١٩٨٤... رواية تستقريء التأريخ

د. عصام البرام

١٩٨٤... رواية تستقريء التأريخ

شكلت الرواية عبر تأريخها الحديث بعدًا فلسفيًا، وهى تصارع عمق الحياة واستنتاجاتها ومطارحاتها، إذ تقوم على منظومة من الأحداث والوقائع التى تبحث عن حلول للصراعات التى تسكن شخصيات عالمنا اليوم المتوزعة بين الخيال والواقع. وقد صدرت روايات فى العصر الحديث تناولت أوضاعًا سياسية واجتماعية واقتصادية، تشظت بين الرأسمالية والاشتراكية واللبرالية،.. والثورات الكبرى، التى أحدثت تغييرًا واسع النطاق فى عالمنا حتى اللحظة. يشير الفيلسوف الفرنسى جاك دريدا فى أحد لقاءاته إلى أن (القارئ أكبر شريك فى عملية إنتاج النص)، ويعنى بذلك، أن البناء الروائى قد تتعدد فيه الأصوات والرؤى، ويتخذ الروائى شخصيات من الواقع ثم يتوارى خلفها للوصول إلى بناء روايته، مستخدمًا أساليبه الفنية، واجتهاده الفكرى، وخياله الإبداعى. والكاتب الحاذق هو الذى يعرف كيف يوظف أدواته الفنية فى العملية الإبداعية، ثم يرتقى بنصه بشكل مباشر أو غير مباشر بإقحام المتلقى وجعله يشترك مع نصه، ويجعه يعيش أجواءه لحظة بلحظة، ويتنقل معه ما بين السطور داخل النص.
وهنا سعى الروائى البريطانى جورج أورويل فى رواية 1984، وهو يرصد عالم الاضطراب السياسى، القائم على انفعالات لقادة أو زعماء ينتمون إلى تيارات أيديولوجية، يختلفون فكرًا أحيانًا ويتصارعون على تحقيق مكاسب ذاتية أحيانًا أخرى، حيث يحكمهم الواقع السياسى، ثم سعى هؤلاء الزعماء للصراع فيما بينهم، كل يحاول فرض إرادته على الآخر للاستحواذ والتفرد حزبًا كان أو سلطة. لقد عرف عن جورج أورويل نزعته السياسية المتذبذبة بين الاشتراكية تارةً والليبرالية تارة أخرى، ويبدو ومن خلال قراءاتنا السابقة لما كتبه عن المراحل التى عاشها قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، أنها تركت أثرًا تنازع أفكاره قسريًا، فتملى عليه نقد الواقع السياسى آنذاك بالأسلوب الذى عرف عنه بالبساطة فى التصوير التى يلبسها شخوص أبطاله داخل البناء الدرامى لحركة الرواية.
فهو يسعى فى رواية 1984 من خلال شخصية وينستون سميث، البطل الذى أراد من خلاله أن يبلغنا كيفية طاعة أوامر (الأخ الأكبر) بسلطته المتفرده ونزعته الديكتاتورية، والذى يسيطر خلالها (هذا الأخير) على أربع وزارات تحت مسميات، وزارة الحب، وزارة السلام، وزارة الوفرة، وزارة الحقيقة، حيث أراد جورج أورويل أن يرسم فى شخصية وينستون سميث ومن خلاله، رمزًا إسقاطيًا لما يختلج فى هذه الشخصية المركبة والمعقدة، إنه مراقب من قبل الأخ الأكبر (والرمز السلطة)، من كل ما يدور من حوله، وسيطرت على الشخصية شعورها بفكرة التفرد والاستحواذ، وفرض إرادة الفرد الواحد داخل شخصية الإنسان، حيث يقوم وينستون سميث بتغيير الأفكار حتى غير المقتنع بها لتطابق سياسة الأخ الأكبر.
إن ما يميز كتابات جورج أورويل البساطة والوضوح، فهو يسعى للابتكار فى استخدام لغة جديدة بعيدة عن الإسفاف، ويعرف كيف يوظف بين السرد والوصف للشخصية والحدث والمكان، بتداخل هارمونى قلما يتناوله الكثير من الكتاب أو الروائيين، فهو لا يكتب الأحداث بالأسلوب التقريرى الصحافى، وإن فعل ذلك فى روايته الأولى (الحنين إلى كتالونيا) والتى تناول فيها الحرب الأهلية الإسبانية. فى حين نجده فى رواية 1984، التى يسعى فيها بالترميز القائم على التورية والدهشة المبهرة، والتى قلما تجدها لدى الروائيين، إلا القلائل منهم، حيث يرصد من خلالها جورج أورويل، عالما بتورية عالية البناء داخل النص حول الأنظمة الاستبداية، متناولًا شخصيات مقتضبة تمثلت بأبطالها الذين يشكلون العمق الأفقى للنص، حاملًا هو وأبطاله الهم السياسى للدولة. من هنا تغوص الرواية بعدة أشكال من مظاهر التسلط والاستبداد، فضلا عن استعراض القلق والشك والخوف.
إن الرواية رصدت عالمًا من الحقبة المعاصرة من تاريخنا الحديث تناول أنظمة سياسية لدول عظمى، تنازع قادتها أو زعماؤها داخل الدولة الواحدة سعيًا منهم فى فرض إرادتهم على الآخر، وتحديدًا مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الباردة. لقد حفلت هذه المرحلة باهتمام بالغ من قبل جورج أورويل وهو يسعى لرصدها بكتابة أكثر من رواية، وهذا الاهتمام لم يأت به اعتباطًا، إنما عن دراية عميقة، تقف وراءها دوافع أعمق، على رأسها، توظيف الأدب كفن لمخاطبة النخب المثقفة باعتبارها قوة ناعمة، وإذا ما أبحرنا فى أعماق شخصيتى وينستون سمث والأخ الأكبر لما لهما من رمزية عالية وتورية لشخصيات سياسية لعبت دورًا بارزًا أعقاب الحرب العالمية الثانية، إذ استوحاها جورج أورويل من الزعيم جوزيف ستالين والمثقف الثورى الماركسى ليون تروتسكى.
لقد تعددت الأصوات داخل النص الروائى، وهنا يذكرنا بالفيلسوف والناقد الفرنسى ميشيل فوكو قوله: (لم يكن المعنى فى النص مجرد مضمون يلتقطه قارئ ينتشى بالظفر بغنيمة هى زاده فى بناء الحقيقة ذاتها، فالمعنى قد يظل سرًا مستعصيًا على الضبط، وقد لا تكون الغاية من القراءة هى الاستقرار، فما يستهوى القارئ أحيانًا هو اللهاث وراء إحالات لا تنتهى إلى معنى يمكن أن يعود إلى واقعة بعينها).
لا شك أن ما أظهرته رواية 1984 من قيم متعددة توزعت فى شخصيات حادة الطباع صورها أورويل ببراعة فنية تحمل بين طياتها فلسفةً، وهو يستقرئ التاريخ السياسى للعالم الحديث والمعاصر الذى تحتدم فيه، من خلال نشوء صراعات، أو ما يتوزع فى نشوء تنظيمات سياسية ودينية وتجارية تعمل على الأخذ بالشعوب نحو دحض القيم الروحية والإنسانية والأخذ بالقيم المادية والسلطوية والتفرد بها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

497 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع