هوى علم كبير من أعلام العراق ، رحل ( بهنام أبو الصوف) في منفاه الاختياري يوم الأربعاء 19 سبتمبر / أيلول 2012، تاركا خلفه فراغا كبيراً ليس في حقل تخصصه العلمي فقط، وانما في مجمل المشهد الثقافي العراقي ايضا، والفراغ الذي تركه رحيل ابو الصوف لا يمكن سده مع وجود هذه الشحة الكبيرة في علماء الاثار حاليا.
وكان ابو الصوف قد غادر العراق بعد 2003 شأنه في ذلك العديد من علماء العراق ومبدعيه، إلاّ انه بقي متواصلا مع اثار بلاده وحضارتها عبر البحوث والمحاضرات العلمية، التي واصل اداءها حتى وافته المنية.جدير بالذكر ان الدكتور بهنام ابو الصوف اغنى المكتبة العربية والعالمية بالكثير من المؤلفات من ابرزها: ظلال الوادي العريق، فخاريات عصر الوركاء ...أصولها وانتشارها، العراق.. وحدة الأرض والحضارة والإنسان، قراءات في الآثار والحضارة، وغيرها.
ولد الدكتور بهنام ناصر نعمان أبو الصوف في مدينة الموصل بالعراق في عام 1931 ( وله ثلاثة اولاد وبنت هم سرمد نعمت ومعن وحنان ) ، أكمل دراسته الإبتدائية والإعدادية في مدينته الموصل وحصل على بكالوريوس في الآثار والحضارة من كلية الآداب جامعة بغداد في عام 1955 ثم أكمل دراسته العليا في جامعة كمبردج بإنكلترا وحصل على درجة الدكتوراة في الآثار ونواة الحضارة وعلم الإنسان في خريف 1966 ،عمل لسنوات عديدة في التنقيب عن الآثار في عدد من مواقع العراق الأثرية في وسط وشمال العراق، وكان مشرفا علميا على تنقيبات إنقاذية واسعة في حوضي سدي حمرين (في منطقة ديالي)، وأسكي الموصل على نهر دجلة في أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي. كشف عن حضارة جديدة من مطلع العصر الحجري الحديث في وسط العراق في أواسط الستينات ألقت الكثير من الضوء على معلوماتنا من تلك الفترة الموغلة في القدم.
حاضر لسنوات عديدة في مادة جذور الحضارة والآثار والتاريخ في عدد من جامعات العراق ومعهد التاريخ العربي للدراسات العليا. وأشرف على عدد من الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراة لطلبة عراقيين وعرب. وناقش العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة لطلبة عرب وعراقيين في مواضيع الآثار والحضارة والتاريخ والملاحم القديمة. وأسهم في العديد من مؤتمرات الآثار والحلقات الدراسية داخل العراق وخارجه. ودعي لإلقاء أحاديث ومحاضرات في جامعات أمريكية وأوربية عن آثار وحضارة العراق وعن نتائج تنقيباته. نشر العديد من البحوث والدراسات والتقارير العلمية عن نتائج أعماله الميدانية ودراساته المقارنة في مجلات علمية عراقية وأجنبية. له ثلاثة كتب مطبوعة: ( 1 ): فخاريات عصر الوركاء – أصوله وانتشاره، بالإنكليزية، (2): ظلال الوادي العريق – بالعربية ، ( 3 ): العراق: وحدة الأرض والحضارة والإنسان، بالعربية أيضاشغل عددا من المواقع العلمية والإدارية في هيئة الآثار والتراث: منها باحث علمي، مديرا للتحريات وحماية المواقع الآثارية، ومديرا عاما للآثار ومتاحف المنطقة الشمالية. ورغم تقاعده من العمل الوظيفي في أواخر الثمانينات إلا أنه استمر في نشاطاته الأكاديمية والعلمية في داخل العراق وخارجه.
يقول بهنام أبو الصوف : لو تعمقنا بدراسة الفن بشكل عام والفن العراقي بشكل خاص لتبين لنا بشكل واضح أن للفن شأنه شان الامور الحضارية الأخرى جذور وأصول تاريخية ضاربة في القدم. وهذه الجذور قد تفوق ما يتصوره الفنانون المختصون أنفسهم، ولعلهم يندهشون بأنواع الفن وتعد د مجالاته وأنماطه التي قد تتطابق مع مجالات الفن الحديث بشكل كبير.وتؤكد الدراسات أن الجذور الفنية الأولى تمتد مند العصر الحجري الحديث أي بحدود الألف التاسع قبل الميلاد.ومن خلال التتبع والاستقصاء يظهر أن تلك الفنون الأولى كانت في تطور مستمر ملازم لتطور الحضارة القديمة حتى أصبح لدينا ما يمكن أن يشكل بداية الفنون الجميلة. حيث كشفت آثار الأجيال القديمة لنا بدايات النحت والرسم والزخارف والتلوين وأمورعديدة تدخل في مضمار الفنون التشكيلية التي شكلت الجذورالأولى للفن بشكل عام، والفن العراقي بشكل خاص. وهذا ما يؤكده الباحثون و الدارسون المختصون في الفنون وعلم الآثار. حيث تؤكد تلك القطع الأثرية التي يمكن الرجوع أليها بعد الإطلاع عليها في مواقع تواجدها لدى الجهات المعنية في العراق كما هو معروف أن الهيأة العامة للآثار و التراث هي الجهة الرسمية الوحيدة التي تملك حق التحري والتنقيب في المواقع الأثرية وحق الاحتفاظ بالآثار المنقولة وصيانة الأبنية الأثرية والتراثية.
خلال زيارتي له نهاية عام 2010 في داره التي يسكنها مع شقيقته في العاصمة الأردنية عمان أهداني كتابه الأخير المعنون (العراق وحدة الأرض والحضارة والإنسان)، يومها أجريت معه رحمه الله حوارا صحفيا مقتضبا قلت فيه : ابو الصوف الذي ما زال يتمتع بحيوية الشباب رغم الـ ( 80) هو وتد من أوتاد الحضارة العراقية ومن أصحاب القلوب العامرة بحب العراق وواحدا من أعلام العراق البارزين في مجال دراسة تاريخ حضارة وادي الرافدين وهوعالم جليل وفطحل بتخصصه، وأحد رموز العلم والأدب والفن والثقافة والإبداع.
وخلال الزيارة كان العراق حاضر بيننا ، بكل إرثه وتراثه ، حيث تحاورنا في مواضيع شتى ،كانت وحدة العراق والعراقيين هي الغالبة على حديثنا ، حيث أكد الدكتور أبو الصوف ، على انه لو عدنا إلى نصوص العراق القديم وكتاباته سومرية كانت أم أكدية ، بالبلية أم آشورية ، لوجدنا الشعور بوحدة أرض العراق وتكاملها الحضاري والجغرافي والإقتصادي والسياسي ، لا بل الشعور بوحدة المنطقة وتناظرها الحضاري من البحر السفلي ( الخليج العربي ) في الشرق إلى شواطيء البحر العلوي ( البحر المتوسط) في الغرب ، كان هاجسا بارزا لشعب العراق القديم وقادته على مر التاريخ ، تعززه وحدة الأرض والتاريخ والمصير المشترك في مواجهة الأخطار والتحديات القادمة من وراء الحدود الشمالية والشرقية بالذات . وقال : لقد سعى إلى هذا الهدف وحققه باصرار واحيانا بتضحيات كبيرة قادة عراقيون بارزون منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد منهم ( لوكال زاكيري – 2400/2371 ق م) وأشهرهم وأبعدهم أثرا ( سرجون الأكدي -2371/2316 ق م ) وأكثرهم شهرة المشرع البابلي الكبير (حمورابي -1792/1750 ق م ) فضلا عن عدد من القادة الآشوريين العظام أمثال ( سرجون الثاني وابنه سنحاريب وأسرحدون وآشور بانيبال ) الذي اجتث من أرض فلسطين بقايا الكيان العبري وجعل من مدينة بابل عروس العالم القديم .
وتحدث الدكتور ابو الصوف عن ان ارض العراق شهدت اولى القرى في العالم حيث ظهرت في وسط وجنوب بلاد الرافدين وفي شماله ، وذلك في قرى نينوى وتبة كورة وكري رش وقالينج أغا في اربيل وفي سهول مخمور والموصل واحواض سدود دوكان وشهرزور وحمرين واسكي موصل والصوان جنوب سامراء وراس العمية وجمدة نصر وكيش في منطقة مشروع المسيب ونفر والوركاء واور واريدو في الناصرية . وأكد بأن اهل العراق عرفوا استخدام الذهب والفضة في 3500-3000 ق م ، وتوجوها بمعرفة الكتابة خلال فترة الحضارة السومرية .
وعن تأثير وفضل العراقيين على المظاهر الثقافية والتربوية والسياسية والقضائية المعمول بها حاليا ، أكد الدكتور أبو الصوف ، بأن لهم فضلا كبيرا في ذلك ، فهيئة شورى دولة المدينة على ايام جلجامش الملك الخامس لسلالة الوركاء الاولى وهي النموذج الأول للأنظمة البرلمانية في العالم المعاصر ، والمدرسة التي كانت تعرف عند السومريين باسم بيت الرقم ( إ – دوبا ) هي ايضا النموذج الأول لأقدم اشكال المعاهد التربوية والعلمية اللاحقة ، ومن مدينة نفر وصلنا أول تقويم زراعي في بابه يضم عددا من الوصايا والتعليمات الزراعية الخاصة بتهيئة الحقل وبموسم البذار والري والحصاد وضعها فلاح عراقي قديم لإبنه على رقيم من طين يحوي 35 فقرة . وهناك العديد من الأمور الأخرى كان الفضل فيها للعراقيين القدماء على الحضارة الإنسانية .
وكشف الدكتور بهنام ابو الصوف عن معلومة طريفة في تاريخ العراق ، وهي ان مدينتي البصرة والكوفة وهما اول مدينتين شيدهما العرب المسلمون في العراق في زمن الخليفة عمر بن الخطاب كانتا من ( القصب ) بكل مبانيهما بما فيها المسجد الجامع ودار الامارة والاسواق ، وهناك اشارة واضحة على ان بيوت مدينة شروباك في الجنوب من عفك كانت مشيدة من القصب أيضا .
جدير بالذكر بأن الدكتور بهنان أبو الصوف من مواليد محلة ( سوق الشعارين ) القديمة بالموصل قرب جامع النبي جرجيس يوم 15 تموز 1931 ( دقوا عالخشب) ! وأسرة ابو الصوف من الأسر الموصلية العراقية التي سكنت محلة القلعة وهي من اقدم محلات الموصل التي تشغل أجزاء واسعة من تل الموصل الأثري القديم داخل أسوار الموصل وكان والده تاجرا يأتي بالأخشاب من إطراف ديار بكر وجزيرة ابن عمر حيث كان سكن العائلة الأصلي كما كان يتاجر بالأصواف . أكمل دراسته الابتدائية،والمتوسطة والثانوية فيها ،وسافر إلى بغداد كعادة قرنائه –حيث لم تكن آنذاك جامعة في الموصل ، للدخول في قسم التاريخ -كلية الآداب وتخرج متخصصا بالتاريخ والآثار سنة 1955 . وكان من أساتذته الذين تعلم على أيديهما الأستاذ طه باقر والأستاذ فؤاد سفر وهما من عشق من خلالهما التنقيب عن الاثار ، والدكتور صالح احمد العلي الذي وجد في محاضراته نمطا جديدا من المعرفة التاريخية. وقد تيسرت له الفرصة للحصول على بعثة علمية في المملكة المتحدة .وحصل علىالدكتوراه في جامعة كمبردج خريف سنة 1966 .وكانت أطروحته الموسومة : "أصالة عصور ما قبل التاريخ في العراق " ، تتناول نواة الحضارات و(علم الإنسان :انسان العراق القديم ). وكانت حضارة الوركاء هي العمود الفقري في منهجه واطروحته ،لان عصر الوركاء يعد عصرا متميزا في ماضي العراق القديم وازدهار الحضارة الانسانية عموما .
سألته : هل ساهمت ابان عملك الطويل في كشف مواقع معينة؟
ـ نعم، لقد ادى عملي في تل الصوان في سامراء الى الكشف عن بقايا قرية من العصر الحجري الحديث، تعود الى مطلع الألف السادس قبل الميلاد، كما ادى عملي في موقع قاينج آغا قرب قلعة اربيل الى الكشف عن مستوطن واسع من عصر الوركاء، مع معبدين قائمين وسط حي سكني مقام على مسطبة من اللبن تشكل بدايات الزقورات (الابراج المدرجة) في وادي الرافدين. وانتم تعلمون ان التنقيب لا يجري للحصول على مادة تاريخية غير معروفة فقط او ادلة وبراهين جديدة عن مرحلة او مراحل من التاريخ القديم لأي بلدة. وفي اعمالي الميدانية، خاصة في تل الصوان وقاينج آغا في اربيل، اذ حصلنا في الموقع الاول على نتائج مذهلة وجديدة عن حلقات كانت مجهولة من مطلع الألف السادس قبل الميلاد في وسط العراق، وحصلنا في الموقع الثاني على اجوبة مهمة لكثير من المسائل المعمارية والفنية والاجتماعية عن مرحلة بدايات عصر الوركاء في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
قلت : وأي المواقع الآثارية التي عملت فيها اقرب الى نفسك؟
ـ كل الاماكن التي عملت فيها احمل لها في قلبي ذكرىات جميلة وانطباعات رائعة، ابتداء من حوض سد دوكان في منطقة رانية بقراها الجميلة وناسها الطيبين البسطاء، ونهر الزاب الصغير الذي يشق طريقه في وسط ذلك السهل الفسيح الذي تحول الى بحيرة، حتى اراضي مشروع المسيَّب الكبير التي كانت مغطاة بكثبان الرمل المتحركة، والتي كنت التقي فيها بقطعان كثيرة من الغزلان كلما دخلت ربوعها. ولدي ذكريات جميلة ايضا عن سنوات التنقيب في منطقة خرساباد، منطقة الآلهة الاشورية السبعة، وحوض سد حمرين التي انقذنا خمسين موقعا فيها قبل ان تغمرها مياه السد، كما انقذنا في حوض سد صدام في منطقة اسكي موصل مائة وخمسين موقعا اثريا. وفي ذاكرتي موقع خاص للعمل في تل الصوان جنوب سامراء، حيث وفقت للكشف عن المكان الذي انتقلت منه معارف فلاحي شمال العراق الاوائل الى مواطن وسط وجنوب العراق، في مطلع الألف السادس قبل الميلاد. وكان لاكتشافاتي غير المسبوقة في هذا المكان صدى واسع في اوساط الآثار العربية والدولية، حيث اخذت مكانها في مختلف النشريات العالمية الآثارية، كما اخذتني لعدد من الجامعات في الكثير من انحاء العالم لالقاء المحاضرات عنها.
508 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع