الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الإنشاد الديني وبعض من رموزه المعاصرين في الموصل.. الجزء الأول
الإنشاد الديني هو فن غنائي يهدف إلى إظهار مواطن الجمال والتناسق الكامل وراء التعبير الأدبي أو الفني أو الموسيقي بإيقاع مؤثر مع نسيج من ألحان ترهف الحس وتسمو بالروح نحو الخالق العظيم.
يحمل فن الإنشاد الديني تراث أمة، وهو طريقة للوصول إلى قلوب وعقول المتابعين والتحليق بهم في عالم يثري الأرواح والنفوس بكلمات مفعمة بالمشاعر الإيمانية والنغمات الشرقية الأصيلة التي تحيي تراثنا، كما أن الإنشاد الديني هو أداة فاعلة للتواصل مع ثقافات أخرى.
بدأ الإنشاد الديني في زمن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم)، فعن أنسِ بنِ مالكٍ (ر) أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) مرَّ ببعضِ المدينةِ فإذا بجوَارٍ يضرِبْنَ بدفِّهنَّ وينشدنَ:
نحنُ نسوةٌ من بني النجارِ ... يا حبّذا محمّدٌ من جارِ
من أشهر الأناشيد الدينية نشيد (طلع البدر علينا) الذي يؤرخ ليوم مشهود في تاريخ الدعوة المحمدية عندما وصل النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى مقر هجرته في المدينة المنورة:
طلع الـبدر عليـنا ... مـن ثنيّـات الوداع
وجب الشكـر عليـنا ... مـا دعــــا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطـاع
جئتَ شرفت المديـنة ... مرحباً يـا خير داع
يشتمل الإنشاد الديني على ذكر الله تعالى والتهليل والتسبيح، وقد استمر أمر الإنشاد والمدح النبوي إلى يومنا هذا، حيث نجد الكثير من أحباب الله ورسوله ينشدون ويمتدحون النبيّ الكريم (صلى الله عليه وسلم).
لقد بدأ ترتيل القرآن الكريم منذ فجر الإسلام. وكان الأذان بداية للألحان الدينية الإسلامية، وقد ظهر بلحن بدائي بسيط ثم تدرّج إلى ما هو عليه اليوم. وكان بلال بن رباح (ر)، مؤذن الرسول الكريم، أول منشدي الأذان.
اعتمد الأذان على السجع والتنغيم، وكان بلال المؤذن يجود فيه كل يوم خمس مرات، ويرتله ترتيلاً حسنًا بصوت جميل جذَّاب، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في التغني بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان، وأصبح له قوالب متعددة وطرائق شتى.
تذكر كتب التراث الإسلامي أن بداية الإنشاد الديني كان على أيدي مجموعة من الصحابة (ر) في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم مجموعة من التابعين. وكانت قصائد حسان بن ثابت، شاعر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هي الأساس للمنشدين. ثم تغنَّوا بقصائد أخرى لغيره من الشعراء الذين كتبوا في موضوعات متنوعة منها: الدعوة إلى عبادة الله الواحد، التمسك بالقيم الإسلامية وأداء الفرائض من صلاة، وزكاة، وحج إلى غير ذلك.
في عهد الأمويون أصبح الإنشاد فنًّا له أصوله، وضوابطه، وقوالبه، وإيقاعاته. واشتهر أيام الدولة الأموية الكثير من المنشدين. وكان أكثر المشتغلين بفن الإنشاد الديني وتلحين القصائد الدينية: أبو إسحاق إبراهيم ابن الخليفة المهدي وأخته عَليَّة، وأبو عيسى صالح، وعبد الله بن موسى الهادي، والمعتز وابنه عبد الله، وعبد الله بن محمد الأمين، وأبو عيسى بن المتوكل، وعبد الملك بن مروان، وغيرهم.
وكذلك كان الخليفة العباسي الواثق باللّه (841-846م) الذي كان يغني له إسحاق وإبراهيم الموصلي، وهما من أشهر الموسيقيين في عصره، وعبد الرحمن بن الحكم الذي ذاع في عهده صيت الفتى زرياب الموصلي (789-857م) ، وهو تلميذ إسحق الموصلي، وغيرهم كثيرون ممن اشتهروا بغناء وتلحين القصائد الدينية والاناشيد. كما اشتهر المنشدين بشكل مميز في حلب على وجه الخصوص.
في عهد الفاطميين تطور فن الإنشاد الديني لاهتمام الدولة بالاحتفالات المجتمعية. فهم أول من أقاموا الاحتفال برأس السنة الهجرية، وبليلة المولد النبوي الشريف، وليلة أول رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة أول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر. وهم الذين قاموا بالاحتفال بمولد أمير المؤمنين علي بن أبى طالب (رضي الله عنه)، ومولد الحسن والحسين والسيدة زينب (رضي الله عنهم). وكانت الأناشيد الدينية عصب هذه الاحتفالات مما دفع المنشدين لتطويرها بشكل غير مسبوق.
المنشد محمد سالم شيت الملقي:
الشيخ محمد سالم شيت الملقي قارئ قرآن ومنشد معروف في الموصل، وهو المقرئ الرسمي لجامع الباشا في باب السراي في الموصل.
والده السيد سالم بن السيد شيت الملقي الشريفي من محلة باب جديد في الموصل، عشق المقام العراقي والغناء العربي وحفظ المقامات العراقية، كما حفظ الكثير من الأدوار المصرية والقصائد والزهيريات والعتابات، وكان هاوياً عالماً بالمقام وبالشِّعر والأدوار والموشحات والتنزيلات الموصلية.
كان السيد سالم الملقي على علاقة وثيقة بالسيد إسماعيل الفحّام (1905-1990) وملازما له يرافقه في حفلاته وموالده، وقد سجل له العديد من الحفلات والموالد، حتى أصبح هو المصدر لأغلب تسجيلات السيد إسماعيل الفحّام.
لقد تعلّم محمد سالم الملقي التلاوة من طريقين: الأول على يد الشيخ علي أسامة حيث أخذ منه رواية حفص عن عاصم، والطريق الثاني عن طريق الشيخ خليل الشكرجي حيث قرأ عليه القراءات السبع وحصل على الإجازة فيها؛ وقد لقبه أستاذه (سما القُراء).
لقد قام محمد سالم الملقي ومجموعة من شباب الموصل بتأسيس فرقة للإنشاد الديني أطلقوا عليها تسمية فرقة (ترانيم الحدباء للإنشاد)، وقد تأسست هذه الفرقة عام ٢٠١٢م، وهي فرقة تعتني بالتراث والمقام الموصلي والتنزيلات الموصلية.
قائد الفرقة محمد سالم الملقي، وهو قارئ المقام الوحيد الذي يقرأ المقام كاملاً على طريقة الاقدمين. وقد شارك في العديد من المناسبات المحلية والخارجية، منها (مهرجان سماع الدولي) في مصر و(ليلة موصلية) في إسطنبول. كما شارك في سوريا، فضلا عن مشاركاته في محافظات عراقية.
ومحمد سالم الملقي هو أحد المؤسسين لفرقة (التراث الموصلي)، وقد ترك العمل معها بعد أن اتجهت الفرقة إلى الأعمال العربية أكثر من الموصلية.
لقد شاركت فرقة (ترانيم الحدباء للإنشاد) في العديد من المناسبات المهمة منها ملتقى شارع النجفي ومع المايسترو كريم وصفي في أكثر من حفلة. كما شاركت في أغلب المناسبات الرسمية التي أقيمت في الموصل، وأهمها حفل وصال بمشاركة العديد من العازفين العراقيين من الموصل وبغداد وسوريا وبمشاركة الفنان العالمي ( أنور أبو دراغ )، وكذلك في مهرجان (الموسيقى التقليدية) في مدينة الموصل والذي أقيم في قاعة المتحف العراقي في الموصل.
كما قامت فرقة (ترانيم الحدباء للإنشاد) بالمشاركة في أكبر حدث تراثي هام في الموصل؛ ألا وهو إحياء الذكرى المئوية لوفاة الموسيقار والشاعر والأديب والعالم المقرئ الملا عثمان الموصلي المولوي والتي صادفت في مطلع العام 2023.
كما شاركت الفرقة في ملتقى الأعظمية الثقافي في بغداد، وكانت آخر مشاركة للفرقة في الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك الماضي في (ليالي القشلة) في بغداد بالمشاركة مع أعضاء (اوركسترا وتر). ولدى الفرقة الكثير من المشاركات في إحياء الامسيات والمناقب النبوية في مدينة الموصل وخارجها وفي المناسبات الدينية وغيرها.
أطيب الأمنيات لفرقة ترانيم الحدباء، وكل رمضان وأنتم بخير.
https://www.youtube.com/watch?v=eJECrLkHNFA&t=385s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
893 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع