د.ضرغام الدباغ
اليسار العربي ... استشراف المستقبل - رؤية نقدية
العالم العربي في غليان، وفي علم التاريخ يعتبر في مرحلة تمفصل (Epoch Transition)، إثر مراحل انتهى استحقاقها وأدت مهماتها وتؤذن بالرحيل، والمرحلة المقبلة تحتاج إلى خصائص جديدة، فكل شيء مطروح للاحتمالات، والقريبة منها و البعيدة جداً، بدرجة أضحى معها التنبؤ بنتائج العاصفة أمراً يصعب حتى على أبرع المحللين والمفكرين، ولكنه ممكن ..!
الأسباب بالطبع عديدة، منها مؤثرات موضوعية خارجية، ومنها مؤثرات ذاتية داخلية، وكلتا المؤثرات من الصنفين متوافرة بدرجة ثقيلة بحيث لابد أن تترك آثارها، وردود أفعال العديد منها خارج السيطرة، وهي الأخطر بطبيعة الحال.
المؤثرات الداخلية هي تلك المؤثرات المتوفرة غالباً في البلدان النامية (المتحررة حديثاً من الاستعمار والهيمنة الأجنبية) وتحمل نكهة المتوارث التاريخي، أضيف فوقها ما خلفته عهود الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ومن تلك شيوع ليس أنماط وعلاقات الإنتاج المتخلفة فحسب، بل وسلسلة محكمة الحلقات متوارثة من العلاقات المتخلفة السياسية / الاجتماعية / الثقافية، بحيث تضيف المزيد من العراقيل أمام مناهج عمل قوى اليسار المحلية المتنورة في الغالب بفعل تماسات ثقافية مع قوى اليسار الإقليمية أو العالمية.(1)
في التاريخ العربي الوسيط والحديث، لم يكتب للحركات اليسارية (إن صح اعتبارها كذلك) إنجازات كبيرة، عدا تجربة المعتزلة، التي طالت لعقود، وحكمت كفكر المؤسسة السياسية، (المأمون 813 م ــ المعتصم 833 م ــ الواثق 842 م حتى خلافة المتوكل 847) أي نحو 34 سنة في غضون عصر ثلاثة خلفاء.
ثم حركة الخوارج التي استطال تاريخها، فاستطاعت أن تؤسس كيانات سياسية، بيد أن الغلو والتطرف الجامح حال دون أن تتحول التجربة إلى توجه سياسي راسخ. وكانت قد تأسست عام 655م، ثم بدأت بالتلاشي عام 861م، أي أن وجودها تواصل في العمل السياسي والفكري نحو 206 أعوام (2)
أما الحركتان / الانتفاضتان المسلحتان، الزنج (250 هـ / 270 هـ) والقرامطة (260 هـ / 470 هـ) فكلتاهما لم تتمكنا من الارتقاء إلى شروط الثورة. ولكن من الضروري الانتباه إلى نقطة نجدها مهمة في تحليل الحركات السياسية التاريخية، أن نقيم تحليلنا وفق القاموس السياسي لذلك العصر. وقد توصلنا إلى تشخيص حقيقة علمية من خلال تأملنا في تاريخ الفكر السياسي العربي القديم والوسيط، أن الفكر السياسي وصيغه وأشكاله وأدواته المعبرة، تتراجع وتتخلف بتخلف الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة، وبهذا المعنى نجد أن الحركات السياسية العربية قد تراجعت وتكاد أن تكون خمدت، وليس هناك ما يستحق تسجيله في تلك المراحل المظلمة، إلا إذا استثنينا بعض التحركات في الأرياف التي لم تكن تنطوي على أهداف سياسية مهمة أو عميقة، إذ كانت تعبر في الغالب عن استياء سكان الأرياف من الضرائب ومصادرة المواشي والمحاصيل.
اليسار العربي في العصر الوسيط لم يستطع أن يتحول إلى تيار كبير، بسبب شدة تأثير التيار الديني، وهو تيار بطبيعته لا يميل للتغيير، بل للحفاظ على التقاليد والأصول، من جهة، والتطرف الذي أودى بحركتين كادتا تتحولان إلى تيار قوي ونعني بهما: الخوارج والمعتزلة.
وفترة السبات المظلمة لم تنقطع فيها الحركة الفكرية والثقافية والعلمية فحسب، بل إن عطلاً شديداً أصاب الأجهزة والآليات المعنية بمتابعة التطورات التي كانت تدور في أماكن عديدة من العالم، وبذلك أصبحت بلادنا في عزلة تامة وسادت في معظم الأرجاء العربية الإرادة الأجنبية التي لم تكن تبدي التفهم لإرادة الشعب. ووفق هذه المعطيات، لم يكن ليسار حديث في الوطن العربي أن يظهر قبل ما اُستحسن (شخصياً ) تسميته "عصر النهضة العربي الثاني" والذي أرجح سريانه منذ أواسط القرن التاسع عشر (1850) وفق المؤشرات التالية:
1. كانت الثورة اللوثرية في الكنيسة (1500)، قد قادت إلى ثورة تحررية، وشيوع الأفكار الليبرالية، ونهاية لعصر المسلمات المقدسة.
2. أفضى عصر النهضة (القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر) إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية (1799)، ثم الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر)، وبدأت الدول الصناعية الأولى تدشن عصر الاستعمار، فانطلقت الحملات الاستعمارية تجوب أعالي البحار، وليشتد الصراع على المستعمرات، فخلفت حزمة التطورات هذه تداعيات؛ إن في البلدان الصناعية وجيرانها من الأوربيين، في نهاية لتحالف الكنيسة والملوك، أو في بلدان المستعمرات، حيث أدى الاحتلال الأجنبي لها إلى آثار اقتصادية وسياسية بعيدة.
3. الإمبراطورية العثمانية، كانت تشهد انتقالاً بطيئاً من العهد الإقطاعي إلى بدايات التأثر بالأحداث الأوربية، ومن تلك تحديث نظم الدولة، وكان لهذه آثارها في الأقطار العربية باتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية عديدة، لتتأجج المسائل الوطنية والقومية.
4. مؤشرات نهوض في مصر إبان حكم محمد علي الكبير (1805 ـ 1848)، والجامعة الأمريكية في بيروت 1866، والجامعة اليسوعية في بيروت 1875.
5. بدأ نشاط تعليمي ومعرفي بالتحرك في العراق وسورية وفلسطين، تمثل في افتتاح عدد من المدارس العليا والكليات، بعضها كان نتيجة لنشاط البعثات والكنائس المسيحية، كما بدأت السلطات العثمانية تولي للتعليم أهمية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.
6. كان اشتداد تيارات التحرر في عاصمة الدولة العثمانية، وانتشار الجمعيات الثقافية والاجتماعية ذات الأبعاد السياسية، قد تغلغلت بين العرب المتواجدين في العاصمة للدراسة أو الخدمة في الجيش. فشهدت تلك المرحلة تشكيل العديد من الجمعيات الثقافية والسياسية العربية، سرعان ما انتقلت فروعها إلى الوطن العربي ولا سيما في سوريا (لبنان) والعراق ومصر.
7. مهدت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا 1918 ــ الانتشار للأفكار الاشتراكية.
وجدير بالملاحظة والتتبع، العلاقة الجدلية التي تربط هذه العناصر بعضها ببعض كعناصر مؤثرة كان لها تفاعلاتها ونتائجها كل في الزمن الذي حدثت به، وإن كانت دوائر تأثيرها تصل ضعيفة خافتة وبطيئة إلى العالم العربي، ولكن من الداخل أيضاً (داخل الوطن العربي) كانت هناك عناصر داخلية عديدة تحتدم، فالعهد العثماني نفسه كان يئن ويتداعى تحت وطأة تفاعلات داخلية وخارجية بدا النظام العثماني حيالها عاجزاً عن التطور وعن استيعابها، وكان عليه أن يقدم على قفزة كبيرة إلى الأمام ولكن قواه الذاتية لم تكن تكفيه للقيام بتلك القفزة، مع اشتداد المؤامرات الخارجية عليه في إطار التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريات العظمى.
وعصر النهضة العربي سادته هواجس محاكاة الغرب مبهوراَ بالمنجزات الفكرية والعلمية، بل ذهب البعض إلى ضرورة محاكاته إلى درجة التماثل. وقد فات تلك الجهات أن التماثل ونقل التجارب بحذافيرها أمر مستحيل لصعوبات موضوعية قبل أن تكون ذاتية، بالإضافة إلى الحقيقة المؤكدة، وهي أننا لا يمكننا التخلي عن موروثنا الثقافي والحضاري الذي يمتد لبضعة آلاف من السنين، وأن محاولة من هذا القبيل قد تكون نبيلة المقاصد النهائية، إلا أنه محكوم عليها بالفشل، فهي نقل معلب لمنجزات لا تمت لنا ولموروثنا الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، والقبول بها كما هي ونقلها بشكل آلي أشبه بزرع جسم غريب في جسد سوف لن يقبله، وأن محاولات إرغامية كهذه افتقرت للأصالة، فهي أشبه بمن يطفئ حريقاً شب في منطقة أخرى، ولم تستجب للإثارات المحلية لذلك لاقت الفشل في الوطن العربي من خلال تجارب عديدة، في حين توصلت أمة كاليابان مثلاً في المحافظة على القيم والموروث الثقافي مع تحقيق تقدم صناعي / علمي، رغم أن موروثنا الثقافي هو أكثر ثراء من الموروثات اليابانية.
اليسار العربي في العصر الحديث جاء مقطوع الجذور عن موروثات مجتمعه، وحاول أحياناً أن يكون نسخة مكررة عن اليسار الأجنبي بتنوع نسخه: الأوربي/ الآسيوي/ الأمريكي اللاتيني، وكان رواده في البلاد العربية من الانتلجنسيا الأجانب، ومن مثقفين سنحت لهم الظروف تعليماً استثنائياً نادراً، أو من خلال علاقات خاصة مع مؤسسات أجنبية. وبعض هذه الشخصيات نجدها معادية بضراوة للتوجهات الشعبية كالوحدة العربية (مع أن قوى اليسار في البلدان الأجنبية تناضل من أجل الوحدة الوطنية والقومية)، كما أن الإخلاص والتزمت للنصوص (الدوغماتية) أفقدها المرونة حيال الكثير من القضايا الجوهرية.
وكان تطور حجم التجارة الدولية بسبب نتائج الثورة الصناعية، قد أنتج محاولات الدول الصناعية البحث عن متعاونين يمثلون مصالحها الاقتصادية أولاً، ثم السياسية بطبيعة الحال. وهكذا نشأت في العواصم والمدن الكبيرة فئات كومبرادورية (Comprador) أصبحت وسيطة للقوى الأجنبية، المتطلعة للتوسع الاستعماري، وتوسيع نفوذها، وأصبحت تمثل ليس فقط قاعدتها الاقتصادية / الاجتماعية فحسب، بل وأفقها الثقافي أيضاً، فتولت فتح مدارس التعليم الخاص، والصحف والمجلات، وكونت محيط إشعاعها الثقافي / الفكري، وليس نادراً ما تكونت الشرائح المتنورة من هذه الفئات الاجتماعية، التي كانت تحاكي في محاولات فاشلة بالطبع تقليد المجتمعات المصدرة للتجارة والثقافة، بل وأصبحت ثقافة الأجنبي هي ثقافة الفئات الوسطى والعليا في المجتمع، وليس نادراً ما انعكست في فعاليات اجتماعية.
ناهضت الدول الصناعية / الاستعمارية هذه المؤشرات التي مثلت بوادر النهضة العربية الحديثة التي انطلقت في مصر أولاً، بحملة تعليم وترجمة ونهوض ثقافي، وإرسال بعثات للتعليم، في أجواء شجعت ظهور شخصيات ثقافية متنورة ذات أهداف نهضوية.
وبالرغم من أن محاولات النهضة العربية كانت تواجه بالعديد من العقبات المحلية والأجنبية، تمثلت الداخلية المحلية منها بالقوى الإقطاعية والرجعية التي رأت في النهضة ما يدفع بمواقعها ومكتسباتها إلى الخلف ويفسح المجال لبروز قوى جديدة تهدد مواقعها. وكان من الصعوبة بمكان بروز تيارات ثقافية وفكرية مستقلة عن الجو العام السائد. والعوامل الخارجية كانت تتمثل بتغلغل القوى الاستعمارية تجارياً وثقافياً حتى في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بسبب ضعف الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية للسلطات العثمانية، وعدم قدرتها على مواجهة هذا النهوض الثقافي / الفكري الذي كان يهدد باقتلاع كل شيء حتى في عاصمة الدولة العثمانية نفسها، التي كانت تشهد تصاعد نشاط الحركات القومية الهادفة إلى بناء دولة قومية حديثة.
ومن جملة العوامل الخارجية أيضاً اشتداد واتساع نطاق الحركات الاشتراكية بأنواعها في بلدان أوربا الغربية: ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، وسريانها إلى بلدان أوربا الشرقية وخاصة في: هنغاريا وجيكوسلوفاكيا، ثم في روسيا. ونقلت إليها جوهر النضال الاجتماعي في بواكير القرن العشرين. وفي مصادر تاريخ الفكر والحركات الاشتراكية الكثير من الوقائع والمفردات عن طبيعة انتشار الفكر الاشتراكي في الأقطار العربية، ومن ثم الأحزاب والحركات الماركسية، ومنها الحزب الشيوعي ويعود تاريخ تأسيسه إلى مرحلة العشرينيات والثلاثينيات، ثم حركة البعث العربي الاشتراكي، الذي بدأ بالانتشار من أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، وتأسس بشكل نهائي في نيسان / 1947، كأول حركة (حزب) قومي اشتراكي. وكان قادة الحزب ذوي ثقافة فرنسية، إذ درسوا في باريس وهناك تعلموا مناهج الفكر الاشتراكي الديمقراطي، ولكن مع ظروف الواقع السياسي / الاقتصادي / الاجتماعي، كان لابد أن يكون التركيز على القضايا القومية، وقد حلت القضية الفلسطينية 1948 كقضية قومية ذات أولوية بعد عامين فقط من تأسيس حزب البعث 1947، وكانت إرهاصاتها تدور قبل ذلك بسنوات عديدة.
الأحزاب اليسارية / العمالية، تعاملت في موضوعات القضايا المحلية الوطنية / القومية بعقل وأحياناً برؤية أجنبية، في النظر إلى المشكلات المحلية بحلول حيادية أحياناً، وتخندقوا وراء هذه المواقف، على أساس الثوابت والمقاييس النظرية، وإذا كان الفكر الاشتراكي الديمقراطي / الماركسي متقدماً في قوته النظرية وعمق أفكاره، إلا أن الحركات التي اهتمت بنشر هذا الفكر كانت تنظر إلى مشكلاتنا الوطنية والقومية وتحللها بمنظار وعيون القوى الأجنبية، وقد تسبب هذا العجز في التطبيقات الإيديولوجية إلى خسارة نفوذ مهم كانت تتمتع به هذه الأحزاب في العديد من البلدان كالعراق وسوريا ومصر..الخ وحتى في خارج الإطار العربي في تركيا وإيران .
وكان لارتباط الأحزاب الشيوعية العربية بمنظمة (Comintern) أثره السلبي على تطور الأحزاب الشيوعية في المنطقة وحتى في أوربا، بل وفي العالم، اغتنمها أعداء المعسكر الاشتراكي والقوى الرجعية المحلية، وبالغوا في خلق صورة مفزعة للاشتراكية والشيوعية، واتخذت مساراً معادياً لليسار عموماً وللأحزاب الشيوعية خصوصاً. والعلاقة الوثيقة للأحزاب الشيوعية بالاتحاد السوفيتي أضرت بالحركة الاشتراكية ليس في منطقتنا العربية والشرق الأوسط، بل وفي أوربا الغربية (إيطاليا ــ فرنسا ــ أسبانيا)، وفي أوربا الشرقية لم تخلُ من إشكالات في (يوغسلافيا ــ ألبانيا ــ هنغاريا ــ جيكوسلوفاكيا ــ بولونيا). (3)
ضخمت أجهزة الإعلام والدعاية الرأسمالية وبالغت بتأثيراتها، سواء في البلدان الأوربية أو في أرجاء من العالم، وفي منطقتنا بصفة خاصة، وألحقت أضراراً جسيمة بحركة اليسار بصفة عامة. ومن جهة أخرى، تسببت هذه القراءة الخاطئة، والتفسير الخاطئ للمصادر الاشتراكية العلمية في العديد من المواقف المناهضة لآمال الأقطار وطموحاتها وحقوقها المشروعة السياسية والاقتصادية.
وقد اتخذت هذه القوى والأحزاب موقفاً لا يلين تجاه أعز تطلعات الجماهير:
1. موقفاً مناهضاً للمشاعر الوطنية والقومية حيال القضية الفلسطينية.
2. موقفاً مناهضاً لمشاعر الأمة في الوحدة العربية.
3. موقفاً مبالغاً في الإلحاد والإجهار به حيال عاطفة شعبية للدين.
أما في المواقف السياسية فقد ارتكبت أخطاء كثيرة في العديد من الأقطار وفي حقب مختلفة، في الجزائر، ومصر، العراق وسورية، ومن تلك الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر، مواقفهم في حرب التحرير الجزائرية، ومصر حيال ثورة 23 / تموز / 1952، وفي العراق حيال الحكم الوطني، وفي إيران في ثورة مصدق وبعدها، وفي التعاون مع الاحتلال الأمريكي للعراق. وفي فهم خاطئ لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعات الشرق الأوسط والوطن العربي بأسره، وحتى الخمسينيات كانت الطبقة العاملة العربية والشرقية عامة ضعيفة وقليلة العدد بصفة عامة، ليست بمستوى الطبقة العاملة في البلدان الصناعية، ناهيك عن وجود قوي للدول الاستعمارية سياسي / اقتصادي / عسكري حتى نهاية الخمسينيات، والعديد من الأقطار العربية لم تكن قد أنجزت (وبعضها لا يزال في مرحلة مهمات وواجبات ومستلزمات مرحلة التحرر الوطني)، الأمر الذي كان يحتم وضع برامج نضالية تتلاءم مع الموقف الاجتماعي / الاقتصادي في كل بلد، نعم هناك مشتركات، ولكن مع وجود خصائص . (4)
وثمة مشكلة أخرى واجهت حركة اليسار العربي وهي أن الاعتدال (النسبي) الذي تميزت به، ولا سيما في المرحلة (1963 ــ 1967) تحول بعد هزيمة حزيران 1967 وبعد اشتداد هبوب عاصفة التيارات الماركسية إلى حالة من الاندفاع نحو الماركسية، حتى أن الحركات القومية بدأت تسرع نحو الماركسية، بوصفها القلعة المنيعة المعادية للإمبريالية، وطالما نحن في صراع حياة أو موت مع الإمبريالية، فنتخذها منهجاً وسبيلاً للتحرر والتنمية، وطالما لا أحد يعطينا سلاحاً ندافع به عن بلداننا وأنفسنا، فلنتحالف جذرياً مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ولم يكن هذا يخلو من منطق، وهذا كان لب الزحف صوب الماركسية، وطالما هي ردة فعل فليكن بأتم صورة وأقواها، هكذا كان القاموس السياسي لتلك المرحلة: الاندفاع دون هوادة.
إلى هنا كان الأمر يبدو منطقياً وأن الرد على الهزيمة بتصعيد المقاومة الثورية، واليسار مقاومة وثورية في آن واحد، ولكن المشكلة كما هي دائماً: الخطأ في تسلسل القراءة والدراسة، والاسترشاد. الثورة والماركسية علم وعلم ليس بسيطاً، وقد صادفت أعضاء قيادات شيوعية لا يفقهون من الماركسية شيئاً. الديالكتيك والميتافيزيقية، والإمبريالية ونظريات النقود والأجور، ونظام الدولة موضوعات علمية تدرس في الجامعات، ومعظم قوانا تعاملت مع الأمر كمزاج وكرد فعل ووفق قناعات مسبقة. ولم نجد (إلا نادراً) دراسات علمية تستحق الاعتبار قائمة على تحليل المجتمع تحليل علمي، ليصار إلى وضع سياسات نضالية. (5)
النتيجة كما هي تاريخياً، عندما لا يحقق التصعيد التراكم المطلوب، تلجأ القوى الثورية وتغطية لعجزها النظري والتطبيقي، إلى المبالغة والتطرف لدرجة مفجعة. وهذه حقيقة تاريخية معروفة، وهكذا أممت سلطات اليمن الديمقراطية (وهم حزب قومي أصلاً ــ حركة القومين العرب) زوارق صغيرة لصيادي أسماك فقراء، وثورة ظفار تحولت للماركسية وقاموا بإلغاء المهر وعقود الزواج، وشاهدت بأم عيني ذات يوم في الأردن شعارات "لنقم سوفيتات العمال والفلاحين". وندوة أقامتها حركة قومية جرى التحول للماركسية بالتصويت ..! وحزب شيوعي انشقّ، والجزء المنشق تطرف لدرجة أنه أنهى بداية كان يمكن أن تكون رائعة بتشخيصه الدقيق لمشكلات الحركة الشيوعية في ذلك البلد. كان هذا التطرف يحمل بذور النهاية. وتختزن الذاكرة صوراً مرعبة للتطرف الذي بلغ أحياناً مستويات جنونية، وهو سلوك معاكس للثورية، حتى أني استخدمت مرة مصطلح (شيوعيو الفجل) من الخارج أحمر قاني، ومن الداخل أبيض ناصع البياض ..!
والحق أن مثل هذا التطرف كان موجوداً في صفوف اليسار، وفي صفوف الأحزاب الشيوعية، وقد أنتج حالات أساءت للفكر الماركسي وللاشتراكية، ففكرة تصدير الثورة كانت أساساً من نتائج ثورة أكتوبر الاشتراكية، وما زالت بقايا الفكر التروتسكي قوياً في بعض بلدان أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وقبلها كان التيار الفوضوي (قاده باكونين) الذي ظل سائداً في فرنسا وأسبانيا حتى الثلاثينيات، ولا تزال بقاياه موجودة، وكذلك تجربة الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها.(6)
اعتمدت بعض الحركات اليسارية على الفكر الماركسي ــ اللينيني كمنهج سياسي / أيدولوجي لها، و بعضها أنشقت عن حركاتها الأم، ولكنها لم تبلغ شأواً مهماً، وأخرى تطورت وغيرت دستورها ونظامها الداخلي واسمها، ولكن القفزة الكبيرة دون توفر المستلزمات أفقدها توازنها، والتطرف يقود إلى تطرف أشد ومبالغات، ومزايدات، حتى تسود الفوضى النظرية السياسية والتكتلات والخطوط المائلة والمتقاطعة. والحصيلة لم تحض أعمال مهمة في الفكر الاشتراكي الثوري واليساري لقادة ومفكرين أفذاذاً مؤهلين تمام التأهيل ليكونوا قادة كباراً، كالقائد المفكر عبد الفتاح إبراهيم، ومحسن إبراهيم، و جورج طرابيشي، والياس مرقص، وياسين الحافظ، ومحمد عابد الجابري، وأنور عبد الملك، وسمير أمين، وغيرهم.
ورغم الإسهامات الكبيرة لهؤلاء المفكرين، إلا أنها كانت (تقريباً) مسكونة بفكرة محاكاة الفكر اليساري الأوربي، وما عدا محاولات لا نعتبرها كافية، لم يُغطس في عمق المشكلات الفكرية العربية، ويؤسس على متابعة دقيقة وعلى أيدي مختصين لمصادر الفكر المادي العربي ويواصل عليها بتحديثها، فقد قرأنا مرة أن عالماً ماركسياً أوربياً صرح إما أن يكون ابن خلدون قد تأثر بكارل ماركس أو العكس..! وكذلك ابن رشد الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس الفلسفة المادية في أوربا.
لا ندعو بهذا المفكرين العرب إلى عزل الفكر العربي عن المؤثرات الخارجية، ولا أن يغطس في المورثات بحيث يصعب عليه التطلع بأفق واسع، وفهم العلاقة الوثيقة بين المنجزات الثقافية للإنسانية. إن توازناً دقيقاً يبدو هو المطلوب، وإلا فأي فائدة ترجى من مفكر يعيش في الشرق ويتأثر بكل مؤثراته، ويحاول علاجها بأدوات غربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1. التماس الفكري شأن حدث ويكثر حدوثه في إطار التبادل الحضاري والفكري والثقافي بين الشعوب، والأفكار تنتقل عبر وسائط عديدة، تعددت أساليبه في القرون الحديثة مع شيوع استخدام الراديو، واللاسلكي، والطباعة، وأضافت لها الوسائل الالكترونية كنتيجة للثورة المعلوماتية أبعاداً لم تعد معها نقطة واحدة بعيدة عن تحقيق الاتصال الفكري والثقافي معها.
2. تأسست حركة الخوارج في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض)، (655 م ـ 35 هج/ 661 م ـ 40 هج)، وتواصلت في العصر الأموي والعباسي، حتى تلاشت تدريجياً في العصر العباسي الوسيط (833 م ـ 218هج / 861 م ـ 247هج )، ولكن دائماً مع بقاء شرائح من فئات الخوارج تحت مسميات شتى في شبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا. وسموا بالخوارج رغم أنهم أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة)، بيد أن تسمية الخوارج طغت لدى المؤرخين العرب والمسلمين والأجانب. ويعتبرهم الأستاذ البرت حوراني: "أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات "
3. الكومنترن (Comintern) منظمة أسسها فلاديمير لينين عام 1919 في موسكو، وهي تنسق بين الاحزاب الشيوعية في العالم، وتهدف إلى إقامة النظام الاشتراكي / الشيوعي.
4. الأحزاب الشيوعية وخاصة العربية، بررت ووجدت الذرائع لمشكلات حدثت في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، في حين أنها كانت تثير الدعايات بوجه الحكومات الوطنية في البلاد العربية لأنها مخالفة للتعاليم الاشتراكية / الماركسية، وتتساهل مع أمثالها أو أكبر منها في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية:
• صلح برست: تخلى الاتحاد السوفيتي عن مساحات من أراضيه نتيجة الصلح مع ألمانيا لإنهاء الحرب العالمية الأولى، واستعادها بعد الحرب العالمية الثانية.
• عصيان كرونشتاد شباط فبراير وآذار مارس 1921، تمرد قام به البحارة الشيوعيون السوفيت مطالبين بحقوق سياسية، في مطلع عهد السلطة السوفيتية، قام ستالين بقمعها بقسوة دموية.
• قضية هونغ كونغ: مقاطعة صينية استولت عليها بريطانيا، لمدة 48 سنة حتى استعادتها الصين سلماً.
• قضية تايوان. جزء من أراضي الصين اقتطعها نظام شان كاي شيك الرجعي الموالي للإمبريالية ولا تزال تحت سيادة هذه السلطة، وتأمل الصين الشعبية استعادتها ذات يوم سلماً.
• مكاو المستعمرة البرتغالية حتى 20 ديسمبر 1999، (الآن منطقة إدارية خاصة تابعة لجمهورية الصين الشعبية).
• الشيوعيون والكفاح المسلح في أميركا اللاتينية (بوليفيا مثالاً)، حيث ساهم الشيوعيون البوليفيون بصورة غير مباشرة بفشل ثورة غيفارا في بوليفيا، بداعي أنها (غير عمالية ورومانسية ثورية) وقاطعوها حتى لاقت مصيرها بالإبادة.
• قضية القاعدة العسكرية الأمريكية في غوانتنامو. أراض كوبية تقيم عليها الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية، وتضم القاعدة حتى الآن معسكر الاعتقال الشهير.
• مرونة البلدان الاشتراكية في بيع أراض من السيادة الوطنية بذريعة أنها تحسن من وضع الحدود مع الدول الغربية.
• البلدان الاشتراكية: يوغسلافيا ألبانيا، هنغاريا، جيكوسلوفاكيا، بولونيا ورومانيا، وفي جميع هذه البلدان نشبت حركات (ثورات مضادة في الغالب إخراج وتنفيذ أجهزة المخابرات الغربية)، نتيجة لرفضها النموذج السوفيتي في الهيمنة وقيادة العالم الاشتراكي، أو لصعوبة تنفيذ النموذج السوفيتي خارج الاتحاد السوفيتي.
5. الفوضوية : تيار أسسه الروسي ميخائيل باكونين (1814 ـ 1876). مناضل ومفكر روسي الأصل، ساهم في ثورات وانتفاضات في تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، ضد الأنظمة الرجعية عمل لفترة مع ماركس ثم اختلفا، صاحب نظرية ضد السلطة والسلطوية، وأعتبر أن الدولة والكنيسة هم ألد أعداء الشعب.
6. للأنصاف قرأت مرة دراسة مختصرة ولكنها مفيدة للحزب الشيوعي العراقي في أوائل السبعينات (القيادة المركزية )، كما تعرفت شخصياً على قيادات شيوعية عربية على درجة من الكفاءة النظرية.
1704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع