د. منار الشوربجي
هل يتحول التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات من نعمة إلى نقمة؟ يبدو أن هذا السؤال صار ملحا هذه الأيام، فتكنولوجيا الاتصالات في تقدمها غيرت بالفعل وجه الحياة. فأنت تستطيع عبر الهاتف الجوال، الوصول إلى أحبائك وقتما تريد وأينما كانوا على وجه الأرض.
ولو كان أولئك الأحباب يعيشون في أقاصي الأرض، يمكنك أن تراهم من خلال برامج إلكترونية كثيرة. يمكنك أن تتقدم لوظيفة، فتجرى لك المقابلة عبر برنامج إلكتروني دون أن تترك بيتك.
وتستطيع من خلال الهواتف المعاصرة أن تنجز الكثير من أعمالك، وربما تستكملها عبر البريد الإلكترونى. ويمكنك أن تعرف أخبار العالم كله من بيتك عبر شبكة الانترنت، وتتواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع كل الناس، بمن فيهم من لم يسبق لك معرفتهم. ويمكنك التسوق إلكترونيا عبر ذلك الكارت الصغير، فتصل مشترياتك حتى باب بيتك.
الأجيال الجديدة لا يمكنها أن تتصور كيف كانت الحياة قبل الهاتف الجوال، وينتابهم فضول شديد حين نحكي لهم كيف كان شكل الحياة قبل أن نعرف الإنترنت والهاتف الجوال، تماما مثلما كان جيلنا يتابع بفضول ما كان يقوله لنا أهلنا عن حياتهم مع الراديو فقط، قبل أن تدخل بيوتهم أجهزة التليفزيون. وأتذكر كم كنت أندهش من حكايات جدي عن مدى استمتاع العائلة كلها، حين كانت تجتمع شهريا حول جهاز الراديو للاستماع لحفلات أم كلثوم التي كان المذيع يصف للمستمعين في بدايتها، رداء أم كلثوم بالتفصيل ومنديلها بمجرد ظهورها على المسرح.
لكن هل يتحول ذلك التقدم التكنولوجي العظيم إلى نقمة؟ الحقيقة أن ما كشفت عنه الوثائق التي سربها الشاب الأمريكي إدوارد سنودن يوحي بذلك. فسنودن، الذي كان يعمل لدى جهاز الأمن القومي الأميركي، ونشر وثائق تؤكد أن الجهاز يقوم سرا بعمليات تجسس هائلة على ملايين البشر داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، حمل أجراس الخطر.
فقد كشفت الوثائق التي سربها أن جهاز الأمن القومي لديه برنامجان، يجمع من خلالهما كما هائلا من البيانات والمعلومات التي تخص ملايين البشر حول العالم من مستخدمي تكنولوجيا الاتصالات.
وتتجدد تلك البيانات والمعلومات يوميا، ولا يتم التخلص مما لا يلزم الوكالة منها إلا بعد خمسة أعوام، تقوم بعدها بجمع غيرها! والبرنامجان لا يجمعان المعلومات، بالمناسبة، بناء على شكوك في ارتكاب الشخص لأي جريمة، وإنما يجمعان تلك المعلومات عشوائيا وبالجملة.
وتقول الواشنطن بوست إن كيث ألكسندر، مدير جهاز الأمن القومي، قد قرر جمع المعلومات بمنطق "اجمع كل شيء"، فهو أراد أن يكرر داخل أمريكا تجربته في العراق.
فبعد الاحتلال، كانت الولايات المتحدة تبحث عن أية معلومة ولو صغيرة تعرف من خلالها هوية العراقيين المناهضين للاحتلال. وقتها قرر ألكسندر جمع "كل البيانات"، فأمر برصد كل رسالة نصية يكتبها العراقيون، وكل اتصال تليفوني، وكل رسالة بريد إلكتروني.
والبرنامجان اللذان كشفت عنهما وثائق سنودن، يقومان بالضبط على الفكرة نفسها. فالبرنامج الأول يختص بالهواتف، ويقوم بجمع بيانات عن ملايين الاتصالات الهاتفية التي تجرى إما على الأرض الأمريكية أو تمر بالأراضي الأمريكية، وهو ما يعنى بيانات عن اتصالات يقوم بها الملايين من الأمريكيين والأجانب على حد سواء.
ويقول المسؤولون إن البرنامج لا علاقة له بمضمون المكالمة، وإنما يجمع فقط بيانات مجردة، مثل رقمي المتصل والمستقبل للاتصال وموعد الاتصال ومدته، بينما لا يهتم بما يقال في المكالمة ولا بهوية أطراف الاتصال أو مكانهم.
لكن ما يتم جمعه من بيانات يكفي تماما لمعرفة كل تلك المعلومات وما هو أكثر منها، إذ بالإمكان من خلال رصد مدة الاتصالات وتواترها، معرفة الكثير عن كل فرد وتحديد نمط اتصالاته والكثير عن دائرة علاقاته الشخصية والمهنية، ثم إن أغلب الهواتف النقالة فيها من التكنولوجيا ما يسمح بمعرفة مكان صاحبها وقت قيامه بالاتصال.
أما البرنامج الثاني فهو عبارة عن قاعدة بيانات ضخمة تتضمن ليس فقط عن كل مراسلات البريد الإلكتروني، وإنما كل ما صار يعرف بالدردشة الإلكترونية، بالكتابة أو عبر برامج مثل سكايب وغيرها.
والبرنامج يسمح للمتخصص في جهاز الأمن القومي، عبر تكنولوجيا فائقة، بأن يقرأ كل البريد الإلكتروني لأي شخص طالما عنده عنوانه البريدي، ويطلع على كل ما يفعله ذلك الشخص على شبكة الإنترنت، بدءا بالصفحات التي يتصفحها مرورا بالمشتريات ووصولا إلى اتصالاته الإلكترونية كلها.
واتضح أيضا أن جهاز الأمن القومي الأمريكي يعمل مع نظيره البريطاني، الذي يجمع بيانات مماثلة في مناطق أخرى من العالم ثم يتم تبادلها. فلك أن تتخيل عزيزى القارئ ذلك الحجم الهائل من المعلومات، وقد قال عنه الصحفي جلين غرينوولد، إن جهاز الأمن القومي يقوم حاليا ببناء مبنى جديد في ولاية يوتا، للتعامل مع كل تلك المعلومات وتخزينها.
باختصار، صارت كل أشكال التواصل الإنساني مرصودة من جانب تلك الأجهزة الاستخباراتية، وربما غيرها أيضا. وهو الرصد الذي تبين أنه استهدف مواطني دول مثل البرازيل!
معنى ذلك أن تكنولوجيا الاتصالات التي تسهل على الإنسان الكثير من أمور حياته، هي نفسها التي تعد عليه أنفاسه وتحرمه من حريته، ومن حقه في أن يحتفظ لنفسه ولعائلته فقط بأخص خصوصياته.
900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع