د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
الأثنين 25 مارت 2024
عزم تركيا على إنشاء منطقة عازلة في شمالي العراق
يوم 14 آذار الجاري إستطاعت الدبلوماسية التركية الحثيثة إقناع حكومة بغداد بفرض حظر بحق حزب العمال الكردستاني (PKK) وصَنَّفَته منظمة إرهابية، وأعلنت كفاحاً ثنائياً مع تركيا لمحاربة مسلّحيه في الأرض العراقية، واصفة إستهدافه تركيا بـ"التهديد المشترك للبلدين" وإنتهاكاً للدستور العراقي، فرحبت آنقرة بالقرار بعد مفاوضات رفيعة المستوى في بغداد ضمّت وزيرَي الخارجية والدفاع ومستشارَي الأمن القومي للبلدين وأفضت إلى هذه النتيجة المثمرة من حيث المبدأ، بإتفاقهما على تشكيل لجان مشتركة مستدامة في مجالات مكافحة الإرهاب في بأعماق بقاعهما.
فما أهمية هذه الخطوة العراقية ؟؟
بادئ ذي بدء لِنَعُد إلى شهر مايس 2014، حين أجبر الجانب التركي -بقوة السلاح وضغوط متنوعة أخرى- مقاتلي PKK على ترك أراضيه بصحبة أسلحتهم إلى شماليّ العراق المتاخم، وكان قد أخطأ في ذلك ستراتيجياً من دون تقدير ما وراء الأفق، على أمل أن يجرّدهم قوات الحدود العراقية بالتعاون مع الجيش العراقي الإتحادي والبيشمركة المسلحة الكردية من أسلحتهم.. ولكن حكومة بغداد لم تقدِم على ذلك، إمّا لإنعدام الإرادة السياسية لديها، أو ضعفها أمام سطوة إيران الداعمة للـPKK، أو عدم إقتدار العراق على ذلك عسكرياً، ولربما عدم رغبتها من حيث الأساس على التنفيذ لسبب أو لآخر.. وبذلك إنضمّ 2000 مسلح من PKK إلى رفاقهم المنتشرين في أقاصي شمالي العراق العصيبة، ليضحى مجموعهم 4500 مسلّحاً قادرين على العيش في الكهوف وسط جبال شاهقة ووديان سحيقة وقرى نائية بعيدة عن الأنظار، وهم عارفون بشعابها ومتمرسون على القتالات الجبلية التي تعتبر من أصعب طُرُز القتالات، وبالأخص حين يتبعون أساليب حرب العصابات، فبذلك باتوا يشكلون خطراً ملموساً نحو الوطن التركي.
وحينما توغلت القوات التركية الإختصاصية في حروب العصابات والجبال في أقاصي شمالي العراق، وبإسناد المدافع والهاونات والراجمات والطائرات المأهولة والمُسَيّرات، ورغم إيقاعها خسائر كبيرة في صفوف إرهابيي PKK وتحييد المئات منهم، وإنشائها عشرات القواعد والربايا والمعسكرات في أعماق الشمال العراقي، فإن عمليات الإرهابيين نحو الجنود الأتراك لم تتوقف بشكل كلّي، رغم تضاؤل فعالياتهم في الداخل التركي إلى مستويات متدنية.
ويعود أهم الأسباب التي تمخضت عن عدم النجاح الكلي للقوات التركية في هذا الشأن إلى شبه إنعدام تعاون الجانب العراقي معها لأسباب مُخجِلة بحق دولة العراق، سنأتي على تلخيصها لاحقاً.
العراق ومكافحة الإرهاب
تحتضن الأهمية الكامنة لهذه الخطوة العراقية نقاطاً عديدة، أبرزها:-
• أنها جاءت في ظرف زمني يعاني فيه العراق من الإرهاب الذي إستعصى القضاء عليه، نظراً لعدم تمكّن حكومتها الإتحادية من إتخاذ قرارات امركزية في السابق سوى على الورق، فأصحاب القرار السياسي لديه متعاكسون فيما بينهم لصالح هذا الجانب وطالح سواه، أو تنفيذ هذا وتأجيل ذاك، فأُهمِلت القرارات أو أُجِّلت إلى أجل غير مسمّىً ولم تُنفّذ، لذلك فإن هذه الخطوة التي أعلنها المفاوض العراقي جِهاراً أمام الملأ، قد يكون واجب التنفيذ هذه المرة أكثر من أي وقت مضى.
• يعيش العراق منذ عام أو يزيد إستقراراً سياسياً وأمنياً أفضل بعض الشيء من الماضي، وذلك منذ تسنّم السيد محمد شياع السوداني رئاسة الوزارة، فلربما تكون هذه الخطوة صادقة يستطيع إحقاقها، لا سيّما وأن إتفاق "سنجار" المبرمة قبل 3 سنوات في عهد الوزارة الركيكة السابقة، والتي نصت على سيطرة الحكومة الإتحادية على أوضاع هذه المنطقة الحساسة والمتشابكة وإخراج إرهابيي PKK من ربوعها ولو بقوة السلاح، والتي ظلّت حبراً على ورق.
• أن وصف بغداد لـPKK بالإرهاب وإعلانها كفاحاً مسلحاً ثنائياً بالمشاركة مع تركيا حيال مسلحيه، يقذف على رقبة العراق مسؤوليات واسعة وإجراءات ملموسة مع الجانب التركي الضليع في مكافحة الإرهاب بشكل عام، ومناوءة PKK على وجه الخصوص.
• تسرب أنباء غير مؤكدة بُعَيدَ زيارة الوفد التركي الرفيع ذاته إلى واشنطن في أوائل شهر مارت الجاري قُبَيل زيارته للعراق، أن الولايات المتحدة منحت آنقرة ضوءاً أخضر لتنفيذ عملية واسعة النطاق أزاء مناطق العراق الشمالية، إبتغاء القضاء على PKK أو إرغام إرهابييه على ترك العراق والمنطقة، والتي قد تشتمل كل الحدود مع العراق البالغة 220 كلم وبعمق 40 كلم تقريباً بإتجاه محافظتي أربيل ودهوك التابعتين لمسعود بارزاني، وشن ضربات جوية دقيقة على أهداف محدّدة داخل محافظة السليمانية التابعة لبافل طالباني، إلى جانب إطلاق عملية خاصة ومحدودة نحو الهدف الستراتيجي الأهم الكامن في قضاء سنجار المتاخم للأرض السورية، لإنهاء وجود إرهابيي PKK أو تضئيل تواجدهم في هذه المنطقة المنكوبة منذ 2014 ولحد يومنا الراهن.
الآفاق المستقبلية للعلاقات العراقية- التركية
ينبغي أن لا نتوقع بالمستقبل القريب خيراً كثيراً بعد قرار حكومة بغداد في جميع تفاصيله، لأسباب متنوعة نختصرها بما يأتي:-
• من الناحية السياسية يُحتَمَل أن يناوئ أكثر جهة سياسية القرار المعلن من أساسه ويحاول وأده في مَهدِه قبل تنفيذه، وبالأخص تلك المرتبطة بإيران جهاراً، والتي ليس من صالحهم أن يكون هناك هكذا تعاون وطيد مع تركيا وبهذا المستوى الذي تكون معه يدٌ تركية طولى في بعض العمق العراقي، وكذلك سيعترض الجانب الشرقي من إقليم كردستان العراق المتحكم فيه حزب الإتحاد الوطني (YKT) بزعامة بافل جلال طالباني على القرار ذاته إبتغاء مناوءة خصمه مسعود ملا مصطفى بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي.
• ومن الناحية المعلوماتية، فإن جهاز المخابرات العراقي ليس بالمستوى المُضاهي للمخابرات التركية بحيث يَفيدها في هذا الصدد، بل العكس هو الصحيح.. وينطبق الشيء ذاته على الإستخبارات العسكرية وإستخبارات الأمن الداخلي، ولربما يكون التعاون التركي المشترك مع حكومة أربيل أفيد وأنجَع.
• اما المصيبة الأعظم فإنها تكمن في الجانب العسكري، فجيش عراق ما بعد 2003، على العكس من جيشه السابق، فهو معدوم الخبرة في الحروب الجبلية، لأن نظام الحكم الجديد جعله أشبه بالشرطة في إشغاله بأمور الأمن الداخلي، فلم يَخُض حرب عصابات سوى مع "داعش" 3 سنوات في أرض براح وسهول وأحياء سكنية داخل مدن وبلدات لا صلة لها بالجبال والوهاد والكهوف وإنعدام الطرق والمسالك، وان أي جندي منه ظلّ مُحَرّماً عليه مجرد العبور إلى إقليم كردستان منذ 1991، وحتى بعد 2003 ولحد يومنا هذا، كون الدستور الكردستاني -المُقَر في أربيل من جانب واحد- يمنع دخول الجيش العراقي إلى الإقليم إلاّ بطلب رسمي من حكومة أربيل الفيدرالية وموافقة برلمانه!!!
• يُفترَض أن الحشد الشعبي أدنى مستوىً من الجيش في نواحي التدريب والإنضباط والأداء والعقيدة العسكرية، بعد أن ظلّ ينشئ نقاط تفتيش وسيطرة في مفارق الطرق العامة ومداخل المدن والبلدات ومخارجها وإنشغل في تسيير أعمال المكاتب الإقتصادية للفصائل المسلحة وجني أموالها، وفي بقاع لا تحتوي سوى التلول والهضاب ذات الإرتفاعات المنخفضة.. أما الفصائل المسلحة المحسوبة على محور المقاوَمة والممانَعة فستكون خارج الحسابات في هذا الشأن لأسباب معروفة يطول تفصيلها، لدى إقرار أي تعاون ميداني مع القوات التركية إذا ما توغلت في شمالي العراق.
• يفترض أن تشكل ألوية البيشمركة التابعة لمسعود بارزاني خصوصاً رأس حربة التعاون مع الوحدات التركية، فمقاتلوها على واقعهم وسلبياتهم، أفضل خبرة بشعاب ديارهم الجبلية في البقاع الصعبة التي يسيطر عليها عناصر PKK أو يتواجد في ربوعها، فهم أفضل إنضباطاً من جميع الذين آنفنا ذكرهم.
الخلاصـة
ولكل ذلك نتلمّس أن هذا القرار العراقي لا يحتمل أن يشكل طفرة نوعية في العلاقات المنظورة بين البلدين الجارَين، وإن نُفِّذَت خطة مشتركة بينهما على الأرض العراقية فستُلقى 90% من مهمّاتها على عاتق القوات التركية ذات الخبرة الرصينة والتجارب الدموية الحثيثة وأساليب التنسيق مع الطائرات والمُسيّرات والمدافع الساندة في ضرب الأهداف وسط الجبال الشاهقة والوِهاد السحيقة والكهوف والمغارات وخوض حرب عصابات مُتقَنة... ولكن العمل المشترك سيحقق فرصة عملية كي تمارس القوات العراقية البعض من هذه الأمور الصعبة وشبه إنعدام للطرق الصالحة لتنقّل الآليات العسكرية ومُداراة البِغال والتعامل مع الطائرات السمتية (المروحيات)، ناهيك عن المرابطة والتعايش وإنشاء الربايا والترقّب والترصّد في جبال يبلغ إرتفاعاتها ما بين 1000-4000 متر فوق سطح البحر.
وفي هذا الصدد نرى في هذه الأيام محاولات تركية للسيطرة على مواقع وقمم جبال عالية ومفارق طرق مهمة في أعماق شمالي العراق، مدعومة بضربات جوية عنيفة، وتحشيد قوات متخصصة فيها، تهيؤاً لعمليات على محاور عديدة في قادم الأيام، مع التذكير بأن أيام الربيع قد حلّت وبدات الثلوج بالذوبان مع تراجع غزارة الأمطار، وأن الأشهر الأربعة من الصيف القادم ستكون أجواء مثالية لتنفيذ العمليات العسكرية المزمعة.
ولكن تلكم السلبيات -على أهميتها- لا تعني أن القرار العراقي لا يُعَدُّ فاتحة آمال تخادم بين البلدين في هذا المجال وسواه، وبالأخص وقتما تستقر أوضاع العراق السياسية ويتحسّن أداء حكومته ومخابراته وإستخباراته وعموم قواته المسلحة نحو الأفضل بإنقضاء الأيام.
والذي يُخشى منه، أن يكون هذا التوغل العسكري إستدراجاً إيرانياً لتركيا إلى مستنقع حرب عصابات وسط مناطق جبلية غاية في الوعورة، سبق وأن ذاق الجيش العراقي الأمَرّين من مصائبها منذ أوائل الستينيات ولغاية 1991، والتي كان لكاتب هذه السطور خبرة ضئيلة فيها بصفته ضابطاً برتبة ملازم ثم رائد ركن وعميد ركن في ذلك الجيش.
337 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع