الشيوعي بعد وفاة لينين

د. جابر ابي جابر

الصراعات داخل الحزب الشيوعي بعد وفاة لينين

مع انتهاء الحرب الأهلية أصبح الحزب الشيوعي (البلاشفة) الحزب العلني الوحيد في البلد. وكان ربع مندوبي المؤتمر العاشر للحزب(1921) من المناشفة السابقين. وعلى العموم انضم إلى صفوفه بعد وصوله إلى السلطة اعداد كبيرة من الأشخاص الذين لا يشاطرون البلاشفة آراءهم إذ كان الدافع الأساسي لانتسابهم إلى الحزب يكمن في تأمين فرص عمل مناسبة وتحقيق الارتقاء في السلم الوظيفي.
وفي ظروف الرقابة الشديدة ونهج إرهاب الدولة غدا النشاط السياسي العلني الوحيد في البلد محصوراً داخل الحزب الحاكم. وكان يشهد في الصراع بين مختلف المنابر والتكتلات. وقد بقيت حرية التعبير داخل الحزب حتى أواخر العشرينات حيث كان بوسع المعارضين الدفاع عن وجهة نظرهم .
وخلال النقاشات حول النقابات نشأت منابر إيديولوجية عديدة في الحزب. وكان المضمون الرئيسي لهذه الفترة الصراع مع "المعارضة العمالية" وخاصة مجموعة شليابنيكوف – كولنتاي. وقد وقف لينين شخصياً ضد هذه المعارضة واتهمها بالانزلاق نحو "الفوضوية السنديكالية" وطرح بنفسه القرار التاريخي الخاص بـ "وحدة الحزب" أثناء المؤتمر العاشر والذي يحظر تشكيل تكتلات داخلية تحسباً من تحولها مستقبلاً إلى أحزاب منفصلة. وكانت الحجة الرئيسية في انتقادات المعارضة العمالية للسلطة تكمن في أن حزب البلاشفة، الذي يعتبر نفسه حزباً عمالياً ويصف سلطته بأنها "ديكاتورية البروليتاريا"، كان منذ نشوئه يتألف، إلى حد كبير، من المثقفين الراديكاليين، الذين كانوا يشيرون في شتى المناسبات إلى أنهم "كتاب". أما بالنسبة لحكومة لينين فلم تكن تضم سوى وزيرين من أصل عمالي وهما الكسندر شليابنيكوف وفكتور نوغين. وخلال مجمل تاريخ الحزب لم تتجاوز نسبة العمال ضمن أعضائه 50 بالمئة إلا في عام 1923.
وتجلى القرار التاريخي الثاني للمؤتمر في إلغاء قانون مصادرة فوائض المحاصيل لدى الفلاحين واستبدال ذلك بفرض ضريبة زراعية محددة. وقد أفضى هذا الأمر إلى إعلان السياسة الاقتصادية الجديدة (نيب) التي ضمنت للبلد سلماً مدنياً استمر حتى نهاية العشرينات.
في نيسان/ أبريل عام 1922 أجريت بعض التعديلات في القيادة العليا للحزب أثناء الاجتماع الموسع للجنة المركزية حيث تشكّل قوام جديد للمكتب السياسي (لينين وتروتسكي وكامنيف وزينوفييف وتومسكي وريكوف فضلاً عن ثلاث أعضاء مرشحين للمكتب السياسي وهم : بوخارين وكالينين ومولوتوف). وانتخب ستالين عضواً في المكتب السياسي وأميناً عاماً للحزب. وقد كان هناك تصور لدى جميع القادة الحزبيين أن منصب الأمين العام مجرد منصب فني وإداري وأن السلطة ستبقى في أيدي المكتب السياسي. وفي هذه الأثناء بدأ الصراع على النفوذ داخل الحزب بعد أن تدهورت حالة لينين الصحية نتيجة إصابته بسكتة دماغية ثالثة. وحمي وطيس هذاالصراع بعد رحيل لينين . وقد ظهرت ضمن قيادة الحزب أربع مجموعات غير رسمية تمثل الطامحين الأربعة لخلافة لينين وكل منها تتطلع إلى الاستيلاء على السلطة وهي كالتالي:
1- المجموعة التروتسكية (راديك ومورالوف وأنطونوف- اوفسيينكو وراكوفسكي ويوفيه وبريوبراجنسكي وبيلوبوردوف وغيرهم).
2- مجموعة زينوفييف (كامنيف وسوكولنيكوف و كروبسكايا وسافاروف).
3- مجموعة ستالين (مولوتوف وفوروشيلوف وأوردجنيكيدزه وكاهانوفتش وميخليس وكيروف وميكويان).
4- مجموعة بوخارين (ريكوف وتومسكي وستيتسكي).
وفي نفس الوقت تشكلت ضمن المكتب السياسي مجموعة ضيقة متنفذة (ترويكا) تضم زينوفييف وكامنيف وستالين. وكان جل اهتمام هذه الترويكا يكمن في الحيلولة دون وصول تروتسكي إلى زعامة الحزب. ومن أجل صياغة موقف مشترك ومتماسك إزاء القضايا المطروحة في جلسات المكتب السياسي اتفق أعضاء الترويكا على أن يعقدوا اجتماعاً منفرداً قبيل كل جلسة لبحث هذه القضايا وتنسيق مواقفهم منها.
ووفي تلك الأثناء قام بعض زعماء البلاشفة وعلى رأسهم تروتسكي بشن حملة انتقادية ضد استفحال البيروقراطية في أجهزة الحزب والحكومة والتضييق على الديمقراطية داخل الحزب وتسلط مجموعة الأغلبية في المكتب السياسي. وقد ردّ ستالين على تهجمات تروتسكي متهماً إياه بتشكيل معارضة وتكتلات حزبية وخرق الانضباط الحزبي والعمل على شق صفوف الحزب.
وخلال الإعداد لعقد المؤتمر الثالث عشر للحزب البلشفي (عام 1924) قام ستالين وأنصاره المسيطرون على أمانة الحزب واللجنة التنظيمية باتخاذ العديد من الإجراءات لتعزيز مواقعهم في القيادة الحزبية (قبول أعداد كبيرة في عضوية الحزب وتبديل قادة المنظمات الحزبية المحلية بأشخاص أقل خبرة وكفاءة ولكن أكثر ولاءً).
وفي غضون فترة قصيرة استمرت عاماً ونصف تقريباً كان زينوفييف عملياً رئيس الحزب والدولة. فأثناء انعقاد المؤتمر الثاني عشر للحزب (نيسان/ أبريل عام 1923) قام بتلاوة التقرير السياسي الرسمي للجنة المركزية بينما جرت العادة على أن يقوم لينين بتقديم هذا التقرير. وحسب تصورات تلك المرحلة كان ذلك إشارة واضحة أنه يلعب دور الخليفة. وتكرر هذا الأمر خلال أعمال المؤتمر الثالث عشر(أيار/ مايو عام 1924). وفي عشية انعقاد المؤتمر المذكور اتُّهم تروتسكي بخوض صراع انقسامي داخل الحزب والسعي إلى تحريض الشبيبة ضد قيادة الحزب. وكان لدى اللجنة المركزية أغلبية ثابتة من أنصار زينوفييف وستالين، ولذلك عند البت في القضايا عبر التصويت كان تروتسكي معزولاً عن اتخاذ القرارات. وقد زاد في الطين بلة بدء عملية توسيع قوام اللجنة المركزية في عام 1923، إذ كان الأعضاء الجدد من أنصار زينوفييف وستالين ولم يكن في قوامها البالغ 40 عضواً سوى ثلاثة أعضاء من المؤيدين لتروتسكي وهم بياتاكوف وراديك وراكوفسكي.
على كل حال خاضت الترويكا صراعاً ضارياً ضد تروتسكي، الذي كان في أعين الكثيرين من المعاصرين الأوفر حظاً لخلافة لينين. فالمعروف أنه خلال الثورة والحرب الأهلية أصبح عملياً الشخص الثاني في البلد بعد لينين. وقد أحيطت شخصيته خلال عدة سنوات بهالة رومانسية باعتباره أحد صانعي ثورة أكتوبر ومؤسس الجيش الأحمر والقائد الحديدي للجبهة الحمراء المظفرة. ولكن رغم الجوانب القوية العديدة في شخصيته - الطاقة الهائلة والقدرات التنظيمية وموهبة الخطابة، فقد كانت لديه نقائس ملحوظة مثل الميل إلى الإتيان بحركات مسرحية غير مبررة في كثير من الأحيان والنزعة الأنانية المفرطة وأسلوب القيادة التسلطي، بينما كان يسود الحزب آنذاك طابع القيادة الجماعية. كما أن السنوات، التي قضاها تروتسكي في الجيش، عمقت من نزوعه إلى الوسائل الآمرية العسكرية.
ورغم كافة الإشارات المثيرة للقلق تابع تروتسكي مساعيه لخلافة لينين في زعامة الحزب حيث استغل الخصام المؤقت بين زينوفييف وستالين فكتب مقالة كبيرة بعنوان" حول لينين" ونشر مجموعة من مقالاته وخطاباته بعنوان "دروس ثورة أكتوبر"، التي صوَّر فيها نفسه كقائد كبير ومن أقرب رفاق لينين في النضال، وذكَّر الحزب بأنه كان في عام 1917 أحد منظمي انتفاضة أكتوبر بينما كان زينوفييف وكامنيف عموماً ضدها. وللتأكيد على الدور الحاسم، الذي لعبه بالاشتراك مع لينين في انتصار البلاشفة، أشار تروتسكي قائلاً : " لو لم نكن أنا ولينين ببتروغراد في أكتوبر لما حدث الإنقلاب البلشفي". وردّاً على ذلك شنّ جماعة ستالين حملة شعواء ضد تروتسكي فاتهموه بالتشويه المتعمّد لتاريخ الحزب. ونُشرت بهذا الصدد رسائل قديمة له تضمنت تقييماً سلبياً للينين. كما أن ستالين وزينوفييف وبوخارين اتهموه بالمنشفية والسعي إلى استبدال اللينينية بالتروتسكية، التي لا تتعدى عن كونها تعاليم "برجوازية صغيرة معادية للينينية". وفي محصلة هذه المجالات مُنيَ تروتسكي بهزيمة نكراء. ففي كانون 2/ يناير عام 1925 حل محله في منصبي وزير الحربية ورئيس المجلس العسكري الثوري القائد العسكري الشهير، في ذلك الوقت، ميخائيل فرونزه، الذي توفي في تشرين 1/ أكتوبر من العام نفسه في ظروف لم تتضح معالمها حتى النهاية. وقد أكدت المعارضة آنذاك أن ستالين كان وراء وفاته. وبهذا الصدد أشار سكرتير ستالين السابق باجانوف، الذي هاجر فيما بعد إلى الغرب، بأن فرونزه لم يكن فعلياً من أنصار ستالين ولا من جماعة تروتسكي، وربما كان يحضر لانقلاب عسكري.
ومن أجل تفعيل المساعي لمواجهة تروتسكي تشكلت خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية المنعقد في آب/اغسطس عام 1924 مجموعة "الأعضاء السبعة" بعد إضافة كل من ريكوف وتومسكي وبوخارين وكويبشيف إلى الترويكا.
ولكن في تشرين 1/أكتوبر عام 1925 انفرط عقد مجموعة "السبعة" وقدم زينوفييف وكامنيف وسوكولنيكوف وأرملة لينين ناديجدا كروبسكايا ("منبر الأربعة") وثيقة تنتقد سياسة الحزب من مواقع يسارية. وفي الوقت نفسه كان تروتسكي قد خسر في مطلع العام منصبيه الحساسين المذكورين آنفاً بناء على قرار هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية المركزية لعموم الاتحاد السوفيتي. وبقي عضواً في المكتب السياسي لكنه حُرم من إمكانية التطلع إلى زعامة البلد.
وآنذاك طرح ستالين وللمرة الأولى مسألة بناء الاشتراكية في بلد واحد وشرع في القيام بعمل منهجي من أجل رص صفوف أنصاره وتشكيل الأغلبية في المؤتمر الحزبي الرابع عشر المقبل لمناهضة زينوفييف وكامنيف. ولهذا الهدف تحالف ستالين مع مجموعة بوخارين وريكوف وتومسكي "اليمينية" المعبرة عن مصالح الفلاحين بالدرجة الأولى. وفي هذا الصراع الدائر بين"اليمين" و"اليسار" كان ستالين يقدم امكانيات الجهاز الحزبي بينما كان الباقون وخاصة بوخارين يعملون كمنظرين إيديولوجيين.
أما زينوفييف فقد تجمع حوله ما يُعرف بالمعارضة اللينينغرادية، التي ضمت "منبر الأربعة". وكانت هذه المجموعة تعبر عن مصالح وتطلعات عمال لينينغراد المعروفين بميولهم اليسارية الراديكالية، والمستائين من سلبيات النيب، والرافضين بشدة لفكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد. وقد سبق التحضير للمؤتمر استعدادات غير عادية حيث واظب زينوفييف على تطهير جميع" الستالينيين" من قوام الوفد اللينينغرادي. وبوصفه سكرتير المنظمة الحزبية في المدينة كان يعين أنصاره في المناصب الهامة، مما ضمن له بسط السيطرة على العاصمة السابقة حتى انعقاد المؤتمر الرابع عشر للحزب (كانون 1/ ديسمبر عام 1925).
وكان زينوفييف وكامنيف يعولان على الوفود الثلاثة الأكثر تأثيراً لتحقيق الفوز في المؤتمر الرابع عشر للحزب وهي وفود موسكو ولينينغراد وأوكرانيا. ولكن كاهانوفتش - وهو أحد أنصار ستالين - تمكن عبر العديد من المكائد استمالة الشيوعيين الأوكرانيين إلى "المعسكر الستاليني". كما أن سكرتير المنظمة الحزبية في موسكو ومقاطعتها نيكولاي أوغلانوف آثر الانتقال إلى جانب ستالين. وهكذا فقد بقيت تحت سيطرة المعارضة لينينغراد فقط. وكان زينوفييف يأمل جذب ميول الحزب من خلال النقاشات التقليدية، التي تسبق عادة انعقاد مؤتمر الحزب. غير أن ستالين، الذي بقي يشعر بضعفه في القضايا الإيديولوجية، توصل إلى إلغاء هذه النقاشات عموماً بذريعة مناهضة الانشقاقات المحتملة في الحزب. وبالإضافة إلى ذلك فإن الوثائق البرامجية للمعارضة لم تكن قد نشرت إذ أن صحيفة الحزب المركزية أعادت المقالات إلى مؤلفيها.
وقد رافق الإعداد للمؤتمر العديد من الفضائح. ففضلاً عن التدابير الأخرى اضطر الجانبان المتصارعان إلى اللجوء للتطهيرات. واندلعت في الصحافة مناظرات عنيفة بين دوريات موسكو ولينينغراد ووصلت إلى حد التشاتم. وقد وصف بوخارين في كلمته أمام المؤتمر الرابع عشر مقالات صحيفة" لينينغرادسكايا برافدا" بأنها أشبه بالزعيق والولولة.
وقبيل انعقاد المؤتمر جرى تطهير الوفد اللينينغرادي من الشيوعيين المعروفين بميولهم الستالينية. ومن جهة أخرى فإن زينوفييف اتهم أولانوف بتطهير منظمة موسكو الحزبية من أنصار المعارضة. وفي معرض انتقاده لتصرفات زينوفييف آنذاك أشار أنسطاس ميكويان قائلاً : "من المعروف أن زينوفييف عندما كان يدعو إلى الانضباط الصارم والانصياع لمقررات الحزب لدى حيازته في السابق على الأغلبية. ولكن حينما لم تعد تتوفر لديه هذه الأغلبية نراه اليوم يعارض ذلك". ومن اللافت أن موقف زينوفييف وأنصاره من الديمقراطية الحزبية الداخلية مر بنفس المسار، الذي شهده موقف تروتسكي قبل بضعة أعوام. فلدى تزعمهما للأغلبية كانا يدعوان إلى قمع المعترضين بحجة مناهضة التكتلات والنشاط الانشقاقي. ولكن ما أن وجدا نفسيهما ضمن الأقلية حتى تذكرا بسرعة ضرورة توفر آراء مختلفة في الحزب.
في عشية المؤتمر شرعت صحف موسكو ولينينغراد الحزبية بتبادل الاتهامات. وتحسباً لحصول الهزيمة في المجادلات مع إيديولوجي مخضرم كزينوفييف منع ستالين الجدال التقليدي، الذي يسبق انعقاد عادة مؤتمر الحزب، بذريعة محاربة التكتلات في الحزب. ولذلك لم يتسن للمعارضين نشر وثائقهم المنهجية فقاموا أخيراً بتوزيعها مباشرة في المؤتمر.
لقد كان زينوفييف، شأنه شأن تروتسكي، ينظر إلى الثورة في روسيا كمرحلة أولى في مسيرة الثورة العالمية ولهذا لم يستطع قبول أطروحة ستالين حول بناء الاشتراكية في بلد واحد. كما أن عمله كرئيس للكومنترن جعله أكثر قناعة في ذلك وعزز آراءه السياسية ذات المنحى اليساري الراديكالي. وكان من المعروف عن زينوفييف أنه "تلميذ لينين" وأحد أكثر المقربين إليه. وبالفعل فقد عاد لينين إلى روسيا في نيسان/أبريل عام 1917 بصحبة زينوفييف واختبأ معه عن أنظار الحكومة المؤقتة في فنلندا عقب انتفاضة يوليو المسلحة الفاشلة.
في كتابه "مذكرات سكرتير ستالين الشخصي" يتطرق بوريس باجانوف إلى وصف شخصية زينوفييف، الذي كان في غضون فترة طويلة على احتكاك معه بحكم عمله كسكرتير للمكتب السياسي ولستالين، فيقول "كان زينوفييف شخصاً ذكياً واتصف في الوقت نفسه بالخبث وحبك الدسائس. وقد اجتاز مدرسة البلشفية الطويلة قبل الثورة. وكشخص جبان كان يسعى دوماً إلى تجنب المخاطر أثناء العمل السري. ولهذا قضى معظم وقته خارج روسيا. وفي صيف عام 1917 عارض مساعي لينين الرامية إلى التعجيل بالثورة. ومع ذلك فإن لينين سرعان ما صفح عنه ووضعه في مطلع عام 1919 رئيساً للكومنترن. ومنذ ذلك الحين أصبح يصف نفسه تلميذاً للزعيم البلشفي وأحد أتباعه المقربين. وكان هذا الموقف ملائماً له في سعيه الدؤوب لخلافة لينين. ولكنه لم يكن على مستوى القضية لا كمنظر ولا في مجال العمل التنظيمي. وقد أخضع كل شيء لتكتيك الصراع على السلطة، وحاول جاهداً الاعتراض على كل ما يقوله أو يقترحه تروتسكي. والأمر الوحيد، الذي استطاع القيام به بنجاح، هو الإمساك بالسلطة على نحو قوي في لينينغراد. غير أن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق الهدف المنشود رغم تزعمه للكومنترن. فإن بوسع سيد الكرملين أن يعين في هذا المنصب من يشاء"..(بوريس باجانوف. مذكرات سكرتير ستالين السابق. الفصل 11. موسكو، دار نشر"الغوريتم"، 2014، ص. 38).
ويشير باجانوف إلى أن فشل زينوفييف في الصراع مع ستالين يعود بالدرجة الأولى إلى عدم إدراكه الكافي للعمليات الدائرة في الجهاز الحزبي، حيث أن اعتلاء السلطة يتطلب توفر تأييد الأكثرية في اللجنة المركزية. وبما أن هذه اللجنة تنتخب من قبل المؤتمر الحزبي فينبغي إذن تأمين الأكثرية ضمن المندوبين القادمين من منظمات المقاطعات والأقاليم وهذا يحتاج إلى إقامة علاقات وثيقة مع قادة هذه المنظمات قبل انعقاد المؤتمر. ومهما يكن من أمر فإن زينوفييف لم يكن يحظى برضى الحزب وتعاطفه.(المصدر السابق).
في الاجتماع الموسع لقيادتي الحزب والكومنتيرن، الذي عقد في نيسان/ أبريل عام 1925، نشأت خلافات ضمن القيادات الحزبية العليا بخصوص إمكانية بناء الاشتراكية في بلد منفرد حيث اقترح زينوفييف، بوصفه سكرتير اللجنة التنفيذية للكومنتيرن، أن يُدرج في القرار الختامي للاجتماع أن انتصار الاشتراكية لا يمكن أن يتحقق إلا على النطاق العالمي. وأثار هذا الطرح جدالاً ساخناً أدى إلى ظهور تصدّع في مجموعة الثلاثة (الترويكا). ولوضع حدّ لهذه الخلافات اقترح زينوفيف وكامنيف على ستالين توسيع مجال الديمقراطية داخل الحزب، والتخلي عن حصر كل المهام والوظائف ضمن نطاق أمانة اللجنة المركزية. كما اعتبر زينوفييف وكامنيف أن تطور القطاع الخاص في الزراعة يشكل خطراً على الاشتراكية وأصر كلاهما على ضرورة مصادرة منتجات القرية لصالح المدينة وتوسيع الصادرات الزراعية على حساب "العناصر الميسورة" في الريف.
وخلال أعمال المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي (البلاشفة)، الذي انعقد أواخر عام 1925 في جو مفعم بالصخب والاتهامات المتبادلة، تشكلت ضمن صفوف المندوبين "معارضة جديدة" ترأسها زينوفييف وكامنيف اللذان طالبا بتنحية ستالين من منصب الأمين العام نظراً لأنه، في اعتقادهم، جمع في قبضته الوظائف السياسية والتنظيمية ووضع نفسه فوق الجهاز السياسي فضلاً عن كونه ليس بالشخصية القادرة على أن تجمع حولها القيادة البلشفية السابقة. غير أن المؤتمر رفض اقتراح المعارضة الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك فإن قوام المكتب السياسي الجديد عزّز مواقع ستالين حيث أنه ضمّ كالينين ومولوتوف وفوروشيلوف بينما نُقل كامنيف من عضو المكتب السياسي إلى مرشح لعضوية المكتب السياسي. كما ضعفت مواقع زينوفييف عقب انتخاب سيرغي كيروف سكرتيراً أول للمنظمة الحزبية في مقاطعة لينينغراد عوضاً عنه.
وفي هذا المؤتمر تلا ستالين للمرة الأولى التقرير السياسي الرسمي للجنة المركزية. وبذلك أعلن نفسه الزعيم الجديد للحزب الشيوعي الحاكم.
وفي هذا المؤتمر بالذات اتخذت القرارات المتعلقة بتحويل الاتحاد السوفيتي من بلد يستورد الآلات ووسائل الإنتاج المختلفة إلى بلد يقوم بتصنيعها بنفسه، والمضي قدماً في إنشاء فروع صناعية جديدة، والتركيز عموماً على الصناعة الثقيلة لضمان استقلال البلد وتأمين قدراته الدفاعية. وخلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية (نيسان/ أبريل عام 1926) طرحت من جديد مسألة الإسراع بتطوير الصناعة. وقد جاء ذلك على لسان تروتسكي، الذي طالب بزيادة الضرائب على الفلاحين وإعادة توزيع أموال الميزانية لصالح التصنيع. وحصل هذا الطرح على دعم زينوفييف وكامنيف وأدى لاحقاً إلى تسمية "التحالف الجديد"بالمعارضة اليسارية الموحدة. كما أن أحد أنصار تروتسكي وهو بريوبراجنسكي اقترح تحصيل الموارد اللازمة لتطوير الصناعة من خلال تراكم رأس المال على حساب الفلاحين، أي تحقيق ما يسمى عند ماركس بـ "التراكم البدائي لرأس المال"، ولكن ليس بأيدي الرأسماليين وإنما بفضل استغلال الريف.
وعلى خلفية تدهور الوضع الاقتصادي واحتدام الصراعات الحزبية الداخلية قامت المعارضة في تموز/ يوليو عام 1926 بتوزيع بيان يحمل تواقيع أكثر من 1500عضو من ممثلي الحرس الحزبي القديم. وحاول زعماء المعارضة الحصول على دعم الأحزاب الشيوعية الأجنبية. ولكنهم لم يفلحوا في ذلك. وإن حظر الدعاية المكشوفة لآراء ومواقف المعارضة دفعها في نهاية المطاف إلى إنشاء مركز سري بقيادة تروتسكي وزينوفييف. وقد بدأ هذا المركز بتوزيع المناشير والمواد الدعائية في أوساط العمال.
وفي منتصف عام 1926 تحالف أنصار تروتسكي مع المعارضة الجديدة وكذلك مع بعض المشاركين السابقين في"المعارضة العمالية" ومجموعة "المركزية الديمقراطية" وبعض الشخصيات الجورجية المعارضة، مثل بودو مديفاني وميخائيل أكودجافا وسيرغي كفتارادزه فشكلوا كتلة "المعارضة اليسارية الموحدة" تحت شعار "لنوجه النار نحو اليمين ضد أصحاب النيب والكولاك والبيروقراطيين". وقد مُنيت المعارضة الموحدة بالهزيمة حيث حصلت المجموعة المؤيدة لستالين على أغلبية الأصوات. وبدا تحالف تروتسكي مع زينوفييف للكثير من المعاصرين حدثاً خيالياً بل أنه كان بالنسبة لمنظمة ليننغراد الحزبية شيئاً سحرياً. ورداً على اتهامهما بالنزعة التكتلية أجاب زينوفييف بأن"مجموعة "السبعة"، التي شارك فيها ستالين، كانت أيضاً هيئة تكتلية تتنافى مع النظام الداخلي للحزب.
ولدى انعقاد الاجتماع الموسع للجنة المركزية في تشرين 1/أكتوبر عام 1926 أعلنت المعارضة عن رغبتها في التصالح مع أغلبية اللجنة المركزية وتخليها عن الصراع التكتلي من أجل درء خطر انشقاق الحزب. ولكن الصراع في واقع الأمر ما لبث أن عاد من جديد وأُدى إلى إخراج تروتسكي وزينوفييف وكامنيف من قوام المكتب السياسي.
وفي مناهضتها للمعارضة باتت الأغلبية تلجأ إلى التعويق وإثارة الضجيج وهو الأسلوب، الذي استخدم في الهيئات السوفيتية ضد المناشفة والاشتراكيين الثوريين في العامين 1917-1918، حيث كان يجري مقاطعة كلمات الخطباء بالصراخ والتصفير ورميهم بشتى الأشياء. وقد كان الأمر يصل أحياناً إلى جرهم من على المنابر.
وفي تموز/ يوليو عام 1927عقد اجتماع موسع ومشترك للجنة المركزية وهيئة الرقابة الحزبية قامت خلاله المعارضة اليسارية بطرح برنامجها الوارد في "بيان مجموعة الثلاثة عشر"، الذي وقعه 13 من أعضاء اللجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية وضمنهم تروتسكي وزينوفييف وكروبسكايا. واعتبر الموقعون سياسة ستالين تشويهاً لدكتاتورية البروليتاريا حيث أنها تحولت، في واقع الأمر، إلى نظام بيروقراطي وأصبحت سبباً أساسياً للأزمة التي يشهدها الحزب.
ولمعاقبة هؤلاء المعارضين قرر الاجتماع المذكور فصل تروتسكي وزينوفييف وكامنيف من عضوية اللجنة المركزية للحزب.
كان ستالين يعمد تدريجياً إلى إزاحة المعارضة، التي أضحت ضمن الأقلية، ودفعها إلى خارج أطر"العلنية السوفيتية". ومن جهة أخرى كان لدى زعماء المعارضة خبرة واسعة في ممارسة النشاط السري اكتسبوها قبل الثورة. وقد شرعوا باستخدامها في صراعهم مع ستالين، إذ قاموا بتنظيم تعاون مع العمال وتوزيع المنشورات وغير ذلك من المطبوعات الممنوعة. وقد أشار مؤرخ الثورة البلشفية اسحاق دويتشر إلى أن المعارضين كانوا يعقدون لقاءات سرية في الغابات والمقابر ويضعون الحراسة والدوريات اللازمة. كما كان لديهم مراكز تنسيق مع الشرطة السرية والجيش. وقد حضر اللقاءات مع العمال حوالي 20 ألف شخص في موسكو ولينينغراد.
في خريف عام 1927 جرت مناظرة ما قبل المؤتمر الحزبي وخلال ذلك رفضت اللجنة المركزية نشر برامج المعارضة الأمر، الذي لم يتح لمعظم أعضاء الحزب الاطلاع عليها، فاضطرت المعارضة لتوزيعها بصورة غير علنية مما أدى إلى فصل العديد من أنصارها قبل انعقاد المؤتمر. وفي حالات كثيرة لم يسمح للمعارضين حضور الاجتماعات الحزبية فحرموا من إمكانية الدفاع عن وجهة نظرهم.
وعقب مشاركة تروتسكي وزينوفييف في موسكو بمظاهرة احتجاجية موازية للمسيرة الاحتفالية الرسمية نظمها أنصارهما بمناسبة ذكرى مرور عشرة أعوام على ثورة أكتوبر( في السابع من تشرين 2/ نوفمبر عام 1927) تمّ فصلهما من الحزب خلال انعقاد الاجتماع الموسع المشترك للجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية، وذلك طبقاَ للآلية ،التي اقترحها لينين شخصياً في عام 1921 ضد "المعارضة العمالية".
وفي المؤتمر الخامس عشر للحزب (كانون 1/ ديسمبر عام 1927) أُعلن بأن آراء المعارضة اليسارية وتروتسكي تتعارض مع العضوية في الحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي (البلاشفة).
وأثناء المؤتمر صدر قرار بعنوان "حول المعارضة". واتهم هذا القرار المعارضة بالمنشفية ومعاداة الثورة ومناهضة دكتاتورية البروليتاريا والانتقال إلى صفوف أعداء السلطة السوفيتية. وبناء عليه فصل من الحزب 76 شخصية معروفة من نشطاء المعارضة الموحدة ومن ضمنهم كامنيف وراديك وبياتاكوف، وكذلك أعضاء مجموعة تيموفي سابرونوف ووزير التجارة والصناعة السابق فلاديمير سميرنوف.
وبموجب قرار المؤتمر المذكور كلفت اللجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للتأثير الفكري على الأعضاء العاديين المناصرين للمعارضة التروتسكية بهدف إرشادهم إلى جادة الصواب مع القيام، في الوقت نفسه، بتطهير الحزب من جميع العناصر المتعذر إصلاحها من عداد هذه المعارضة.
وخلال المناقشات السابقة لانعقاد المؤتمر صوّت لصالح المعارضة 4120 عضواً حسب المعطيات الرسمية وامتنع 2676 عن التصويت، كما تعرض إلى الفصل من الحزب حوالي 8 آلاف معارض.
وبسحق المعارضة الموحدة الأخيرة تسنى لستالين والدائرة المحيطة به تحويل دفة سياسة الحزب بحدة. ومع ذلك أظهر هذا المنعطف الكبير أنه لم يكن لدى المنتصرين أي برنامج إيجابي قادرعلى فتح آفاق جديدة في تطور البلد.
لقد استطاع ستالين، في نهاية المطاف، التغلب على تروتسكي عبر التحالف مع زعماء الحزب والدولة في ذلك الوقت وعلى رأسهم زينوفييف وكامنيف. وكان هذان الزعيمان يعلمان علم اليقين بطموحات تروتسكي الدكتاتورية ويخشيان أن يصبح الشخص الأول في البلد فيلقي بهما على حافة الطريق ويبقي عليهما تنفيذ أوامره، بينما كان ستالين يبدو لهما محدود الأفق وغير مستقل القرار ويتصرف كتلميذ للينين وحامل لأفكاره.
ومن جهته كان ستالين يدرك تماماً أن زينوفييف وكامنيف حليفان مؤقتان. وقد تجلت ركيزته الفعلية في الكتلة الحزبية "الرمادية" المتمثلة في العمال والجنود السابقين، إذ أنه كان بالنسبة لهم أقرب من تروتسكي المعروف بطموحاته النابليونية وإعداماته الجماعية وبإحضاره إلى روسيا من الولايات المتحدة مجموعة كبيرة من "الأصدقاء الأمميين"، الذين أتاح لهم أن يشغلوا مناصب هامة في أجهزة الدولة السوفيتية. وقد سعى ستالين إلى زيادة عدد أنصاره في الحزب من خلال قبول أعداد جديدة ومن أبرزها دفعة عام 1924 ،التي سميت بالدفعة اللينينية، وبلغ تعداد أفرادها 200 ألف عضو معظمهم من الجماهير الجاهلة. وبفضل هذه المجموعة الجديدة عزز ستالين مواقع الجناح الوطني الروسي. وقد كان يستخدم في صراعه مع منافسيه الجهاز الإداري الحزبي الخاضع له باعتباره السكرتير العام للحزب. وطبعاً لم يقتصر الأمر على ذلك إذ كان يلجأ أيضاً إلى المناورة والدسائس المختلفة.
- ستالين ضد بوخارين. مناهضة "الانحراف اليميني" 1928-1929
لدى خوضه مواجهة فكرية مكشوفة مع شخصية بارزة وخطيب مفوه مثل تروتسكي أو مفكر حزبي مخضرم كزينوفييف لم يكن لدى ستالين خبرة خاصة وموهبة المنظر الحزبي فاضطر حتى عام 1928 إلى صد الهجمات الفكرية للمعارضة من خلال التحالف مع بوخارين، الذي كان يشرف آنذاك على الإمبراطورية الإعلامية السوفيتية، حيث ترأس هيئة تحرير صحيفتي البرافدا والبلشفيك وشغل في عام 1926 منصب الأمين العام للكومنترن. ولكن هذا الثنائي لم يدم طويلاً. فرغم أن بوخارين كان الشخص المناسب لدور الوسيط وكان بوسعه أن ينفذ بشكل باهر هذه الطلبية الإيديولوجية أو تلك، لكنه كان يطمح ،في الوقت نفسه، إلى بلوغ الزعامة وخاصة في القضايا النظرية. ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن مقبولاً بالنسبة لستالين، ولا سيما أنه كانت بينهما خلافات ملموسة وبالتحديد حول نظرية الاشتراكية التعاونية الزراعية، التي كانت تقضي بتذليل احتكار الدولة في المجال الاقتصادية تدريجياً من خلال إطلاق آلية" السوق الحرة". وقد رفضها ستالين رفضاً باتاً وركز على استخدام الأساليب الإدارية الصارمة في عملية البناء الاشتراكي، التي لم يعتبرها الأكثر فعالية فحسب، بل ورأى فيها الوسيلة الوحيدة الممكنة في ظروف التوتر الداخلي الشديد والوضع السياسي الخارجي القائم في عام 1927 (قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وانتقال الزعيم الصيني شان كاي شيك إلى جانب الغرب واليابان).
وبعد إلحاق الهزيمة بالمعارضة اليسارية وأفكارها طرأ على الحالة المزاجية العامة في سنة 1928 تبدل مفاجئ يرجع، ضمن أمور أخرى، إلى أزمة تخزين الحبوب لسنة 1927 الناجمة عن احتفاظ الفلاحين لمحاصيلهم نظراً لعدم رغبتهم ببيعها وفق الأسعار السائدة. وقد وصفت السلطات هذه الظاهرة آنذاك بـ" الإضراب المحصولي الكولاكي". وكانت الدولة بحاجة ماسة إلى تصدير كميات غير قليلة من القمح للخارج من أجل الحصول على الموارد المالية اللازمة لإنفاقها على عملية التصنيع المقبلة. ومما زاد في الطين بلة أن أسعار الحبوب العالمية بدأت بالهبوط.
وفي ظل هذه الظروف شرع الحزب بالانتقال تدريجياً في ميدان تخزين الحبوب إلى استخدام أساليب بعيدة عن اقتصاد السوق. وبدأ ستالين علناً في التقاط شعارات " التكتل التروتسكي- الزينوفييفي" المغلوب وتعليل أسباب الأزمة بالتخريب الكولاكي والمقاومة الخفية لإجراءات الدولة. وحينئذ في عام 1928 لجأ إلى اتهام بوخارين وجماعته بالانحراف اليميني وصار ينفذ برنامج "اليساريين" الرامي إلى تقليص نطاق النيب والتضييق عليه والتعجيل بعملية التصنيع. وفي الكونغرس السادس للكومنترن(1928) اعتبر ستالين" الانحراف اليميني" الخطر الرئيسي على الحركة الشيوعية العالمية.
ولم يتوقف الأمرعند إدراج مجموعة بوخارين في قائمة "المنحرفين اليمينيين" بل تعدى ذلك إلى إلصاق هذه التهمة بنيكولاي أوغلانوف ومارتيميان ريوتين، اللذين ساهما بقسط وافر في سحق "اليساريين" بموسكو.
وفي عام 1929 أصبح معلوماً للسلطات أن بوخارين يجري مباحثات سرية مع كامنيف لتشكيل كتلة "يمينية – يسارية". ولكن في نيسان/ أبريل من العام نفسه مُني بوخارين وريكوف بهزيمة نكراء أثناء انعقاد الاجتماع الموسع للجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية، حيث تقرر إدانة" الانحراف اليميني" بالأغلبية الساحقة من الأصوات (300 مقابل 13). وفي الاجتماع الموسع المنعقد بنوفمبر عام 1929 اعتبر الانتماء إلى" الانحراف اليميني" أمراً يتعارض مع عضوية الحزب. وبناء على ذلك أقيمت حملة فصل جماعي من الحزب. وصارت المجموعة اليمينية توصف رسمياً بأنها"عميلة الكولاك في الحزب". والجدير بالذكر أن تسمية الجناحين "اليميني" و"اليساري" في الفضاء السياسي السوفيتي داخل الحزب الحاكم خلال العشرينات كان مجرد تسمية افتراضية، حيث أن الصراع كان يجري، في حقيقة الأمر، على السلطة وقد انتهى بانتصار ستالين. ثم اندلع صراع جديد عقب وفاته.
- المعارضة اليسارية بعد عام 1927
بعد فصل زينوفييف وكامنيف ومعظم أنصارهما من الحزب اعترف هؤلاء بأخطائهم وأعيدت إليهم عضويتهم في الحزب. ولم يبق في المعارضة اليسارية إلا "مجموعة زينوفييف اليسارية". ولكن في تلك الفترة لم يعد لدى زينوفييف وكامنيف أي نفوذ يذكر داخل الحزب. أما تروتسكي وأنصاره فلم يتخلوا عن آرائهم وقد تعرض آلاف المعارضين في مطلع عام 1928 للنفي إلى الأصقاع النائية للاتحاد السوفيتي، مثل منطقتي كاليما وفوركوتا، وما لبث أن أضحى العديد منهم في السجون والمعتقلات.
واعتباراً من تموز/ يوليو عام 1929 بدأت بالصدور في باريس مجلة" المعارضة البلشفية اللينينية". وكان ينشر فيها مواد تحليلية حول الوضع في الحزب البلشفي وأسباب هزيمة المعارضة اليسارية. كما كان يجري تقييم الأحداث الجارية في الاتحاد السوفيتي. وإلى جانب تروتسكي ونجله الأكبر ليف سيروف كان يشارك في إعداد هذه المواد مجموعة كبيرة من المعارضين البارزين مثل يفغيني بريوبراجنسكي وكارل راديك وخريستيان راكوفسكي وغيرهم. وكانت المجلة تنشر بدون ذكر الأسماء أحاديث أنصار تروتسكي غير العلنيين من الدبلوماسيين والموظفين، الذين يقومون بمهام عمل في الخارج وكذلك رسائل المعارضين المشتتين في كافة أرجاء البلاد.
وفي عام 1930 قام أنصار تروتسكي المفصولين من الأحزاب الشيوعية بإنشاء معارضة يسارية دولية كمعارضة خارجية لسياسة الكومنترن الستالينية. وقد أصبحت منذ عام 1933 تسمى بالعصبة الشيوعية الدولية التي غدت نواة الأممية الرابعة وصار مقرها في باريس.
وقد كان المصير اللاحق للمعارضة اليسارية في الاتحاد السوفيتي مأساوياً إلى أقصى الحدود. فقد تخلى بياتاكوف وراديك وأنطونوف- أوفسيينكو عن متابعة المسيرة النضالية واعتبروها معدومة الآفاق بل أنهم أصبحوا مشايعين للنهج الحزب العام. أما الآخرون وضمنهم فلاديمير سميرنوف وتيموفي سابرونوف وآلالاف من أنصار تروتسكي، الذين لم يعربوا عن توبتهم، فقد نقلوا من المنفى إلى السجون. وفي العامين 1935-1936 أرسلوا إلى معسكرات الاعتقال في مناطق الشمال الأقصى القريبة من الدائرة القطبية ثم أعدموا هناك دون أي محاكمة. واعتبر الباقون من أنصار المعارضة مقاومة النظام أمراً مستحيلاً وأعلنوا توبتهم ثم أُعيدوا إلى صفوف الحزب.
في كانون 2/ يناير عام 1928 قام جهاز الأمن السياسي" او.غي. بي.أو" بنفي تروتسكي إلى مدينة ألما آتا بكازاحستان، ثم جرى إبعاده في عام 1929 إلى خارج الاتحاد السوفيتي (تركيا).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

863 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع