عوني القلمجي
شيطنة الدين والدولة
لم تجر رياح الثورة الإيرانية بما اشتهت سفن الشعب الإيراني على الرغم من الأعباء الثقيلة التي تحملها، والتضحيات الجسام التي قدمها على مدى عقود طويلة من حكم شاه إيران؛ فبدلا من تحقيق طموحاته المشروعة في الحرية والاستقلال والتقدم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والعيش الكريم استولى خميني على الثورة وتفرد بها وتحكم بقيادتها ليشرع في تنفيذ برنامجه المسمى بـ الإسلامي وتحديدا على المذهب الشيعي الإثني عشري، وفرضه على الشعب الإيراني، كخطوة تمهيدية لتطبيقه لاحقا على الدول الإقليمية، تحت شعار "تصدير الثورة وإقامة دولة مفهومه الإسلامي العالمي".
ما يلفا الانتباه هو أن خميني لحماية مشروع دولة مفهومه الإسلامي العالمي، همش الجيش النظامي، ليكون البديل عنه ما سماه بـ الحرس الثوري الإيراني اعتقاد منه بأن الجيش النظامي ومهما بلغ من قوة لا يمكنه الوقوف في وجه الجيوش الاستعمارية القوية على عكس المليشيات المسلحة التي تستطيع مواجهة أية دولة مهما بلغت من قوة جراء قدرتها على خوض حروب عصابات طويلة الأمد؛ ليس هذا فحسب، وانما سعى خميني لتأسيس حرس ثوري إيراني في أي بلد تطوله يداه، كما حدث في العراق بعد هيمنة إيران عليه ولكن تحت مسمى الحشد الشعبي. أي أن تشكيل المليشيات المسلحة في العراق، أو الحشد الشعبي، لم يكن وليد الصدفة، أو جراء حاجة هذا الحزب أو تلك الطائفة لكسب مزيد من القوة ضد الاخرين أو محاربة داعش تلبية لفتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الديني علي السيستاني بعد احتلال داعش لثلث مساحة العراق، وانما تم تشكيلها وتنظيمها في إيران قبل عقود عدة، وتحديداً يوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني عام 1982، وكان أبرز هذه المليشيات فيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية الذي تنضوي تحته الأطراف "حزب الدعوة ومنظمة العمل وحركة المجاهدين" في حين حددت مهمتها بأسقاط نظام البعث واستلام السلطة في العراق ليتسنى لإيران تحويل العراق الى ولاية من ولايات الجمهورية الإسلامية العالمية وفقاً للمخطط والشعار، أو في الاقل قاعدة متقدمة لتنفيذ مشروع الهلال الشيعي الذي يصل الى لبنان عبر العراق وسوريا، ومن الجدير بالذكر أن خميني أطلق فكرة الدولة الإسلامية العالمية وما أسماه بـ الحرس الثوري عندما كان لاجئا في النجف الأشرف في العراق سنة 1964.
ولكي يتمكن خميني أو من يخلفه من تنفيذ برنامجه الغريب من نوعه لقب نفسه بلقب من صنعه الا وهو الولي الفقيه، ووكيل الامام المهدي المنتظر لحين ظهوره، الأمر الذي يمنحه سلطة إلهية ودنيوية تعطيه الحق في حكم البلاد بالطريقة التي يراها هو دون غيره، ومن دون الاعتراض عليه من أية جهة في البلاد سواء مؤسسة حكومية او سلطة تشريعية أو تنفيذية أو حتى قضائية، ولتكريس قبضته على النظام منح لنفسه صلاحيات مطلقة، شرعنها بفقرات من الدستور الإيراني؛ منها المادة 110 التي حددت هذه الصلاحيات، ومنها تعيين السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والإشراف على حسن تنفيذ السياسات العامة للنظام، وإصدار الأمر بالاستفتاء العام، وتولي القيادة العامة للقوات المسلحة، وإعلان الحرب أو السلام، وإعلان النفير العام، وحل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث وحل مشاكل النظام التي لا يمكن حلها بالطرق المتعارفة من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام، وعزل رئيس الجمهورية.
أما الحديث عن التيار الإصلاحي في إيران، ووقوفه ضد سياسة التطرف والتشدد الخمينية فهو ليس سوى خدعة كبيرة لتمرير مشروع خميني الغريب في جنح الظلام، وكذلك تضليل الشعب الإيراني وتخديره لينتظر فوز هذا التيار في الانتخابات وتسلم مقاليد الحكم والتمتع بحرية القرار، وتحقيق شعاراته التي تعبر عن طموحات الشعب الإيراني، ولقد أثبتت الوقائع بأن لا وجود لهذا التيار الذي فاز أكثر من مرة في الانتخابات في ظل سلطة الولي الفقيه التي لا تعلو عليها أية سلطة بدليل أن أي قرار أو تشريع أو برنامج سياسي أو اقتصادي أو عسكري يصدر من أية مؤسسة من مؤسسات النظام لا يبصر النور قبل اقترانه بموافقة الولي الفقيه.
إن شعار تصدير الثورة الإيرانية الذي استنزف موارد إيران على حساب الشعب الإيراني من جهة، ودمر البلدان التي وصل إليها النظام الإيراني مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن من جهة أخرى ليس من صنع جهات دولية معادية للثورة كما يدعي اتباع إيران، وإنما هو حقيقة جرى الإعلان عنها من قبل عدد كبير من المسؤولين الإيرانيين، وفي مقدمتهم خميني رئيس النظام نفسه حيث اعتبر شعار تصدير الثورة منذ اليوم الأول لنجاحها عام 1979 الشعار المركزي للثورة الإيرانية على أمل أن يحظى هذا الشعار بمساندة الحركات الراديكالية المعارضة في الدول المجاورة خاصة ذات التوجّه الإسلامي وبالذات الشيعي منه بل اعتبر تصدير الثورة وانتشارها في البلدان الأخرى أحد أهم سبل حمايتها من الداخل، والأكثر من ذلك أكد خميني "أن تصدير الثورة واجب شرعي لتشكيل حكومة إسلامية عالمية تحت زعامة المهدي المنتظر الإمام الثاني عشر الذي يزعم أنه وكيله". ولم تكن مؤسسات الدولة بعيدة عن ذلك؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر مجلس الدفاع الأعلى الإيراني بيانا يدعو فيه إلى ثورة إسلامية عالمية تُشكل الأرضية الجيدة لحكومة "المهدي"، ويكون قوامها الحركات الشيعية المعارضة في العراق والسعودية والبحرين ولبنان والخليج.
لم يكتف خميني بذلك، وإنما بدأ عبر مؤسساته المختلفة بتهريب مئات الكتب المعنية بهذا الشأن الى العراق وباقي الدول العربية، ولكن التركيز الأكبر كان على العراق، وقد تضمنت هذه الكتب التبشير بأفكار الثورة الإيرانية ثورة الشعب الإيراني التي استولوا عليها وضاغوا لها أيديولوجياتها الجديدة وفق أفكارهم وتوجهاتهم، وقد أسهم ذلك في تنشيط الحركة الدينية الشيعية في العراق، إضافة إلى عودة الحياة إلى "حوزة النجف" الدينية التي لا يخفى على أحد علاقاتها الوثيقة مع "حوزة قم" في إيران، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالعراقيون المشبعون بأفكار علماء الدين الإيرانيين من خلال مؤلفاتهم التي غزت العراق، نشروا هذه الأفكار في الدول العربية والأجنبية التي توجّهوا إليها.
أما على المستوى العلني فقد أنشأ نظام الملالي خمس دور نشر كبيرة في كل من "برمنجهام" و "ديترويت" و"جاكارتا" و"سنغافورة" و"الإمارات وقد نتج عنها على سبيل المثال لا الحصر 40 مجلة دورية في لندن من بينها 12 مجلة باللغة العربية، وفي "ديترويت" ثلاث مجلات باللغة العربية، إضافة إلى مجلات بالإنجليزية، وفي باريس مجلة عربية وأخرى فرنسية، وفي إندونيسيا مجلة شهرية وأخرى نصف شهرية باللغة الإندونيسية.
أما تصريحات خميني العلنية في هذا الخصوص فهي كثيرة، فعلى سبيل المثال قال خميني "الاسلام لا ينحصر في بلد أو في بعض البلدان، وليس الإسلام لطائفة واحدة بل وليس للمسلمين فقط... الإسلام جاء للبشر كافّة. إنّ بعض خطابات الاسلام: "يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا" ولكن هناك خطابات كثيرة تقول: (يا أيها الناس). يريد الإسلام أن يضع البشر تحت ظلّ عدالته.
أيضا قال " إذا عرفوا الإسلام وفهموا الحكومة الإسلامية وشعروا: أنّ الاسلام مفيد للجميع، وإذا شعر الناس أنّ الحكومة الإسلامية في صالح الجميع فنحن نأمل أن يميلوا كلهم الى الإسلام.
وقال إنّنا نريد أن نصدّر ثورتنا السياسية والثقافية الى جميع الأقطار الاسلامية، ولو تمّ تصدير هذه الثورة المباركة فإنّها ستحل المشاكل في أية منطقة تصلها" وفي أحاديث له مع غير الإيرانيين التي غلب عليها طابع الدبلوماسية ومبدأ التقية قال في حديث مع جمع من سفراء البلدان الإسلامية، "عندما نقول: لابد من تصدير ثورتنا يجب أن لا يتبادر إلى الاذهان هذا المفهوم الخاطئ، وهو اننا نريد فتح البلدان، إننا نعني بتصدير ثورتنا "أن تستيقظ الشعوب والبلدان، وأن تنقذ نفسها من المعاناة التي تعيش فيها، وتخرج من هيمنة الآخرين الذين ينهبون ثرواتها وذخائرها في وقت تعيش هي الفقر والحرمان".
في لقاء لـ خميني مع وزير الخارجية وجمع من العاملين في وزارة الخارجية قال " لقد قلنا منذ البداية "أننا نتطلع الى تصدير ثورتنا، ولا نعني بتصدير الثورة تحشيد الجيوش بل نريد أن نوصل صوتنا إلى أسماع العالم" ثم جاء الختام بتصريح "لأحمد خميني"، الابن الثاني للخميني الذي أكد فيه "إن إيران الإسلامية ستكون المقر الكبير للثورة، ومركزا لجهاد الإفريقيين والشرق أوسطيين ومسلمي سائر أنحاء العالم، علينا أن نسعى كما كنا في السابق محل اعتماد الأبناء الثوريين" للإمام الخميني في شتى أنحاء العالم".
بالمقابل وعلى الرغم من إعلان إيران في عدة مناسبات أنها لن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى إلا أن هناك منظمات تدعي الثورية الإسلامية رسمية أو شبه رسمية أو حتى غير رسمية تزاول اتصالات مع تنظيمات إسلامية معارضة مما سبب في مراحل عدة توترا في العلاقات مع هذه الدول، وقد استضافت إيران حركات سياسية ودينية معارضة، سعودية وعراقية وبحرينية، ولعل من أبرزها هي الحركات العراقية الشيعية الموالية للنظام الإيراني التي وصلت إلى سدة الحكم بعد الاحتلال حيث نظمت المؤتمرات السنوية لها، وسخّرت لها أجهزة الإعلام، واستغلت دور رجال الدين الشيعة في المنطقة بما يمنحها أوراقًا إضافية في التعامل مع الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى.
لقد نتج عن هذا التوجه الخميني سياسة داخلية فجة اعتمدت على دكتاتورية مذهبية وتضييق الحريات وحرمان المواطن من التعبير عن الرأي، وكذلك حقه في العيش الكريم إضافة إلى استخدام وسائل القمع والعنف المفرط، ضد المعارضين السياسيين، أما التظاهرات السلمية ضد النظام فتواجه بكافة أنواع الأسلحة وتصل الى درجة القتل الفردي والإبادة الجماعية دون رحمة؛ في حين احتلت إيران المرتبة الأولى في العالم في تنفيذ أحكام الاعدام حيث جرى إعدام مئات الآلاف من المواطنين الإيراني خلال فترة حكم الملالي أغلبهم من خصوم الرأي. في حين قامت السياسة الخارجية على أساس التدخل في شؤون الدول بغية الهيمنة عليها وفرض السلطة الدينية فيها من خلال تصدير الثورة عبر الأحزاب والمليشيات المسلحة الموالية لها وهو ما يتناقض مع الشعارات التي ادعى بها خميني في خطاباته وأحاديثه الموجهة.
كان بإمكان الشعب الإيراني أن يعيش بسلام ورفاهية بعد ثورته الوطنية عام 1979 ليندرج بين الشعوب المتقدمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وذلك لما تمتلكه إيران من ثروات متعددة وهائلة تكفي لإعاشة أضعاف العدد الحالي لسكان إيران، ومنها ثروات ذات طابع استراتيجي كالنفط والغاز، بالإضافة الى أن إيران تحتل المرتبة الخامسة عشر في انتاج أكثر من ستين نوعا من المعادن وهو ما يتيح للبلاد أن تحرز تقدما اقتصادياً هائلاً في ظل الوفرة في الأيادي العاملة وحاملي الشهادات العليا.
لكن ما حدث عكس ذلك تماما حيث يعيش الشعب الإيراني حياة صعبة جراء معاناته في توفير لقمة العيش بسبب تراجع الأداء الاقتصادي حتى في أكثر الأوضاع استقرارا في إيران، فعلى سبيل المثال وفي العقد الأول بعد ثورة 1979 الوطنية المسلوبة تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي مع أخذ التضخم بعين الاعتبار، وفي العقد الثاني من الثورة وتحديدا بعد انتهاء حرب إيران ضد العراق وتعافي أسواق النفط لم يطرأ أي تغيير حتى عام 2010، وازداد الامر سوءا في العقد الثالث للثورة الذي كان من المفترض أن تحقق إيران نمواً ضخماً نظراً لدخل النفط الهائل، وتدفق الشباب الذين ينضمون للقوى العاملة والذين يحمل الكثير منهم شهادات متقدمة حيث اكتفت إيران بتسجيل نمو ثابت في إجمالي الناتج المحلي إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة إلى 11.7% بحسب التقارير الرسمية، وفي غضون ذلك استشرى الفساد والرشوة والمحسوبية، والسرقة وانتشار تجارة المخدرات وبيع الأعضاء البشرية الخ.. في حين شهد العقد الرابع من استيلائهم على الثورة تشديدا للعقوبات الدولية التي أدت إلى حالة من الركود الاقتصادي، وانخفاض إجمالي الناتج المحلي خاصة بحلول الأعوام الأخيرة، وخير مثال على ذلك تراجع سعر التومان من 143 تومان للدولار الواحد عام 2001 إلى 43 ألف تومان حاليا.. وبالتالي لم تفلح شعارات خميني في حل مشاكل نظامه والقضاء على مشاكل وهموم الشعب الإيراني ولم تجلب الإستقرار للدول التي جيشوا الجيوش فيها وإليها ووصلوها وتوسعوا فيها، والحال في هذه الدول كما يعلمه الجميع.
أمام هذا الوضع نهضت المقاومة الإيرانية منذ ما يزيد على ثلاثة عقود لتأخذ على عاتقها مهمة اسقاط هذا النظام الديني المذهبي المتطرف برمته وتحطيم كافة أجهزته القمعية وإقامة نظام وطني ديمقراطي مدني، وفي المقابل ولجعل هذا الهدف المشروع والنبيل ممكناً قام الشعب الإيراني بمختلف طوائفه ومذاهبه وقومياته وتياراته السياسية والاجتماعية بانتفاضات عملاقة نجد نموذجا منها في انتفاضة كانون الثاني يناير 2018 ونوفمبر 2019 “وآذار 2022 وسبتمبر أيلول 2023 التي كادت أن تسقط النظام لولا العنف المفرط الذي استخدمه ملالي طهران وما يسمى بـ الحرس الثوري والبسيج ضد المنتفضين، ومن الجدير بالذكر أن تسمية البسيج تعني رسميا "قوات تعبئة الفقراء والمستضعفين لتقديم الخدمات للشعب الايراني لكنها بدلا من ذلك تقوم بقمعه، وهذه القوات الشعبية ذات الطابع شبه العسكري تتكون من متطوعين من المدنيين ذكوراً وإناثا أُسسها خميني في تشرين الثاني نوفمبر 1979 لتتحول لاحقا إلى جهاز قمعي شأنه شأن الأجهزة القمعية التي تعمل بأمر الولي الفقيه.
هناك من يعتقد أن لنظام الملالي القدرة على البقاء لما يمتلكه من وسائل القوة المتمثلة بالأجهزة القمعية ومنها الحرس والبسيج والمخابرات إلى جانب أجهزة النظام القمعية متعددة الأسماء، وكذلك امتلاك النظام لوسائل الخداع والتضليل الملتوية حول معاداة الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الامريكية المكروهة من قبل شعوب الأرض كافة؛ لكن الحقيقة غير ذلك تماما فنظام الملالي يعيش أضعف حالاته خاصة وأن المقاومة الإيرانية المنظمة تغلغلت في المجتمع على نطاق واسع وأصبحت قوة تهدد نظام الملالي بالسقوط في أي وقت، ودون سابق انذار.
قيادة الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية والعمل التنظيمي والسياسي الموسع في الداخل والخارج من قبل المقاومة الإيرانية ومنظمتها المحورية منظمة مجاهدي خلق بقيادة السيدة مريم رجوي لابد لها من قطف ثمرة التحول بذهاب نظام الولي الفقيه إلى مزبلة التاريخ شأنه شأن كل الأنظمة العميلة والرجعية والديكتاتورية، وما حدث درس يجنب الشعب الإيراني ما آلت إليه ثورتهم ضد الشاه، والتي التهمها خميني وغصت بها العمائم.
28/7/2024
517 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع