الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ) وقصته
النشيد هو رفع الصوت بالشِعر الحسن والكلام المباح بصوت شخص أو مجموعة أشخاص. والنشيد اصطلاحًا هو أغنية سهلة بسيطة ذات معانٍ وكلمات ذات مغزى تُلفظ بلحن بسيط بهدف التسلية أو التعليم أو إثارة الروح الوطنية، تغنّى في أغلب الأحيان بدون موسيقى، معتمدة فقط على الصوت البشريّ وبعض المؤثرات الصوتيّة إن وجدت.
والأناشيد هي قطع شِعرية مختارة قابلة للتلحين والغناء، هي أداة لإثراء الخيال والروح والوجدان، وسبب معنوي في خلق مشاعر البهجة والفرح عند المتلقي أو السامع.
لقد عرفت الشعوب المختلفة الأناشيد منذ القدِم، وللأناشيد شعبية كبيرة في الشرق الأوسط، وجنوب وأقصى جنوب آسيا، والبوسنة والهرسك وكوسوفو، وبين المسلمين في بريطانيا.
لقد ظهرت (الأناشيد الإسلامية) بعد بزوغ فجر الإسلام، وهي أغانٍ إسلاميّة التوجه، ويعد هذا الفن امتدادا لعمل أجيال متسلسل في الفنّ الملتزم من ناحية، والفنّ الدينيّ القائم على الأدعية والابتهالات من ناحية ثانية.
فقد ورد أن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانوا يترنمون في الأناشيد في أعمالهم عند (حفر الخنادق وبناء المساجد)، وفي سيرهم إلى الجهاد والمناسبات، وكانوا يروحون به عن أنفسهم، ويهيجون بها مشاعرهم لعمل الخير والحث عليه.
لقد جاءت النصوص الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة في حديث أنس رضي الله عنه في قصة حفر الخندق، قال: فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بنا من النصب والجوع قال:
اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ
فقالوا مجيبين:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْإِسْلَامِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
الأناشيد الوطنية في العراق:
نتيجة لحالة عدم الاستقرار التي عاشها العالم العربي بعد انسلاخه من الدولة العثمانية وخضوعه للقوى الاستعمارية، ونمو الشعور الوطني والقومي، فقد وُلد عدد من الأناشيد القومية العابرة للأجيال، ولدت بشكل تلقائي وانبعثت من مشاعر حقيقية وحماس وطني وقومي تم نسجه بالكلمات والألحان لتُعبّر عن هذه المشاعر تعبيرًا صادقًا، جعلها تعيش في ضمائر الجماهير إلى الأبد.
بعد بسط النفوذ البريطاني على مجمل الأراضي العراقية جراء الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1918 ظهر الشعور الوطني المتنامي للعراقيين ضد الاحتلال البريطاني البغيض.
وبعد تشكيل الدولة العراقية وتنصيب فيصل الأول ملكا على الدولة الناشئة، كان السلام الملكي لحناً فقط بدون كلمات وقد تمت إضافة كلمات للحن ولكن بصورة غير رسمية بحيث كانت تُردد أمام الملك فيصل:
يا سليل النسب ... يا كريم الحسب
قم لتحقيق المنى ... وارجع لنا عهد الجدود
فيصل .. فيصل
من الرواد الأوائل للأناشيد في العراق الأديب الموصلي محمد سعيد الجليلي (1896-1963) الذي كان من المؤسسين لعدد من المؤسسات الثقافية التي أسهمت في ترسيخ النزعة الوطنية أيام الدولة العثمانية ثم الاحتلال البريطاني. لقد ارتبط اسم محمد سعيد الجليلي بفكرة العمل على بث الوعي القومي العربي، وقد قام هذا الرائد مع عدد من رفاقه أمثال داؤود الملاح آل زيادة ومحمد توفيق آل حسين أغا أفغان وإسماعيل حقي فرج وقاسم الشعّار بتأليف كتاب بعنوان: "الأناشيد الموصلية للمدارس العربية" يتضمن أناشيد عربية حماسية قومية (تحل محل الأناشيد التركية التي كان مقررا انشادها في المدارس آنذاك). وقد استفاد هؤلاء الرواد، من فرصة رضوخ السلطة العثمانية الحاكمة لمطالب المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس سنة 1913، ومنها جعل التعليم في المدارس الابتدائية باللغة العربية لتنفيذ فكرتهم، فقاموا بوضع الأناشيد العربية وتولى محمد سعيد الجليلي مهمة جمع هذه الأناشيد وترتيبها وشرح الفاظها وطبعها على حسابه الخاص، ثم توزيعها على مدارس الموصل وذلك سنة 1915م.
ومن الأناشيد التي وردت في كتاب محمد سعيد الجليلي نشيد (حطموا يا نشىء) وقد ألَّفه المُدرس والخطاط والشاعر إسماعيل حقي فرج (1892-1948) وجاء فيه:
حطموا يا نشىء عنكم ... واكسروا هذي القيودْ
نحن أحرار خُلقنا ... كلنا في ذا الوجودْ
نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ):
يعد نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ) من الأناشيد الوطنية الشائعة وكاد أن يصبح النشيد الوطني في العراق، وكان هذا النشيد يُقرأ يوميا في الاصطفاف الصباحي في جميع المدارس العراقية.
هذا النشيد الشهير من ألحان سعيد شابو الذي عمل في بداية حياته معلما للنشيد في مدرسة شمعون الصفا في الموصل، أما شاعره فغير معروف كما قال الملحن نفسه.
وسعيد شابو (1910-1995) موسيقار من مواليد الموصل، ومنذ صغره وجد نفسه في جو موسيقي حيث كان يداوم في مدرسة شمعون الصفا الابتدائية؛ وهي من المدارس المسيحية التي كانت معروفة بكونها تضم فرقة موسيقية وكان عدد من معلميها ممن يهوى الموسيقى.
دخل سعيد شابو دار المعلمين الابتدائية سنة 1925 ودرس النشيد على يد نوري ثابت صاحب جريدة (حبزبوز ) وتخرج من الدار سنة 1928، ثم عاد إلى الموصل وعُين معلما للنشيد والموسيقى في مدرسة الطاهرة الابتدائية وهي من المدارس المسيحية.
انتقل إلى بغداد للدراسة في معهد الفنون الجميلة وتخرج من فرع الموسيقى سنة 1936 وتعين في مدارس بغداد مفتشا عاما (مشرفا تربويا عاما) بالنشاط المدرسي .
لقد جاء في سيرة سعيد شابو عن نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ): "ولهذا النشيد قصة، لا أحد يعرف من هو الكاتب الحقيقي لمفرداته، حتى ملحّنه الفنان الكبير الراحل سعيد شابو، الذي روى حكايته مستغرباً سطوره: عندما كان سعيد شابو مشرفاً تربويّا زار إحدى مدارس بغداد، وبينما كان في طريقه إلى مغادرة تلك المدرسة، ناداه أحد المعلمين من كبار السنّ وسلّمه ورقة بالية، وضعها شابو في جيب سترته، وعندما وصل إلى بيته تذّكر الورقة البالية وأخرجها من جيبه، فإذا هي كلمات (لاحت رؤوس الحراب)، وقد أعجب بها وسرعان ما لحنها، وحين أراد تسجيلها لم يعثر على اسم الشاعر في الورقة، وكان قد نسي في أيّ مدرسة التقى فيها ذلك الرجل المُسن صاحب كلمات النشيد، الأمر الذي جعله يزور جميع المدارس التي زارها سابقاً، ومع هذا لم يعثر على الشاعر".
لقد شاع هذا النشيد، واستخدمته وزارة المعارف (التربية) نشيدا للفتوة والشباب في مدارس العراق كافة من الشمال إلى الجنوب. وكان هذا النشيد هو نشيد الفتوة العراقية ومن أصدق الأناشيد الوطنية التي رددها فتوة وشباب العراق أواخر الثلاثينات وأوائل الاربعينات وما تلاها.
ومما ساعد على انتشار هذا النشيد حركة مايس التحريرية التي عُرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني 1941، وفيها اصطدم الجيش العراقي الباسل بالقوات البريطانية الاستعمارية التي أعادت احتلال العراق؛ وهو الاحتلال البريطاني الثاني للعراق.
لقد كان نشيد (لاحت رؤوسُ الحرابِ) يُذاع من إذاعة بغداد ويهلب الحماس، كما كان يُذاع من إذاعة الزهور التي كان يديرها الملك غازي (1933-1939) بنفسه والذي كان معروفا بعداءه وكرهه للإنكليز. وقد دفع الملك غازي حياته ثمننا لهذه الكراهية، واندلعت في كل مدن العراق مظاهرات عارمة، وفي الموصل اندفعت الجماهير نحو القنصلية البريطانية وقامت بحرقها وقتل القنصل البريطاني مونك ميسن.
لقد عوقب الأستاذ سعيد شابو مثل غيره من المعلمين والمدرسين والأساتذة الذين اُتهموا بنشر الفكر الوطني والقومي المعادي للإنكليز، واُسقطت الجنسية العراقية عن الأستاذ ساطع الحصري (1879-1968) مدير التدريس العام الذي عُدَّ مسؤولا عن تنامي الشعور القومي الذي أوصل البلاد إلى كراهية المحتلين، ونُفي الأستاذ سعيد شابو إلى مدرسة في قرية العاصي في الموصل بأمر من السلطة البريطانية المحتلة؛ وكانت تهمته أنه هو من لحن نشيد (لاحت رؤوس الحراب) الذي فعل فعله بالجماهير.
ولم يتوقف الاستاذ سعيد شابو عن التلحين وتعليم الموسيقى وتعليم التلاميذ الأناشيد وكان يزود الاذاعة العراقية بالأناشيد، واستمر في عمله حتى قيام ثورة 14 تموز سنة 1958 وسقوط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق. وقد عُين رئيسا لملاحظي مديرية الفنون الجميلة التي كان مديرها آنذاك الأستاذ الدكتور عزيز شلال عزيز ثم نُقل إلى وزارة التربية.
نشيد (لاحت رؤوسُ الحِرابِ):
لاحت رؤوس الحرابِ ... تلمع بين الروابي
هاكم وفود الشباب ... هيا فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
******
هيا أسود البوادي ... هيا حماة البلادِ
هيا لحفظ المبادي ... هيا فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
******
هذي أسود قـُرانا ... إخوتنا في حمانا
هبت تلبي ندانا ... هيا فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
******
يا أمّنا لن نحيدَ ... عن دربنا أو نعودَ
فإن سقطتُ شهيدا ... نادي فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
******
يا أمنا كفي الدموعَ ... وانتظري لي الرجوعَ
هبت بلادي جميعا ... هيا فتوة للجهادِ
هيا .. هيا هيا هيا .. هي .. هيا فتوة للجهادِ
https://www.youtube.com/watch?v=qHsSh89y4uE
935 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع