د. جابر ابي جابر
صلح بريست- ليتوفسك وتمرد الاشتراكيين الثوريين اليساريين
في عددها الصادر يوم 28 أكتوبر عام 1917 نشرت صحيفة "برافدا" مرسوم الحكومة البلشفية"حول السلام"، الذي أعلن أن على جميع الشعوب توقيع سلام عادل يخلو من إلحاق الأراضي وتعويضات الحرب. ولكن حكومات الدول المتحاربة لم ترد على ذلك. وعندئذ أرسل لينين والقائد العام الأعلى للجيش الروسي نيكولاي كريلنكو المعيّن من قبله برقية إلى كافة لجان الجنود في الجيش والأسطول وجميع المقاتلين والبحارة تناشدهم تبني قضية السلام، خلافاً للجنرالات المعادين للثورة، والدخول في مفاوضات حول الهدنة مع الألمان والنمساويين.
وفي 13 تشرين 2/نوفمبر قام المبعوثون المرسلون من قبل كريلنكو بعقد صلات مع القيادة الألمانية، التي وافقت على إجراء مفاوضات انفصالية رسمية. ثم انضمت إلى ذلك كل من ألنمسا وبلغاريا والدولة العثمانية. وفي 20 من الشهر نفسه بدأت هذه المفاوضات في بريست- ليتوفسك. وقد ترأس الوفد السوفيتي ليف كامنيف وكان يضم البلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين. واقترح الوفد عقد معاهدة سلام على الأسس الديمقراطية العادلة الواردة في "مرسوم السلام". ولكن الجهة المقابلة تهربت من الإجابة واكتفت بالموافقة على وقف العمليات القتالية لبضعة أيام. وعندئذ أعلن الألمان عن أمر مهم جداً بالنسبة للبلاشفة وهو عدم اعتراضهم على منح المفاوضات صفة علنية تامة.
وفي 30 تشرين 2/ نوفمبر وبعد فترة استراحة قصيرة أجرى الجانبان تبادلاً للآراء. وفي هذه المرحلة ترأس الوفد السوفيتي نائب وزير الخارجية أدولف يوفيه، الذي قام في 2 كانون 1/ديسمبر بتوقيع اتفاق الهدنة. وبعد 7 أيام شرع السوفيت والألمان ببحث شروط شروط اتفاقية السلام.
وفي هذه الأثناء كان زعماء البلاشفة ينتظرون من يوم إلى آخر اندلاع الثورة الاشتراكية في ألمانيا نفسها. ولهذا قرروا المماطلة في إجراء مفاوضات السلام، بعد أن طلب سكرتير الدولة الألماني للشؤون الخارجية البارون ريخارد فون كولمان من روسيا الاعتراف بحق ألمانيا في ضم بولندا وأجزاء كبيرة من بلدان البلطيق الثلاثة. ونظراً لذلك قرر لينين تكليف تروتسكي برئاسة الوفد المفاوض في بريست- ليتوفسك لكونه من البارعين في التسويف والمماطلة.
وفي 27 كانون 1/ ديسمبر بدأت مرحلة جديدة من مفاوضات مؤتمر السلام حيث شارك فيها بشكل مستقل وفد الرادا المركزية وهي الهيئة العليا للجمهورية الشعبية الأوكرانية، التي أعلنها الاشتراكيون الديمقراطيون والاشتراكيون الثوريون الأوكرانيون في 7 تشرين 2/ نوفمبر. وقد كانت هذه الهيئة تشغل مواقف معادية للبلشفية. وفي 28 كانون 2/يناير عام 1918 وقع رئيس الوفد الأوكراني فسيفولود غولوبوفتش صلحاً انفرادياً مع ألمانيا وألنمسا ينص على احتلال هاتين الدولتين لبلاده. وكان ذلك الوسيلة الوحيدة، في اعتقاده، لمواجهة البلاشفة، الذين استولوا على أوكرانيا الشرقية بأكملها وحاصروا العاصمة كييف.
وكانت الحكومة الألمانية ترى أن من حقها تحصيل تنازلات في الأراضي من قبل البلاشفة كمكافأة لها على تقديمها خلال عامين كاملين مبالغ كبيرة من المال إلى لينين وجماعته. ولكن هؤلاء لم يرغبوا بالطبع في بيع أجزاء من روسيا للألمان بعد أن أصبح هذا البلد ملكاً لهم. وعندما أدرك الألمان أن لينين يراوغ ولا يعتزم الإيفاء بديونه وجهوا إلى الوفد السوفيتي إنذاراً طلبوا فيه عقد صلح انفرادي على الفور وبشروط أسوأ مما كان قد أعلنها فون كولمان في الشهر الماضي. ففي هذه المرة أضافوا إلى مطالبهم ضم جزء من بيلوروسيا. وعندئذ توجه تروتسكي إلى بتروغراد لإجراء الاستشارات اللازمة. وفي اجتماع اللجنة المركزية انقسمت آراء زعماء البلاشفة بخصوص التنازلات للألمان. وبما أن الثورة العالمية "تأخرت" والجيش الروسي قد انهار، اقترح لينين وزينوفييف العدول عن تكتيك المماطلة وتوقيع اتفاقية السلام وفق الشروط الألمانية. ولكن تروتسكي رفض ذلك وأعلن أنه لا يجوز السماح بعقد اتفاقية مع الألمان وحلفائهم بمجرد الاستناد إلى إنذار من جهتهم. وكان على اعتقاد راسخ بأنه ينبغي للبلاشفة تقديم دليل دامغ لعمال أوروبا على أنهم اضطروا تحت ضغوط عسكرية ثقيلة إلى التخلي عن مبادئ السلام العادل وإلا فإن بوسع الإمبرياليين، من وجهة نظره، تصوير المفاوضات كمسرحية ذات توزيع مصطنع للأدوار ويضعفون بذلك من تأثير ثورة أكتوبر على البروليتاريا الأوروبية. وبتعبير آخر يجب، في اعتقاده، دفع الألمان إلى القيام بهجوم جديد. وأطلق تروتسكي عبارته الشهيرة " لن نخوض الحرب ولن نوقع معاهدة الصلح". أما نيكولاي بوخارين فقد رفض عموماً فكرة التفاوض مع الإمبرياليين معبراً عن آراء الشيوعيين اليساريين، الذين كانوا يشكلون أغلبية أعضاء اللجنة المركزية، وقد أصرّ على ضرورة شن "حرب ثورية" ضد ألمانيا مؤكداً بأن هذه الحرب ستضرم نيران "حريق عالمي".
أما لينين، الذي أضحى ضمن الأقلية، فإنه عمد إلى البرهان على صحة موقفه بسوق وقائع ملموسة حيث قال: "ليس لدينا جيش ونحن ضعفاء. ولذلك لا بد لنا من التوقيع على معاهدة السلام" مشيراً إلى أن رفاقه وتلاميذه قد انسلخوا عن الواقع. فهم، حسب قوله، لا يدركون الأمور البديهية بالنسبة له وهي أنه يتعذر تحقيق مشاريعه دون امتلاك السلطة الفعلية بالكامل. وقد أصر لينين على ضرورة قبول الشروط الألمانية مشيراً إلى أنه لو طالب الألمان بإسقاط السلطة البلشفية لتعين طبعاً محاربتهم.
وفي المحصلة أُقِر مع ذلك اقتراح تروتسكي بأغلبية أصوات أعضاء اللجنة المركزية للحزب البلشفي وحصل أيضاً على تأييد قيادة حزب الاشتراكيين الثوريين اليساريين.
وبعد عودته إلى بريست – ليتوفسك في 28 كانون 2/ يناير عام 1918 تلا تروتسكي تصريح الحكومة السوفيتية بهذا الخصوص. وقد صعق الألمان لدى ذلك، إذ لم يتوقعوا من حكومة لينين مثل هذا الموقف الرافض لشروطهم وتيقنوا من أن التحالف التكتيكي مع البلاشفة، الذي جاء بلينين إلى السلطة، كان مؤقتاً وأن زعيم البلاشفة كان يسعى إلى خداع ألمانيا مستخدماً أموالها لمصالحه السياسية حصراً. وفي ضوء ذلك أعلنت القيادة العسكرية الألمانية في 16 شباط/فبراير(حسب التقويم الجديد)عن وقف الهدنة واستئناف العمليات القتالية اعتباراً من الساعة 12 نهاراً ليوم 18 شباط/ فبراير. وفي اليوم التالي احتل الألمان دفينسك(لاتفيا) وبولوتسك (بيلوروسيا) وتقدموا باتجاه بتروغراد. وقبل ذلك بعدة أيام (12 شباط) استأنفت الدولة العثمانية القتال ضد روسيا.
وعند ذلك وجه الألمان إنذاراً جديداً إلى الحكومة السوفيتية تضمن مطالب إقليمية إضافية حيث أنهم لم يكتفوا ببولندا وليتوانيا والجزء الأكبر من لاتفيا وبعض الأراضي البيلوروسية بل أضافوا إلى تلك المناطق استونيا وكامل أراضي لاتفيا. كما طلبوا من البلاشفة سحب قواتهم من أراضي أوكرانيا وفنلندا. وعلى خلفية هذه الأحداث قدم تروتسكي استقالته من منصب وزير الخارجية. وفي اليوم التالي أعلنت اللجنة المركزية لحزب البلاشفة قبولها الشروط الألمانية بأغلبية 7 أصوات ومعارضة 4 أصوات وامتناع أربعة أعضاء عن التصويت. كما صادق على هذا القرار معظم نواب الهيئة التنفيذية المركزية لعموم روسيا (116صوتاً مؤيداً مقابل 85 صوتاً معارضاً وامتناع 26 نائباًعن التصويت). وهكذا لم تستمر طويلاً مقاومة رفاق لينين لسياسته المتعلقة بالتصالح مع ألمانيا بأي ثمن. ولكن الاشتراكيين الثوريين اليساريين خرجوا من الحكومة احتجاجاً على ذلك.
وفي ليلة 24/25 كانون 2/ يناير عام 1918 وصل إلى بريست- ليتوفسك وفد حكومة لينين برئاسة غريغوري سوكولنيكوف (الاسم الحقيقي – غريش بريلانت). وفي الأول من آذار/مارس حصل الوفد على النص النهائي للشروط، الذي ضم بنوداً أقسى مما جاء في الإنذار الألماني الأخير حيث أُضيف إليه مطلب من جانب الأتراك العثمانيين بخصوص تنازل روسيا عن مقاطعات باطوم وأرداخان وقارص.
وفي ضوء هذه الأحداث عقدت الحكومة جلسة ليلية جرى خلالها التصويت على قبول الشروط الألمانية دون مناقشة القرار الخاص بذلك ورغم عدم اكتمال النصاب القانوني. وكان عدد من وزراء الحكومة قد انسحبوا منها في 22 شباط/فبراير. والجدير بالذكر أنه أثناء انعقاد الجلسة كان يجري في قاعة أخرى اجتماع لأغلبية "الشيوعيين اليساريين" ،الذين عارضوا بشدة توقيع اتفاقية السلام مع الألمان، ومنهم أعضاء اللجنة المركزية للحزب تروتسكي وبوخارين ودزرجنسكي وريكوف وراديك وبوبنوف وكريستينسكي وبياتاكوف وغيرهم من كبار مسؤولي الحزب والحكومة.
وفي الثالث من الشهر نفسه جرى أخيراً توقيع صلح بريست- ليتوفسك. وعندئذ أصدرت القيادة العسكرية الألمانية العليا أوامرها بوقف العمليات القتالية في روسيا. وبعد بضعة أيام صادق مؤتمر السوفيتات الرابع لعموم روسيا على هذا "السلام المخزي" بأغلبية 784 صوتاً ومعارضة 261 صوتاً وامتناع 115 نائباً عن التصويت.
وقد كان لينين بحاجة ماسة إلى فسحة من الوقت والسلام لتعزيز مواقع النظام البلشفي في بلد مترامي الأطراف. كما أنه كان يعتزم تسخير كافة القوى والقدرات لإخماد مقاومة الحركات المناوئة للبلاشفة بما في ذلك عن طريق إشراك الأجانب المرتزقة والعناصر الإجرامية والمتطوعين الصينيين الجائعين والأسرى العسكريين الألمان والقوات الألمانية النظامية.
ونتيجة صلح بريست الموقع بشروط مجحفة للغاية بالنسبة لروسيا السوفيتية جرى سلخ 780 ألف كم مربع من أراضي روسيا مع سكانها البالغ عددهم 56 مليوناً أي ثلث سكان البلد. وفي آب/أغسطس من العام نفسه وافق البلاشفة على تقديم تنازلات جديدة للألمان تجلت في توقيع اتفاقيات إضافية تعهدوا بموجبها دفع تعويضات بمقدار 6 مليارات مارك للجانب الألماني. وقد سدد البلاشفة في 10 و30/أيلول/ سبتمبر دفعتين (93 طناً من سبائك الذهب). وكان من المقرر دفع القسط الثالث في 31 تشرين 1/ أكتوبر عام 1918. ولكن لم يتم ذلك حيث ان ألمانيا كانت على عتبة الاستسلام لدول الوفاق (وفيما بعد جرى تسليم هذه السبائك إلى فرنسا كتعويضات حرب وفق معاهدة فرساي). وضمن الشروط الألمانية الأخرى :
1- عدم تأميم المصانع وممتلكات الشركات والمواطنين التابعين لدول المركز وإعادة الحقوق المفقودة لهؤلاء والسماح لهم بممارسة الأعمال الحرة على خلفية الدولنة الشاملة للاقتصاد.
2- تعهد الحكومة السوفيتية بوقف الدعاية الثورية في دول المركز والدول الحليفة لها، التي تشكلت ضمن أراضي الإمبراطورية الروسية.
3- تحديد التعرفة الجمركية غير الملائمة لروسيا، التي سبق أن جرى التعامل بها في عام 1904.
4- اعتراف روسيا بالديون القيصرية لدول المركز واستئناف العمل بتسديدها.
5- اعتراف روسيا السوفيتية باستقلال أوكرانيا وجورجيا وتخليها عن استونيا ولاتفيا.
6- تسليم أسطول البحر الأسود إلى المانيا وألنمسا.
7- تسريح أفراد الجيش والأسطول ومغادرتهم فوراً لجبهات القتال.
وفي الأيام الأولى من آذار/ مارس عام 1918 جرى إدخال قوات ألمانية إلى موسكو وبعض المدن الروسية الأخرى بشكل علني جزئياً وكذلك على شكل أسرى حرب ألمان ونمساويين مسلحين. وكان قد أُطلق على هؤلاء تسمية "الجنود الأمميون". وصار يرابط بموسكو آنذاك حوالي 53 ألف عسكري ألماني مسلح منهم 7 آلاف من القوات الألمانية النظامية. وكانت مهمة هذه القوات حماية السلطة البلشفية المتحالفة مع دول المركز من القوى المعادية للبلشفية والداعية إلى متابعة الحرب ضد ألمانيا إلى جانب دول الوفاق.
وبعد توقيع صلح بريست قرر عدد من كبار الشخصيات الحكومية لروسيا القيصرية الشروع بمفاوضات سرية مع الألمان. وقد اقترح هؤلاء على ألمانيا الاعتراف كاملاً أو جزئياً بشروط السلام مقابل قيامها بطرد البلاشفة وإعادة آل رومانوف إلى عرش روسيا. ففي آذار/مارس عام 1918 وجه آخر وزير خارجية في الحكومة القيصرية نيكولاي بوكروفسكي رسالة إلى رئيس الحكومة الروسية السابق فلاديمير كوكوفتسيف يطلب منه العودة من كيسلوفودسك إلى بتروغراد وشغل منصب رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المواطنين الروس في فنلندا. وكانت هذه اللجنة تستخدم كتغطية لحكومة الظل، التي يشارك فيها على نحو نشيط الرئيس قبل الأخير لمجلس وزراء روسيا القيصرية الكسندر تريبوف والنائب في مجلس الدوما فلاديمير بوريشكيفتش والشخصية المصرفية البارزة الكسندر كريفوشين، الذي كان العقل المدبر للمجموعة والأمير غريغوري تروبتسكوي السفير الروسي السابق في صربيا وبوريس نولديه الخبير الحقوقي البارز وعضو حزب الكاديت. كما كان الجنرال ألكسي بروسيلوف على اتصال وثيق مع مجموعة كريفوشين، التي سميت بـتنظيم "المركز اليميني".
وكان الألمان يدركون تماماً أن السلام المعقود مع البلاشفة لن يُعترف به في روسيا إذا سقط حكمهم ولا في المجتمع الدولي. ولذلك فإن إعادة عقد معاهدة سلام مع حكومة قيصرية وقورة من شأنه أن يغدو أفضل وأكثر ضمانة. فلو أن نيكولاي الثاني رغم تخليه عن العرش صادق بتوقيعه على شروط صلح بريست لكان الألمان أكثر اطمئناناً. أما توقيع لينين أو سوكولنيكوف فمن المستبعد أن يُنظَر إليه من جانب الحقوقيين الألمان على أنه يتسم بصلاحية قانونية تامة.
في ظروف الحرب الأهلية الطاحنة بين الحمر والبيض لم يكن من الصعب على الألمان أبداً اعتقال لينين وتروتسكي والحكومة بأكملها في صيف عام 1918. ولكن المعضلة كانت تكمن في إطار آخر إذ أن العاهل الروسي، الذي سيتربع على العرش ينبغي في هذه الحالة أن يوافق بالتأكيد على صلح منفرد مع الألمان. ومن المستحسن أن يكون السياسيون الذين سيشكلون الحكومة من الشخصيات المتعاطفة مع ألمانيا. ويعرف الألمان جيداً ميول "المتآمرين" اليمينيين السياسية. فهم جميعاً كانوا من الوطنيين المتحمسين ولم يسبق أن قاموا بأمور ما من وراء الكواليس مع ألمانيا، وإنما كانوا على الدوام مخلصين لدول الوفاق. وقد اضطروا إلى إجراء مفاوضات مع الألمان مدفوعين بمشاعر الخوف من هلاك بلدهم على أيدي البلاشفة والمعاناة الفظيعة لسكانه والخطر المحدق بحياة أسرة رومانوف وإدراكهم أيضاً بأن الصلح أصبح، في كل الأحوال، أمراً واقعاً وليس بالإمكان الوقوف ضده. وعليه فإن كريفوشين ورفاقه لم يكونوا أناساً موثوقين بالنسبة للألمان ولم يكن هنالك شخصيات سياسية أخرى معروفة دولياً ترغب في البدء بمفاوضات معهم.
في الأيام 6-8 آذار عام 1918 انعقد المؤتمر السابع الاستثنائي للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) وسط معارضة شديدة من قبل جزء كبير من زعماء الحزب لصلح بريست والشروط، التي فرضها الجانب الألماني. وقد صادق المؤتمر بعد نقاشات حامية على معاهدة بريست- ليتوفسك. وكان ضمن المعارضين تروتسكي وبوخارين. كما بحث المؤتمر مسألة إعادة النظر ببرنامج الحزب وتسميته. فبدلاً من "حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي" أصبح الاسم الجديد "الحزب الشيوعي الروسي" (البلاشفة).
في 20 أيار/مايو عام 1918 وصف السفير الألماني بموسكو الكونت فيلهلم فون ميرباخ الحزب البلشفي بأنه "جثة حية" وأضاف في رسالته إلى وزير خارجيته ريخارد فون كولمان قائلاً إنه " إذا أطاح الاشتراكيون الثوريون بالبلاشفة - وهو أمر يمكن أن يحدث على الأغلب في القريب العاجل - فإن روسيا ستتجه ثانية نحو بلدان الوفاق وانطلاقاً من ذلك ينبغي النظر على نحو جديد إلى اقتراحات "المركز اليميني" المرموق والبعيد عن الفساد المتفشي في روسيا".
والجدير بالذكر أنه كان لدى كبار موظفي السفارة الألمانية بموسكو مواقف مختلفة من القضايا الروسية. فإن معاون السفير كورت ريتسلر، الذي كان همزة الوصل منذ عام 1915 بين الألمان والبلاشفة، ولعب، كما يتضح من أرشيفه، دوراً بارزاً في تحضير"معجزة" انتفاضة أكتوبر، آثر التعاون مع البلاشفة رغم احتقاره لهم باعتبارهم عنصراً ضعيفاً مضطراً إلى الولاء لألمانيا. أما الملحق العسكري الأرستقراطي كارل فون بوتمر فإنه لم يقتصر على النظر إلى حكام روسيا الثوريين بكل استخفاف وازدراء فحسب، بل كان يرى استحالة التعامل معهم وبالتالي استحسن التفاوض مع "شخصيات لائقة". وانطلاقاً من ذلك كان يدعم موقف الكونت ميرباخ رغم خشية الاثنين من النزعة القومية الروسية لدى كريفوشين وكوكوفتسيف.
ولكن، من جهة أخرى، علمت وزارة الخارجية الألمانية عن طريق عملائها السريين أن حكومات دول الوفاق تقدم الدعم المادي للاشتراكيين الثوريين والمناشفة والأسرى العسكريين الصرب لإنشاء حكومة معادية للبلاشفة وبالتالي لألمانيا. وقد غدا ذلك أمراً ملحاً لهذه الدول حيث أنها كانت تتوقع هجوماً كاسحاً للألمان في الجبهة الغربية.
وكان الدبلوماسي البريطاني وعميل الاستخبارات البريطانية السري بروس لوكارت يبذل جهوداً كبيرة لكي تنتقل روسيا مجدداً إلى جانب دول الوفاق. ولهذا الغرض أجرى الفرنسيون مباحثات مع المسؤولين البلاشفة. ومن جهة أخرى ركز الإنجليز جل اهتمامهم على رص صفوف القوى المعادية للسوفيت والوفية من حيث توجهاتها الفكرية لدول الوفاق مثل حزب الاشتراكيين الثوريين اليمينيين وحزب الكاديت ومعظم تنظيمات الضباط السرية بالإضافة للفيلق التشيكوسلوفاكي المؤلف خلال سنوات الحرب من ممثلي الشعوب السلافية، الذين كانوا يحاربون في صفوق قوات الإمبراطورية النمساوية المجرية.
وبعد أن فقد الجيش الأحمر في صيف عام 1918 السيطرة على مناطق شاسعة، تمتد من حوض الفولغا والأورال حتى سيبيريا والشرق الأقصى الروسي، ازداد الاقتناع في الأوساط الألمانية الحاكمة بأن البلاشفة سيخسرون السلطة بين يوم وضحاه وأنه يُستحسَن الاعتماد على قوى أكثر متانة وشعبية في روسيا. وقد كانت تؤيد هذه الفكرة بشكل خاص الأركان العامة، إذ أن العسكريون كانوا يدركون أن الأسرى العائدين من الشرق تأثروا، إلى حد كبير، بالأفكار الثورية من خلال احتكاكهم بالبلاشفة ولذلك سيكون بوسعهم نشر العدوى الثورية ضمن قوات الخطوط الخلفية والجبهة الغربية. وكان الجنرالات الألمان يفضلون التعامل مع حكومة "برجوازية" محافظة في روسيا لاعتبارات إيديولوجية أيضاً. وقد أكد الجنرال ايريخ فون لوديندورف للإمبراطور غليوم الثاني قائلاً : "ليس بوسعنا أن نتوقع من الحكومة السوفيتية شيئاً إيجابياً رغم أنها تعيش على حسابنا".(تاريخ روسيا في القرن 20 بإشراف أندريه زوبوف.المجلد(1) . موسكو. دار نشر"ايكسمو". ص.665). وفي أواخر آيار/مايو أعطت وزارة الخارجية الألمانية تعليماتها للسفير ميرباخ بإطلاق المفاوضات مع " المركز اليميني"، والسعي إلى استمالة هيئة أعضاء الجمعية التأسيسية في سامارا بالمال إلى جانب ألمانيا لإبعادها عن دول الوفاق، وفي الوقت نفسه استئناف التسديدات المالية "الودية" إلى البلاشفة. غير أن المباحثات مع"المركز اليميني" لم تسفر عن أي شيء، إذ يبدو أنها وصلت إلى طريق مسدود من جراء المواقف المتشنجة لشخصيات الاتفاقية المحتملين- أعضاء عائلة رومانوف. وأغلب الظن أن العرض الأول طُرح على العاهل "الشرعي" وعلى شقيقه ميخائيل رومانوف، الذي كان مسجوناً في بيرم ثم أُفرج عنه بشكل مفاجئ وسُمح له بالإقامة في فندق مع خدمه وسكرتيره الإنجليزي برايان جونسون تحت مراقبة رجال التشيكا. ويُعتقد أن ميخائيل رفض هذا العرض رفضاً قطعياً وقُتل في ليلة 12/13 حزيران/ يونيو. كما أن نيكولاي الثاني نفسه لم يقبل بالشروط الألمانية المجحفة للغاية رغم تحذيرات الألمان من احتمال قيام البلاشفة بتصفيته وعائلته، على غرار ما فعلوه بشقيقه. على كل حال لم يقتنع الألمان بتأكيدات" المركز اليميني" حول امكانية الاتفاق مع نيكولاي الثاني بعد طرد البلاشفة.
وبعد أن أيقن الألمان من أن القيصر الروسي لن يدعم بهيبته السلام المنفرد أصبح القضاء عليه يلائمهم إلى حد لا يقل عن البلاشفة. ومن الناحية النظرية كان بوسع نيكولاي الثاني أن يقف على رأس القوى الوطنية المعادية لألمانيا، التي تقوم بهجماتها من سيبيريا ضد البلاشفة. ويرى بعض المؤرخين أنه ليس من المستبعد أن لينين، تحسباً من ذلك، اتفق في أواخر حزيران/يونيو مع السلطات الألمانية على التخلص من القيصر الروسي وعائلته.
وبينما كان الألمان يجرون مفاوضات مع البلاشفة و"المركز اليميني" قرروا، في الوقت نفسه، اتخاذ إجراءات مماثلة مع عائلة رومانوف. ففي أيار/مايو عام 1918 وصل إلى يالطا الضابط المرافق لقيصر ألمانيا جالباً معه اقتراحاً ينص على تسليم العرش الروسي إلى عضو من أعضاء العائلة القيصرية مقابل التوقيع على صلح بريست- ليتوفسك. غير أن جميع أعضاء آل رومانوف الموجودين آنذاك في القرم رفضوا هذا الاقتراح بامتعاض شديد. وقد أعلن الأمير الأكبر الكسندر ميخائيلوفتش لمبعوث القيصر الألماني قائلاً : "لا يوجد ولن يوجد في عائلتنا خونة".(المصدر السابق).
وبعد تردد غير طويل عادت ألمانيا إلى المراهنة من جديد على لينين وتروتسكي. وقد شهد يوم 28 حزيران/ يونيو عام 1918 إقرار مصير البلاشفة. ففي ذلك اليوم قدّم ممثل وزارة الخارجية البارون كورت فون غريناد إلى غليوم الثاني ورقتين حول الشأن الروسي – الورقة الأولى مرسلة من وزارة الخارجية بتوقيع المستشار فون غيرتلينغ والثانية من الفيلد مارشال غيندبورغ، الذي دعا إلى الإطاحة بالبلاشفة ونقل السلطة إلى "المركز اليميني". أما ورقة الخارجية فكانت تدعو إلى الإبقاء على البلاشفة في السلطة نظراً لأن "اليمينيين" غير موثوقين سياسياً. وأثناء ذلك أضاف غريناد شيئاً ما شفهياً من عنده. وعلى الرغم من أن القيصر الألماني كان في العادة يأخذ بنصيحة جنرالاته، وبالدرجة الأولى العجوز غيندنبورغ، فإنه في هذه المرة أعرب عن تأييده بحزم لموقف الخارجية وأعطى توجيهاته بإبلاغ حكومة لينين بأن في وسعها، دون أن تخشى اي شيء، نقل قواتها من بتروغراد إلى الشرق لمقارعة الفيلق التشيكوسلوفاكي. واستطرد قائلاً : "من أجل تطوير التعاون بيننا نعلن للحكومة السوفيتية أن ألمانيا ستقدم مزيداً من المساعدات لكونكم الحزب الوحيد، الذي قبل شروط صلح بريست". وهكذا فإن رسالة غليوم الثاني هذه حسمت مصير البلاشفة حيث اضطر ميرباخ إلى وقف المفاوضات مع "المركز اليميني" بدءاً من 1 حزيران/ يونيو بناء على تعليمات وزير الخارجية كولمان.
وفي الوقت نفسه كان الاشتراكيون الثوريون اليساريون يطالبون بفسخ صلح بريست واستئناف الحرب الثورية، ويصفون زعماء البلاشفة بخدم الإمبريالية الألمانية، ويعتبرون النظام، الذي أقاموه "سلطة المفوضين". وعقب المصادقة على هذه الاتفاقية خرج هؤلاء من قوام الحكومة السوفيتية احتجاجاً على ذلك وكانوا يؤكدون أن حلفائهم البلاشفة "خانوا الثورة". وقد شاطرهم هذا الاعتقاد بالدرجة الأولى الجنود والبحارة، الذين أجهزوا بعد ثورة فبراير على قادتهم العسكريين ولطخوا سمعتهم بانتهاك القسم العسكري. كما أن ممارسات البلاشفة في نهب محاصيل الفلاحين بشكل خاص أبعدت الاشتراكيين الثوريين اليساريين عن حزب لينين إذ كانوا يرون أن العنف، الذي يقوم به العمال والجنود في الريف بمصادرة المحاصيل الزراعية، يسبب لسنوات طويلة العداوة بين الطبقتين الكادحتين ويؤدي إلى هلاك الثورة الروسية.
وخلال مؤتمرهم الحزبي المنعقد في 17-25 نيسان/ أبريل عام 1918 طالب معظم المندوبين بالقطيعة الفورية مع البلاشفة. وأعلن هؤلاء أن أعضاء حكومة لينين لم يكتفوا بخيانة الثورة فحسب، بل إنهم خانوا حزبهم أيضاً حيث يتطلع الأعضاء العاديون إلى الحرية الثورية الحقيقية بدلاً من تحكم "السادة الوزراء"، الجدد، الذين يحتفظون بمناصبهم بفضل الحراب الألمانية. وفي 24 حزيران/ يونيو اتخذت اللجنة المركزية للاشتراكيين الثوريين اليساريين في جلسة سرية قراراً بإجراء انتفاضة ضد"سلطة المفوضين" وأعلنت زعيمتهم ماريا سبيريدوننوفا في 3 تموز/ يوليو أن الانتفاضة المسلحة بالذات قادرة على إنقاذ الثورة.
وفي مؤتمر السوفيتات الرابع لعموم روسيا المنعقد بمبنى مسرح البولشوي اقترح الاشتراكيون الثوريون اليساريون حجب الثقة عن الحكومة البلشفية (مجلس مفوضي الشعب)، وفسخ صلح بريست- ليتوفسك، وإعلان الحرب على ألمانيا. ولكن أغلبية المندوبين رفضوا ذلك.
وفي 6 تموز/ يوليو جاء اثنان من رجال التشيكا وهما ياكوف بلومكين ونيكولاي أندرييف إلى السفارة الألمانية بموسكو وطلبا مقابلة السفير ميرباخ. وعندما نزل السفير للقائهما قام بلومكين بإطلاق الرصاص عليه فأرداه قتيلاً ثم ألقى بقنبلة تسببت في إصابة مستشار السفارة ريتسلر والمترجم ميولر. وفي اليوم نفسه قام الاشتراكيون الثوريون اليساريون باعتقال رئيس التشيكا فيلكس دزرجنسكي ومعاونه مارتين لاتسيس. ورغم وجود قطعات عسكرية موالية لهم فإنهم لم يلجأوا إلى استخدامها. ومن الجائز أنهم لم يعولوا على نجاح حركتهم نظراً لانتشار القوات الألمانية في موسكو تحت ستار أسرى عسكريين. ويبدو أن هدف التمرد كان ينحصر فقط في الإيحاء للألمان بعدم الاعتماد على البلاشفة لكونهم ضعفاء. وإلى جانب ميرباخ اغتال ممثلو هذا الحزب القائد العام للقوات الألمانية في أوكرانيا الفيلدمارشال فون ايخفورن.
وقد أثار اغتيال ميرباخ الهلع في نفوس زعماء البلاشفة، إذ كانوا يخشون من إعراض الألمان عنهم مجدداً. ولهذا هرعوا جميعهم تقريباً على الفور إلى السفارة الألمانية لتقديم الاعتذار والتعازي ومنهم لينين ورئيس الهيئة التنفيذية المركزية سفيردلوف وراديك ووزير الخارجية تشتشيرين ونائبه كاراخان ورئيس التشيكا دزرجنسكي. وقد أشار أحد الدبلوماسين العاملين في السفارة آنذاك إلى أن لينين كان شاحب الوجه ومضطرباً للغاية. وقد كانت هذه الأحاسيس مبررة إذ أن ريتسلر ما أن عاد إلى وعيه بعد الانفجار حتى سارع إلى وضع مذكرة لإرسالها إلى الخارجية الألمانية حيث أكد على ضرورة القطيعة العاجلة مع البلاشفة واعتقال لينين وإرجاع الرماة اللاتفيين إلى بلادهم. وأضاف بأن البلاشفة لا يتمتعون بدعم كاف في البلد.
وفي السابع من تموز/ يوليو جرى سحق التمرد واعتقال زعماء حزب للاشتراكيين الثوريين اليساريين. وقد أُعدم بعض أعضاء الذراع العسكري للحزب ومنهم نائب رئيس التشيكا فياتشسلاف الكسندروفتش. أما في برلين فقرروا عدم الانجرار وراء هذا الاستفزاز الواضح وتجاهل الأمر رغم مقتل هاتين الشخصيتين البارزتين. وقد طُلب من الصحافة الألمانية عدم إثارة الضجة حول هذا الموضوع.
وبالنسبة للتمرد المذكور فإن الباحث والمؤرخ الروسي المعاصر يوري فلشتينسكي استطاع أن يتوصل بعد دراسة متمعنة لمواد أرشيفية كثيرة إلى استنتاج مفاده أن البلاشفة دبروا بمهارة فائفة "مسرحية" التمرد للتخلص من حلفائهم الاشتراكيين الثوريين اليساريين والانفراد بالسلطة. وخلال العشرينات والثلاثينات لم ينج من ملاحقات السلطة السوفيتية لزعماء الحزب سوى وزير العدل السابق في حكومة لينين اسحاق شتينبرغ، الذي هرب إلى الخارج. أما الباقون فقد اعتقلوا وقضوا سنوات طويلة في المنفى ثم أعدموا في فترة " التصفيات الستالينية الكبرى".
وبعد بلوغه الأخبار المتعلقة بعملية إنزال القوات الإنجليزية والأمريكية في أرخانغلسك بتعداد 8 آلاف و500 عسكري يوم 1 أب/ أغسطس طلب لينين من الألمان الشروع بالتدخل العسكري المباشر في روسيا. فقد جاء تشيتشيرين إلى السفارة الألمانية خصيصاً لإبلاغ السفير الجديد كارل هلفيريخ بهذا الطلب. غير أن ذلك الأمر كان خارج اهتمامات الألمان في تلك الفترة نظراً لانهماكهم منذ 18 تموز/ يوليو في كافة أرجاء الجبهة الغربية بانسحاب الجيش الألماني. وبكل لطف اضطر هيلفيريخ إلى الاعتذار من تشيتشيرن واعداً إياه بتقديم "كل الدعم وتنسيق المساعي". على كل حال بعد اغتيال القيصر نيكولاي الثاني وأسرته لم تعد في روسيا أية قوة أخرى غير البلاشفة مستعدة للتعاون مع ألمانيا.
1011 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع