بقلم: صفوة فاهم كامل
حسين الأعظمي... قامة من قامات بلادي في الإبداع والتميّز
أن يحتفل المرء سنويًا بعيد ميلاده فهذا أمرٌ طبيعي لا غُبار عليه وكلنا نحذو حذوه، وأن تحتفل دولةً ما بمرور ربع قرن أو نصف قرن على تأسيسها أو استقلالها أو مرور عقود على افتتاح أي من مرافقها الحيوية، فهذا أمرٌ معهود ومتّبع أيضًا في كثير من دول العالم، لأن فيه عَراقة معنوية لتاريخها وإعلان اعتزاز المواطن بوطنه. لكن أن يحتفل شخص ببلوغه أعوامٍ على صعوده خشبة مسرح ليقف خلف الميكرفون وأمام الجمهور بمفرده بكل جرأة وثقة فهذه سابقة لم نألفها من قَبل، إلا من ذلك الفنان الذي انفرد بهكذا احتفال واحتفي بيوبيله الفضي وبعدها بيوبيله الذهبي. إنه الفنان القدير الدكتور حسين الأعظمي، أحد قامات الإبداع والفن والتراث التي يفتخر بها العراق.
ففي العاصمة الأردنية عمّان وفي هذا العام 2023 عزِمَ مجلس الأعمال العراقي مؤخّرًا على إقامة أمسية خاصة احتفاءً بهذا الفنان لبلوغه الخمسين عامًا محترفًا في أداء المقام العراقي الأصيل، واقفًا شامخًا على مسرحه منذ عام 1973 وحتى اليوم، لتضاف تلك الأمسية إلى موسوعة أمسيات الفنان الخالدة وتدخل ضمن سيرته الطويلة وتاريخه الناصع مع هذا الفن الذي تميّز في العراق دون سواه من دول العالم العربي وتميّز هو به عن أقرانه.
قبل موعد هذا الحدث بأيام هاتفني أخي الكبير وصديقي الأستاذ حسين الأعظمي ودعاني لحضور هذا التكريم الذي لا يتكرّر إلا مرة واحدة في العمر، ومثلها دعا الكثير من أصدقائه وأحبائه، لكنه في الوقت نفسه ناشدني بشكل خاص المساهمة في التّقديم والمشاركة بما يوازي الحفل ويليق بهذه المناسبة. قبلت دعوته وطلبهِ بكل سرور وتشرفت بالحضور مع من حضر في حفل التكريم الذي أقيم على قاعة مجلس الأعمال العراقي. وفي مساء عمّاني جميل معطّر بعطر الحاضرين، غصّ بجمهور غفير من أبناء الجالية العراقية، قدّمت ما يستحق أن أقدمه لهذا الفنان وشارك معي متفضّلًا الدكتور محمد غوانْمة من الأردن الشقيق. وقدّم الأعظمي خلال هذا الحفل وإكرامًا للمدعوّين وصلات مقامية فردية بلا موسيقى مصاحبة، لتخرج من حنجرته أصواتًا وأنغام خمسين عامًا من الأصالة والإرث العربي، ومعه استذكر الحاضرون ذكرياتهم ومسرّاتهم في أيام وليالي بغداد الجميلة.
وبين يوم الاحتفال والدعوة التي تلقيتها، عادت بيَّ عجلة الزمن إلى الوراء، وتحديدًا إلى عام 1998 عندما حضرت أنا وعائلتي نفس الأمسية، واحتُفيَّ بنفس الفنان ونفس المناسبة، لكن اختلف الزمن والمكان، إذ أتت بمناسبة مرور ربع قرن على اعتلاء الفنان حسين الأعظمي مسرح الغناء المقامي لأول مرة. وأقيم الاحتفال في القاعة الكبرى لنادي العلوية حضرها جمهور نخبوي كبير من أعضاء النادي وعدد غير قليل من عشاق المقام وكثير من أصدقاء ومحبّي الفنان.
تميّز ذلك الاحتفال بثلاث فقرات منوّعة، الأولى وهي الرئيسية إذ تطرّق الفنان وأسهب للحاضرين عن تاريخه الطويل مع المقام وأدواتها منذ أن قرر اعتزال حلبة المصارعة التي عشقها في يفاعة عمره لينتقل إلى حلبة المقام وتدرّج في مسيرتها ربع قرن متواصلة، وكيف أسهم مع زملائه في نفس المضمار في المحافظة على هذا التراث والإرث العراقي المتوارث من الأجداد والآباء ليحتضنه الأبناء وتستلمه الأجيال المتلاحقة.
أما الفقرة الثانية فكانت حضور الفنان مع كامل فرقته الموسيقية (الجالغي البغدادي) ليقدم للحاضرين وصلات غنائية طبقية في الأداء المقامي مع عدد من البستات العراقية المحبوبة التي أطربتهم بشدّة وتفاعل معها الجمهور وشارك في غنائها.
والفقرة الثالثة كانت مفاجئة للجميع إذ أعلن الفنان عن صدور ألبومه الغنائي الجديد مسجّلًا على قرص مدمج (CD) وطبع في باريس ليكون أول فنان يُصدر ألبوم غنائي مع هذا الاكتشاف الجديد وغير المألوف في حينها من الأجهزة الصوتية وقد تلقّفها الجمهور واقتناها على الرغم من قلّة أجهزة التشغيل تلك في البيوت البغدادية وقتئذ.
كانت أمسية بهيجة للغاية اختلطت فيها حضارة الماضي وإرثها، بنكهة الحاضر وأدائه، ولا زالت دقائقها الجميلة عالقة في خيالي وذاكرتي.
إن نظرة سريعة ومعمّقة إلى تاريخ هذا الفنان البغدادي الأصيل والذي نشأ وترعرع في مدينة الأعظمية العريقة المدينة التي ولد فيها الكثير من مزاولي وقراء المقام، نجد أنه امتهن هذه المهنة بكل جوانبها وأجاد فنونها وتربّع عليها مع القلّة القليلة منهم ليُشار إليه بالبَنانِ أينما حلَّ وأينما رحل ونرفع له القبّعة عما بذله من عطاء في النفس والإحسان للحفاظ على هذا التراث الفني الأصيل.
لقد كان للفنان حسين الأعظمي والذي لقّب رسميًا بسفير المقام العراقي من قبل وزارة الثقافة العراقية عام 2003، دورًا بارزًا بنقل أصول وطرب هذا الفن إلى الدول العربية كافّة، وله الفضل أيضًا بنشره في دول أجنبية عديدة وإن كانوا لا يفقهون الكلام العربي لكنهم استمتعوا بتراثٍ جديدٍ وطربٍ أصيلٍ غير مألوف على أسماعهم ومن خلالها وتعرّفوا على تاريخ وعمق هذا الفن الذي تفرّدت به حضارة وادي الرافدين.
حسين الأعظمي لم يحترف الغناء المقامي فحسب بل امتلك في تسعينيات القرن الماضي مجلسًا ثقافيًا يلتئم أسبوعيًا في صالون داره ويرتاده عدد غير قليل من النخب الثقافية والقامات العلمية والفنّية من مختلف مشاربها ومآربها. وفي العقدين الماضيين وبعد أن تخرّج الأعظمي من معهد الدراسات النغمية وأصبح أستاذًا فيها، فعميدًا لها ردحًا من الزمن، قرّرَ التفرّغ للكتابة والتأليف فأصاب في ذلك التوجّه وأجادها بكفاءة وحرفية نتيجة خبرته المتراكمة، لينجز أكثر من خمسة عشر كتابًا في البحث الغنائي والموسيقي والتراثي زيّنت رفوف المكتبة العربية وأثْرت صدى المكتبة الموسيقية المفتقدة أصلًا للمصادر الورقية التاريخية والصوتية القديمة معًا، نظرًا لافتقارها لمؤرخين مختصّين جادّين إضافة إلى عدم ولوج باحثين وطلاب علم في التقصّي في هذا المجال التخصّصي البحت وعنائهم في التأليف والتوثيق.
وما بعد هذه السطور المتواضعة والمجروحة بحق الفنان حسين الأعظمي فأنني أتقدّم له مرة ثانية بالتهنئة الخالصة بهذه المناسبة الذهبية، وأيضًا على حُسن إدراكه الإنجازات الفنية في حياته العملية والعلمية، وقد تجاوز العقد السابع من عمره تاركًا خلفه إرثًا غنيًا في الطرب والموسيقي والتأليف سيستمتع بها ويَطرب لسماعها وينتهل من علومها وفنونها، هذا الجيل والأجيال القادمة.
وأخيرًا ندعو الله ﷻ أن يمدَّ بعمره وعمر عائلته، وعمرنا نحن أيضًا لنحتفل سويّةً ويحتفل جمهوره ومحبّه باليوبيل الماسي له في هذا المضمار والذي سيصادف موعده المحتوم عام 2048، سواء في حضورنا بينهم أو غيابنا عنهم وعن هذه الدنيا.
وصدق الشاعر حين قال:
لَيتَ الَّذي خَلَقَ الحَياةَ جَميلَةً
لَم يُسدِلِ الأَستارَ فَوقَ جَمالِها
ومن الله التوفيق وهو القادر على كلَّ شيء...
֎ ֎ ֎
1222 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع