بغداد .. أي شيء في العيد اهدي اليك ؟

                                                  

                              علي لطيف الدراجي

عرفتها فجراً تلف أذيال الليالي الطوال فترتدي زهو النهار وتطفئ هيامها بعذوبة دجلة وسلسبيل الفرات ، تهمس في أذن الزمان شوق وحب وعنفوان وتجري على شفاهها كلمات عاشق هوى قلبه في حظن حبيبته فأنساب من نبضه شذى الصبا.

خذي ماعندي واجعليني أغفو في أحضانكِ ، واضع رأسي على وسادة صبرك واتركيني معذباً بين لوحات صبركِ وفرشاة مآسيكِ لأتقاسم معكِ ألوان همومكِ.

اعرف كل شئ عنكِ ، فأنتِ جبل شق بآلائه سحابات الظلام ونسج الشيطان تحت سفحكِ خيوط هلاككِ مع رفقاء الطغيان والجبروت.

اعرف كل شئ عنكِ ، ومن أين ابدأ فبوصلة جرحي تعرف آثار خطاكِ ، من تاريخك الذي سرقه العابثون..

حبك الذي أجهضه الحاقدون..

ألقكِ .. عطفكِ .. حنانك.. عليائكِ..

رأيت السيوف والخناجر تمزق جزيئات أحشائك ، جُفاء نسوا من انتِ .. تسلقوا أوردتكِ ليسرقوا من فوق هامتك التيجان.

نزف من عبق ازهاركِ نشيد الموت وأورقت من وحي جنوني بكِ صرخات وصرخات ، سمعت في أوائل وأواخر الليل صدى أنينك وانتِ تعدين الرصاصات ، وصراخ أطفال زاغت من ارواحهم براءة الحمامات.

نساء ورجال رقدوا يحظنون ترابكِ وجادت قلوبهم بضعة كلمات ..

نحبك من المهد الى اللحد يابغداد..

لما انتِ يامهد النور وإكليل العُلا ، لما عزف أسافل القوم عن نفث بقايا سمومهم إلا صوب صدركِ ، والغاية صنعوها من مجاهل كرههم .

لقوا ان مكيافيللي لم يدرك لحظة من زمنه الغابر بأنهم سيجعلون تفجير الأرواح ونثر الأشلاء وسيلة حتى تكون الغاية شوارع وارصفة ترويها دماء سالت من ورود أجهض عبقها زفير الشيطان.

اعتدت ان استيقظ بوجهك الحسن وانتِ تتنفسين بريق الايام تاركةً ورائكِ خيالات الكوابيس ، اخرج من مرتع راحتي لأمشي في شرايين جسدكِ كعشق يداعب كريات الحب بشتى الألوان.

اعرف كل شئ عنكِ ياسيدة المدن وورقة شجرة وطن اقتلع جذورها اولئك الأوغاد بأنياب ظلمهم .. رُعاع لايعرفوا معنى الحضارة .. هدموا الجدران والإيوان فهم كالسوس ينخر في تفاصيل الإنسان.

اعرف كل شئ عنكِ ، يامن تنامين فوق برك الدماء .. مسلوبة الإرادة، تمزقت عليكِ ثياب العلى وتناثرت من هيبتكِ سلالات المجد كعقد تاهت درره في وحل تقهقر أمام الدجى بمعطف صمته.

أي دجى فاضت دكناته من حولكِ .. من هنا وهناك .. وتحت ستاره تسابق الشر لنحر بهائكِ .. جرد حقده من مكمن غروره فأنهال على تراتيل شموخكِ الوضاء.

مزقوا الكتاب ورقص رقصة المذبوح في اكف المتنبي واحيوا ذكرى تيمورلنك وهو يشرب من حبر المؤلفات لأنه(طاغية) راقت له ثياب فرعون وتلابيب نمرود ليقصم العلم وينتهك حرمة القلم.

اعرف كل شئ عنكِ .. غدوت تجمعين آهاتك من بين السطور .. فالكل غدر بكِ .. أقوام شابت في ديار نفوسهم الخيانة وفي طرقات عقولهم أينع الجهل .. طغاة وظلمة وقتلة وسفاحين وسُراق وأكابر تترست في أجسادهم

تعابير الشقاق والنفاق ولاحت في وجوههم خرائط الجور والفساد .. زهقوا كل روائع بلدي بأيديهم البائسة، بلدي التي أراها كل يوم جنان تحيطها أملاك السماء وهي تهبط وتدور وتهوي وتزور وتطأ بخشوعها اطواد القداسة في بقاع أرادها الله موئلاً للمظلومين الذين تعذبت أرواحهم تحت سياط الحرمان .. يأتوا فيمسوا بإناملهم أديم ارض تسبح فيها البركات في رحاب ائمة الحق والندى في كاظمية موسى وحفيده الجواد وفي محراب العبقري والحكيم أبا السبطين ، وفي طف الولاء وأنشودة الكرامة في كربلاء الحسين ، ونعم الأخ المواسي لأخيه أبي الفضل العباس(ع).

وفي سامراء التي رواها المتوكل من حراب سفكه ، حيث تقطن المعالي ، تطاولوا على إرادة الله ووجهوا طعنة أرجفت الأرض عندما أطاحوا القباب في زمن لاتعلو فيه الا أصوات الذئاب.

لقد اخذنا منكِ كل شئ ..

وما الذي فعلناه لكِ ..

بكينا وشجبنا واستنكرنا وكتبنا وصرخنا واردنا ورفضنا وحلمنا وماذا بعد .. في النهاية لم نفعل شيئاً..

اخذنا كل شئ منك ولم نجرؤ على فعل أي شئ ..

ارتضينا السكوت واكتفينا بالنظر اليكِ وانت تلوذين بالفرار من شمر وابن سعد وفي ظهرك الف رمح يئن من خجله.

لازالت اثار خطاهم في اضلاعك ..

عادوا من غيهم القديم كما كانوا .. لم يتغيروا ..

فجلودهم تنغر قيحاً وزادوا بؤساً الى بؤسهم وعصبية الجهل تلف مآربهم السوداء.

في صباح كل عيد يهرع الناس لارتداء مايحلو لهم من الوان ليستقبلوا فرحته بقلب صاف كبياض الثلج لبضعة ايام عسى ان ينسوا شيئاً من مآسٍ بعدد رمال الصحراء وان هبت على الرمل الرياح وطارت الى ماتشتهي فلن يأخذ مكانها إلا مثيلاتها من الرمال.

يتبادل الناس التحايا وعبارات المحبة والأماني وتتناثر التهاني فهذا يقول(عيد مبارك) وذلك يقول( تحقيق الأماني) ولا أحد يذكر اسطورة الأحزان(بغداد).

يقيناً سأقول لكِ كل عام وانتِ بألف خير..

وارجوكِ إنسي قدراً من فيض احزانك وتلاوات شجونك ، عسى ان يكون هذا العيد مرسى راحتك يامن تقطعت اوصالك في دروب الصابرين.

في هذا العيد لن يحلو لي إلا ان اقف اجلالاً لصبرك وتحديك ياقلعة الجراح .. وماذا عساني ان اهدي اليكِ..

واي شئ عساه ان يرتقي الى جيدكِ او معصميكِ..

لكِ ترخص النفوس والأرواح فخذيها هدية ومدي يديكِ..

ورغم ذلك سأبقى خجل من نفسي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

932 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع