مشاركة السوفيت في الحرب الأهلية الإسبانية

د. جابر أبي جابر

مشاركة السوفيت في الحرب الأهلية الإسبانية

لا يتوقف النقاش بين المؤرخين حتى أيامنا هذه حول دور الاتحاد السوفيتي في الدفاع عن إسبانيا الجمهورية وهلاكها أثناء الحرب الأهلية(1936-1939). فهل يا ترى كان هذا الدور نبيلاً أم أن ستالين استغل إسبانيا ببساطة ثم تخلص من الجمهورية كمادة مستهلكة؟

جاءت حصيلة انتخابات عام 1936 في إسبانيا بفوز القوى اليسارية على اليمين والمؤسسة العسكرية والكنيسة. وقد سارعت القوى اليمينية واليمينية المتطرفة وجزء كبير من الجيش إلى تنسيق جهودها للإطاحة بحكومة الجبهة الشعبية الشرعية. وفي هذا الإطار تسنى للجنرال فرانشيسكو فرانكو القيام بتمرد عسكري انطلاقاً من الريف الإسباني (المغرب) وجزر الكناري في 18تموز/ يوليو من العام ذاته. وآنذاك كانت حكومة الجمهوريين مفعمة بالتفاؤل إزاء إمكانية سحق التمرد حيث أكدت أن لديها القوات الكافية لإخماده على الفور. وفي ضوء ذلك منعت السلطات منعاً باتاً حكومات المقاطعات وإدارات البلديات من تسليم السلاح للمدنيين من أنصار الجبهة الشعبية.
لم يعتزم ستالين حتى منتصف أيلول/سبتمبر عام 1936 التدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد. و بناء على طلبه أعطيت تعليمات صارمة للدبلوماسيين السوفيت في باريس، بالدرجة الأولى، لرفض كافة طلبات الجمهوريين حول الحصول على المساعدة العسكرية السوفيتية. كما أن موسكو انضمت إلى الاتفاق الخاص بعدم التدخل في القضية الإسبانية، الذي اقترحته بريطانيا وفرنسا ووقعت عليه غالبية الدول الأوروبية. وقد كانت القيادة السوفيتية تعتقد أنه لابد للجمهوريين أن يسحقوا في غضون بضع أسابيع التمرد العسكري، الذي قام به الجنرال فرانكو ضد الحكومة الجمهورية. كما أن السوفيت لم يقدروا حق تقدير أهمية الدور الألماني الإيطالي في دعم أنصار الملكية. فإن معظم المؤرخين المعنيين بدراسة الحرب الأهلية الإسبانية يشيرون إلى أن المساعدات العسكرية- الفنية السوفيتية للجمهوريين كانت أقل حجماً، إلى حد كبير، من مساعدات ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية المماثلة ، التي أرسلت خلال سنوات الحرب زهاء 150 ألف عسكري. ويرجع ذلك إلى دوافع سياسية وجغرافية واعتبارات اقتصادية. فعلى سبيل المثال كانت إيطاليا تطمع في الحصول على جزر البليار بينما كان الألمان النازيون يسعون إلى نيل امتيازات استغلال المناجم الإسبانية.
على كل حال لم يكن تقديم الدعم لليسار الإسباني أمراً جديداً بالنسبة لموسكو. ففي تشرين الأول/أكتوبر عام 1934 بحثت أمانة اتحاد النقابات السوفيتية مسألة إسداء مساعدات مادية إلى ضحايا الإرهاب الفاشي في إسبانيا بعد سحق الانتفاضة، التي قام بها الاشتراكيون والأناركيون والشيوعيون في خريف العام نفسه. ففي ربيع عام 1935 منح السوفيت حق اللجوء السياسي إلى عدد غير قليل من ممثلي القوى اليسارية المذكورة، الذين عادوا في نيسان/أبريل عام 1936 إلى إسبانيا بعد صدور العفو عنهم، وانضموا إلى المقاومة المسلحة للحكومة الجمهورية ضد قوات الجنرال فرانكو.
وقد جرت في الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الأهلية الإسبانية حملة واسعة من أجل جمع التبرعات لمساعدة الجمهورية الفتية. وفي هذه الحملة ساهم كتاب بارزون منهم الكسندر فادييف وألكسي تولستوي وميخائيل شولوخوف وتم لقاء الأموال، التي تسنى جمعها، شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية وإرسالها إلى إسبانيا.
ولكن بينما كانت فرنسا وبريطانيا تبحثان عن حل توافقي مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية بدأ ستالين في النظر إلى إسبانيا كدولة يمكن أن تصبح حليفة للاتحاد السوفيتي. وفي ضوء ذلك قرر، في نهاية الأمر، تقديم المساعدة لها. وأوعز إلى الكومنترن بإرسال عشرات آلاف المتطوعين من أعضاء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الأجنبية لمؤازرة اليساريين الإسبان. وقد شارك ضمن الألوية الأممية حوالي 35 ألف متطوع من 53 بلداً. ومن هؤلاء الكاتب الإنجليزي جورج أورويل(ايريك آرثر بلير) كصحفي. وإلى جانبه قام بتغطية الأحداث في إسبانيا الكاتبان أرنست همنغواي وأنطوان دو سانت إكزوبيري وكذلك فيلي براندت، الذي أصبح فيما بعد مستشار ألمانيا الغربية.
ومنذ خريف عام 1936 وبعد أحداث برشلونة بشكل خاص (أيار/مايو عام 1937) باتت موسكو تتدخل على نحو فعال في الصراع السياسي الدائر هناك بين قوى اليسار. ومن اللافت آنذاك أن الأجهزة الاستخباراتية السوفيتية ركزت جل اهتمامها على "حزب العمال للتوحيد الماركسي"، الذي كان يتخذ مواقف معادية للستالينية، مما أدى إلى تعرضه للملاحقة من جانب الأجهزة المذكورة بذريعة تعاطفه مع التروتسكية. وبهذا الصدد وجّه جورج أورويل أشد الانتقادات للحكم البلشفي، الذي أذلّ، حسب تعبيره، الإنسان وحوّل البشر، في آن واحد، إلى بهائم في مزرعة الحيوان. وقد أكد أورويل، الذي كان عضواً في حزب العمال للتوحيد الماركسي، على أن أساليب ستالين في تصفية خصومه التروتسكيين والأناركيين أضعفت، في حقيقة الأمر، مواقع اليساريين والجمهوريين الإسبان إلى حد كبير وصبّت لصالح الجنرال معسكر فرانكو.
كان عدد كبير من الخبراء العسكريين السوفيت الذين وصلوا إلى إسبانيا من رجال الاستخبارات الخارجية . وقد كلّف هؤلاء بإنشاء هيئات أمنية في الأراضي الخاضعة لسيطرة الجمهوريين. وسرعان ما ظهر في المدن والأرياف والمؤسسات المختلفة هيئات سميت بالتشكا على غرار البوليس السري السوفيتي، الذي عمل في السنوات الأولى للحكم البلشفي. والمعروف أن العاملين في هذه الهيئات سرعان ما انخركوا في عمليات تطهير ضمن صفوف الجمهوريين وفقاً للأنماط البلشفية. ففي عام 1937 قام هؤلاء على جناح السرعة بتصفية ما يسمى " التآمر التروتسكي الأناركي".
أما في الواقع فإن معظم المؤرخين يؤكدون على أنه لم يكن هنالك أي تآمر وإنما كان ستالين يشعر بغيرة شديدة إزاء الشعبية الواسعة، التي تمتع بها الأناركيون والشيوعيون من حزب العمال للتوحيد الماركسي ورئيسه أندريس نين، الذي أعدمه رجال الاستخبارات السوفيتية بعد تعذيب وحشي. ومن الملاحظ أن الشيوعيين الإسبان اقتبسوا في قمعهم ومحاكماتهم لخصومهم نفس الطريق والأساليب التي استخدمها ستالين خلال تطهيراته الكبرى في الاتحاد السوفيتي(1937-1938). وبهذا الصدد أشار خوليان غوركين أحد قادة الحزب المذكور قائلاً:" لقد التقيت في سجون مدريد وفالنسيا وبرشلونة مئات اليساريين من الاشتراكيين والأناركيين والحزب الذي أتزعمه إلى جانب رجال الشرطة الثورية ومقاتلي الألوية الأممية. وكان جميعهم من المعاديين للفاشية والستالينية. ويمكن للمرء أن يرى بأم عينيه كيف قتلت الثورة الإسبانية بدم بارد".
وهكذا شارك الاتحاد السوفيتي على نطاق واسع في الحرب الأهلية الإسبانية. ومن أهم الأسباب، التي دعته إلى هذا التدخل، استخدام إسبانيا كحقل تجارب على عتبة الحرب الكبرى القادمة. وكان ضمن "المتطوعين" العسكريين السوفيت ضباط بارزون حصلوا فيما بعد على رتبة المارشالية ومنهم مالينوفسكي وكونيف وروكوسوفسكي وغيرهم من ضباط الجيش الأحمر، الذين كانوا يأتون إلى إسبانيا بأسماء مستعارة. وإلى جانب هؤلاء جاء إلى هناك عدد كبير من أبرز رجالات الاستخبارات السوفيتية مثل أبرام سلوتسكي ونعوم ايتينغون وألكسندر أورلوف ويان بيرزين.
بحلول عام 1936 بلغ الاحتياطي الذهبي لاسبانيا 600 طن. ولدى اندلاع تمرد فرانكو كان القسم الأعظم من هذا الاحتياطي مخزوناً في أقبية بنك إسبانيا بمدريد. وقد قررت حكومة الجمهورية الإسبانية إرسال الجزء الأكبر منه إلى الاتحاد السوفيتي لحفظه هناك مؤقتاً. ولهذه الغاية توجه رئيس الحكومة لارغو كابالييرو ووزير المالية خوان فيغرين رسمياً إلى الحكومة السوفيتية بطلب حول حفظ 510 أطنان من الذهب. وعندما غادر السفير الإسباني إلى موسكو حصل من رئيس الحكومة على صلاحيات واسعة بتوقيع اتفاقية سرية مع الاتحاد السوفيتي حول تزويد موسكو للإسبان بالأسلحة. ووافقت القيادة السوفيتية على جلب الاحتياطي الذهبي وحفظه لديها. وفي كانون 2/ يناير عام 1937 وقع على محضر استلام الذهب عن الاتحاد السوفيتي وزير المالية غريغوري غرينكو ونائب وزير الخارجية نيكولاي كريستينسكي وسفير جمهورية إسبانيا بموسكو مارسيلينو باسكوا.
وفي خريف عام 1936 قدم الاتحاد السوفيتي إلى الجمهورية الإسبانية قرضاً بمبلغ 85 مليون دولار أمريكي. وفي الفترة نفسها طلب ستالين من وزير الصناعة الثقيلة لازار كاهانوفتش دراسة إمكانية إرسال طائرات حربية إلى إسبانيا. كما قام القسم الخارجي لوزارة الداخلية وإدارة الاستخبارات الخارجية في أيلول/سبتمبر عام 1936 بوضع خطة" العملية إكس"، التي تتضمن نقل مساعدات عسكرية إلى إسبانيا. وقد وصلت الدفعة الأولى من هذه المساعدات إلى هناك على متن إحدى السفن التجارية السوفيتية في منتصف تشرين 1/أكتوبر من العام نفسه حيث كانت تدور المعارك على مشارف مدريد. وفي 28 من الشهر ذاته بدأ الطيارون السوفيت المشاركة في القتال.
وقد بلغ عدد الرحلات البحرية للتوريدات العسكرية السوفيتية 51 رحلة. وكانت هذه الرحلات محفوفة بالمخاطر نظراً لأن الطليان شنوا حرب غواصات في البحر الأبيض المتوسط على السفن السوفيتية وأغرقوا بعضها. وفي غضون عدة أشهر كان يجري أيضاً نقل الأسلحة عبر فرنسا إلى كاتالونيا.
وخلال سنوات الحرب قام الاتحاد السوفيتي بتوريد 806 طائرات من مختلف الأنواع و347 دبابة خفيفة و1186 مدفعاً و340 مدفع هاون وحوالي 20 ألف رشاش ونصف مليون بندقية فضلاً عن الذخائر وكمية كبيرة من البارود والوقود والأدوية.
وتجدر الإشارة إلى أن الإعلان عن وجود توريدات عسكرية سوفيتية وخبراء عسكريين في إسبانيا جرى للمرة الأولى عبر إذاعة مدينة اشبيليا في مطلع كانون1/ديسمبر عام 1936، ولكن صحيفة"ازفستيا" السوفيتية دحضت هذا الأمر في عددها الصادر يوم العاشر من الشهر ذاته. وقد استمرت سياسة الصمت والإنكارهذه فترة طويلة بعد ذلك.
شارك في الأعمال العسكرية والنشاطات الاستخباراتية إلى جانب الجمهوريين حوالي ثلاثة آلاف متطوع سوفيتي منهم 772 طياراً حربياً و351 من قواد الدبابات و100 مدفعي و77 بحاراً و222 مستشاراً عسكرياً وأمنياً و339 فنياً و205 مترجمين وعدد كبير من الخبراء الأمنيين. كما طلب ستالين من قيادة الكومنترن إرسال عشرات الآلاف من المقاتلين المتطوعين الشيوعيين من مختلف البلدان لمؤازرة اليساريين الإسبان.
والجدير بالذكر أن مسؤولي الاستخبارات السوفيت كانوا منشغلين في معظم الأوقات بخوض الصراعات ضد "حزب العمال للتوحيد الماركسي " وكذلك ضد بعض المجموعات الأناركية بدلاً من ممارسة مهامهم المباشرة ومكافحة التجسس، مما أدى إلى تأجيج الصراع الشديد في صفوف الجمهوريين وإضعاف مواقعهم إلى حد كبير. وقد كانت الدعاية السوفيتية تصور هؤلاء "التروتسكيين" كتنظيم فاشي يقوم باستفزازات لصالح هتلر وفرانكو، وتزعم أنهم يحاولون شق صفوف الجبهة الشعبية ويشنون حملة تشهير موجهة ضد الاتحاد السوفيتي .
ومن المهام المقررة للخبراء الأمنيين السوفيت:
1- مرافقة الشحنات العسكرية السوفيتية إلى إسبانيا
2- الكشف عن عملاء العدو
3- إعادة تنظيم استخبارات إسبانيا الجمهورية
4- قطع دابر الأعمال الإرهابية للمتمردين وحلفائهم
5- إنشاء معسكرات لإعداد الكوادر الأمنية
6- تنظيم حركة رجال الأنصار في الصفوف الخلفية لمعسكر الجنرال فرانكو
وتجدر الإشارة إلى أن تجربة النشاط المحموم لهذه الاستخبارات خلال الأعوام 1936-1939 كانت فعالة ومفيدة أثناء الحرب العالمية الثانية ضد القوات النازية على الرغم من غياب العديد من الممثلين البارزين لهذا الجهاز الهام، الذين أعدمهم ستالين باتهامات وهمية.
وقد قام الشيوعي الفرنسي المجند لصالح الاستخبارات السوفيتية سكرتير الكومنترن والمفوض السياسي للألوية الأممية أندريه مارتي بأعمال قمع وتصفيات دموية ضد التروتسكيين والأناركيين ذهب ضحيتها المئات. وعلى نفس المنوال تصرف والتر أولبريخت، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لألمانيا الشرقية، حيث كان مشرفاً على وحدة استخبارات سوفيتية متخصصة بمطاردة التروتسكيين الألمان والنمساويين والسويسريين المحاربين في الألوية الأممية. ولسخرية القدر كان في إسبانيا ضمن هذه الألوية وفي صفوف الأحزاب اليسارية أعداء أكثر مما في صفوف أتباع الجنرال فرانكو بالنسبة للشيوعيين الإسبان والخبراء الأمنيين السوفيت. وتفيد بعض المعلومات أن أندريه مارتي أمر بإعدام 500 مقاتل من الألوية الأممية وقادتها بذريعة انتهاك الانضباط العسكري والتجسس لحساب فرانكو. وبهذا الصدد وصفه الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي في روايته "لمن تقرع الأجراس" بأنه رجل مجنون مولع بقتل الناس. وقد جاء في هذه الرواية بخصوصه"... ولكنه لا يقتل الفاشيين كما نقتلهم . إنما يبحث عن الأشكال الغريبة من التروتسكيين والمنحرفين وغيرهم... وهوايته قتل الناس بالرصاص.
- قتلهم بالرصاص حقاً!
- إن ذلك العجوز يقتل من الناس أكثر من الطاعون..."
والجدير بالذكر أن مارتي كان يقوم بتوجيه من ستالين بالتجسس على المستشارين العسكريين السوفيت في إسبانيا. وهذا ما يفسر أن الكثيرين منهم تعرضوا لدى عودتهم إلى الاتحاد السوفيتي للإبادة بلا رحمة. كما أن السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسباني خوسيه دياس "انتحر" ملقياً نفسه من النافذة في جورجيا حسب الرواية السوفيتية الرسمية.
كان المستشارون الأمنيون السوفيت في إسبانيا وراء معظم أعمال القمع والتنكيل، التي ارتكبت بحق أعضاء حزب العمال للتوحيد الماركسي والأناركيين والإنتلجنسيا وكذلك ضد رجال الدين وكبار رجال الأعمال. فقد استخدموا بنجاح الخبرة المكتسبة في الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الأهلية في روسيا وأثناء فترات تاريخية أخرى. كما أن الشيوعيين الإسبان استعملوا في تنظيمهم لمحاكمات ترهيبية نفس الطرق والأساليب، التي مارسها ستالين خلال فترة التطهيرات الكبرى في الاتحاد السوفيتي.
وأثناء الفترة الواقعة بين 7 تشرين2/نوفمبر عام 1936 ومنتصف كانون1/ ديسمبر من العام نفسه خشِي رجال الجبهة الشعبية لدى اقتراب قوات الجنرال فرانكو من مدريد من احتمال مشاركة آلاف المعتقلين المسجونين، في حال استيلاء أنصار فرانكو على العاصمة، في القتال لصالح معسكر العدو بعد الإفراج عنهم. ولذلك تقرر إعدامهم جميعاً. وقد أوصى مستشار الحكومة الإسبانية لقضايا الأمن الداخلي ومكافحة التجسس ألكسندر أورلوف بإبادة جميع أعداء الجبهة الشعبية المحتملين. وعلى العموم لعب الخبراء الأمنيون والعسكريون السوفيت دوراً حاسماً في هذه العملية ومنهم العقيد يان بيرزين والجنرالات نيكولاي فورونوف وروديون مالينوفسكي وكيريل ميرتسكوف إلخ.
وخلال الفترة المذكورة جرى تنفيذ العديد من عمليات الإعدام الفظيعة ومن أبرزها ما حصل في بلدة باراكويلس بضاحية مدريد قرب المطار الدولي الحالي. فقد أعدم حوالي 8 آلاف من أبرز المثقفين وضمنهم علماء وبروفسورات وأدباء وأطباء ومهندسون ورجال الدين ومعلمون في المدارس الكاثوليكية وتلاميذهم. كما أبدع رجال الأمن السوفيت والشيوعيون الإسبان في قتل الأشخاص الأبرياء بمناطق أخرى من إسبانيا. وحسب قول المؤرخ الإسباني المعاصر سيزار منساناريس كان يكفي أن يعلق الشخص على رقبته صليباً أو أيقونة ليصبح عرضة للتنكيل. على كل حال هذا لايعني مطلقاً أن جماعة المعسكر الآخر كانوا "ملائكة" فإن ممارسة الإعدامات الجماعية لم تقتصر على المعسكر الجمهوري بل شملت أيضاً أنصار فرانكو.
وبخصوص إعدامات باراكويلس فقد قام قنصل الدانمارك فيلكس شلاير، المعروف باهتمامه الشديد في قضايا حقوق الإنسان، بوضع تقرير مفصل عن أحداث مدريد وأرسله إلى عصبة الأمم في جنيف للحصول على إدانة دولية للممارسات الوحشية، التي ارتكبت من جانب حكومة الجمهوريين والمستشارين الأمنيين السوفيت. وقد سلّم هذا التقرير مع بعض الوثائق إلى ممثل الصليب الأحمر جورج هيني. ولكن الطائرة الفرنسية لم تتمكن من الوصول إلى سويسرا حيث تعرضت إلى قصف من جانب مقاتلة سوفيتية من طراز إيليوشن-15 وهي مع ذلك استطاعت الهبوط في إسبانيا. غير أن الوثائق والتقرير المذكور اختفت من حقيبة جورج هيني أثناء وجوده في المستشفى. ووفقاً لآراء العديد من الباحثين فإن الدور الأكبر في هذه العملية يعود إلى مستشار الحكومة الجمهورية ألكسندر أورلوف.
وحسب إحصائيات "جمعية أقرباء ضحايا الإعدامات في باراكويلس" بلغ عدد هؤلاء 8 آلاف و354 شخصاً. ومن جهة أخرى جمع الدكتور منساناريس خمسة آلاف من الأسماء الكاملة لضحايا هذه المأساة . وهذه ليست القائمة النهائية.
على كل حال لم يكن لدى ستالين نوايا حقيقية بإنشاء نظام شيوعي في إسبانيا. وتشهد على هذا الأمر قرارات الكومنترن في ذلك الوقت، التي أشارت إلى أنه على الحزب الشيوعي الإسباني عدم الانشغاف بطرح المهام الاشتراكية فلا بد أولاً من تحقيق النصر على الفاشية. وأكد الزعيم السوفيتي أن العمال لن يقدروا على استكمال ثورتهم إلا بعد هزيمة الفاشية. أما رئيس الحكومة الجمهورية الاشتراكي لارغو كابلييرو فإنه كان من مؤيدي الثورة الاجتماعية الجارية وكان يعلن أنها وسيلة هامة لتعبئة فعالية الجماهير وتحقيق النصر على الفاشية(ميخائيل نوفيكوف. الاتحاد السوفيتي والحرب الأهلية في إسبانيا 1936-1939. ياروسلاف، دار نشر"يانبو"، 2014).
ومن الملفت أن العديد من القادة العسكريين ورجال الاستخبارات والدبلوماسيين والصحفيين السوفيت المشاركين في الحرب الأهلية الإسبانية تعرضوا بعد عودتهم إلى الوطن لحملة تنكيل استمرت حتى بعد انتهاء التطهيرات الستالينية الكبرى. ومن هؤلاء عدد كبير من قادة الأجهزة الأمنية وجنرالات الجيش وخاصة القوى الجوية السوفيتية مثل اللواء الطيار بطل الاتحاد السوفيتي إيفان بروسكوروف (أُعدم في 28/10/1941 بتهمة المشاركة في مؤامرة معادية للسوفيت تستهدف إضعاف القدرات العسكرية للاتحاد السوفيتي!)، والفريق الطيار يفغيني بتوخين (أُعدم في23/3/1942بتهمة المشاركة في مؤامرة عسكرية ضد الاتحاد السوفيتي!)، والفريق الطيار ياكوف سموشكيفتش وهو أول يهودي يحصل على لقب بطل الاتحاد السوفيتي (أعدم في 28/10/ 1941 بتهمة المشاركة في تنظيم عسكري يستهدف هزيمة إسبانيا الجمهورية!)، والفريق أول غريغوري شتيرن بطل الاتحاد السوفيتي (أعدم في 23 فبراير عام 1942 بتهمة المشاركة في مؤامرة معادية للاتحاد السوفيتي!) وكذلك الصحفي الشهير والعضو في أكاديمية العلوم السوفيتية ميخائيل كولتسوف، الذي شارك على نحو نشيط في أحداث الحرب الأهلية الإسبانية. والمعروف أنه اضطر تحت وقع التعذيب إلى التشهير بحوالي 70 شخصاً من ضمن معارفه، الذين اعتقلوا فيما بعد وجرى إعدام بعضهم. وقد تناول همنغواي هذه الشخصية البارزة في روايته" لمن تقرع الأجراس" باسم كاركوف(أعدم كولتسوف في عام 1940 وأغلب الظن أن ذلك قد حدث بناء على الرسالة، التي بعث بها أحد زعماء الحزب الشيوعي الفرنسي أندريه مارتي المشرف على الألوية الأممية إلى الزعيم السوفيتي، والتي أشار فيها إلى تعاطف كولتسوف مع التروتسكيين في إسبانيا).
ومن كبار رجال الاستخبارات العاملين في إسبانيا، الذين تعرضوا للتنكيل بعد عودتهم إلى الوطن، الحائز على وسام لينين وأحد مؤسسي منظومة معسكرات الاعتقال وجهاز الاستخبارات العسكرية في الاتحاد السوفيتي يان بيرزين (أعدم في عام 1938 بتهمة ممارسة نشاط إرهابي تروتسكي معاد للسوفيت!)، وكذلك أبرام سلوتسكي، الذي جرى تسميمه عام 1938ضمن حملة تصفية رجال الاستخبارات الخارجية السوفيت. أما ألكسندر أورلوف )الاسم الحقيقي – ليف نيكولسكي)، وهو أعلى رتبة ضمن رجال الاستخبارات خارج البلد، فإنه عقب تسلمه تبليغة بالعودة إلى الاتحاد السوفيتي قرر الهرب فعرّج على القنصلية السوفيتية في برشلونة وسحب من أموال الجهاز الأمني المحفوظة في صندوق الحديد هناك 90 ألف دولار أي ما يزيد عن مليون و500 ألف دولار حسب الأسعار الحالية وتوجه مع عائلته إلى فرنسا ومن هناك سافر إلى كندا ثم انتقل إلى الولايات المتحدة. وقد بعث أورلوف من مونتريال رسالة إلى وزير الداخلية السوفيتية نيكولاي يجوف وستالين يحذرهما فيها بخصوص اغتياله المحتمل بكشف فضائح التصفيات داخل الجهاز الاستخباراتي السوفيتي.
وتجدر الإشارة إلى أن أورلوف أفشى عقب وفاة ستالين بمعلومات قيمة عن مجمل عمل الاستخبارات الخارجية السوفيتية في أوروبا وداخل الاتحاد السوفيتي وأساليب نشاطها. وقد أصدر كتاباً بعنوان " القصة السرية لجرائم ستالين". ومن الملفت أنه لم يفضح مجموعة عملاء السوفيت الأجانب بما في ذلك خماسية كمبريدج وعلى رأسها كيم فلبي. وقد صرح رداً على سؤال حول هذه الخماسية بقوله إنه لم يرغب بتسليم هؤلاء لكونهم خدموا بدون مقابل مادي المبادئ الشيوعية، التي آمن بها بنفسه منذ سنوات عديدة. كما أن المشرف فيما بعد على تنظيم عملية اغتيال ليون تروتسكي في المكسيك اللواء ناحوم ايتينغون تعرض للاعتقال عام 1951 على خلفية "قضية التآمر الصهيوني في وزارة أمن الدولة" ثم أفرج عنه عقب وفاة ستالين في مارس عام 1953، ولكن بعد بضعة أشهر حكم عليه بالسجن لمدة 12 عاماً عقب تصفية وزير الداخلية لافرينتي بيريا. وفي عام 1964 جرى تبرئته وإعادة الاعتبار له.
كما من المعروف أن معظم المشرفين على عملية نقل الذهب الإسباني إلى الاتحاد السوفيتي كان مصيرهم الإعدام في بلادهم ومنهم:
- الملحق التجاري السوفيتي في إسبانيا الجمهورية أرتور ستاشيفسكي، الذي اقترح على الجمهوريين فكرة نقل الذهب الإسباني إلى موسكو (أُعدم في 21/8/1937).
- المستشار العسكري الرئيسي نيكولاي شتيرن (أُعدم 28 في/10/1941)
- المستشار العسكري كوزما كاتشانوف(أعدم 29/9/1941)
- وزير المالية السوفيتي غريغوري غرينكو الموقّع على محضر استلام الذهب الإسباني(أُعدم في 15/3/1937).
- نائب وزير الخارجية نيكولاي كريستنسكي الموقّع على محضر استلام الذهب الإسباني (أعدم في 15/3/1938)
وهكذا فإن نزعة الشك والارتياب(البارانويا) المألوفة لدى الزعيم السوفيتي ستالين ألقت بظلالها الكثيفة على مسيرة الدعم السوفيتي لمعسكر الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية وتجسدت في صراع أجهزة الأمن السوفيتية ضد حزب العمال للتوحيد الماركسي والأناركيين وتنظيمات سياسية أخرى بدلاً من تركيز كافة الجهود على إلحاق الهزيمة بجيش فرانكو. وفي نهاية المطاف لعب تشتيت قوى الجمهوريين دوراً ملحوظاً في انهزام معسكر اليسار وتربع الجنرال على سدة الحكم في إسبانيا ثلاثة عقود ونصف.
وهنا بوسعنا القول أن إسبانيا في واقع الأمر شهدت خلال الأعوام 1936-1939 حربين أهليتين: الأولى ، كما هو معروف، بين الجمهوريين ومعسكر فرانكو, أما الثانية فقد كانت حرب سرية بين الذين لم يرغبوا في الخضوع لأوامر مبعوثي الكومنترن والمستشارين السوفيت من جهة، وهؤلاء المذكورين والشيوعيين الإسبان، من جهة أخرى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع