زرياب الموصلِيّ.. الجزء الثاني


الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل



زرياب الموصلِيّ.. الجزء الثاني

يُعد نُصب (زرياب Ziryab) من المعالم السياحية المهمة في مدينة قرطبة الإسبانية، وهو يعكس الإبداعات التي أبدع بها مبدع (الموسيقى والإتيكيت العربي) زرياب الموصلِيّ (857-789م). ويذكر خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان أن إسبانيا أنشأت عام 2013 هذا النصب التذكاري بقرطبة لزرياب الموصلِيّ والذي يعلوه العود وطائر الزرياب؛ وهو طائر أسود عذب التغريد اُتخذ لقبًا لزرياب.

تقول د. مانويلا كورتس أستاذة التاريخ بجامعة غرناطة في إسبانيا: "زرياب الأسطورة الكبرى في الشرق والغرب كان السفير الكبير للموسيقى الشرقية في الأندلس، فقد حمل معه كافة المعارف التي كانت تتوافر في المدرسة العباسية؛ وبالأخص مدرسة بغداد؛ وكذلك المعارف الأخرى القادمة من القيروان خلال عصر عبدالرحمن الثاني".

وبينما يهاجم كتاب (1000 معلومة عن الأندلس) لـ أحمد سيد حامد زرياب فيقول "على الرغم من وفاة زرياب منذ أكثر من ألف ومائتي عام، إلا أن زرياب قد فاز بشهرة واسعة حتى يومنا هذا، فإذا سألت أهل الأندلس عن عبد الرحمن الداخل أو الأوسط أو الناصر.. لا يكادون يعلمون عنهم شيئا، إلا أنهم يعرفون زرياب وسيرته وتفاصيل حياته، وتُغنى موشحاته في تونس والمغرب والجزائر، وتُدرس سيرته كرجل ممن قادة التنوير والنهضة وحربه ضد الجمود، وكفاحه من أجل الفن، ولا يعلمون أن زرياب هذا كان سرا من أسرار سقوط بلاد الأندلس"!!.

لقد كان زرياب أول من وضع السلّم الموسيقى وكان على شكل دوائر متحدة المركز، وتم من بعده فتح هذه الدوائر لتكون خطوط متوازية والتي عُرفت فيما بعد بالسلّم الموسيقي، وكتب زرياب النوتات الموسيقية، وزاد العود وترًا خامسًا؛ حيث كانت أربعة أوتار.. وأدخل على الموسيقي مقامات كثيرة لم تكن معروفة من قبل، وجعل مضراب العود من قوادم النسر بدلا من الخشب، وابتدع الغناء بالنشيد.

وعلاوة على الموسيقى فقد كان زرياب شخصية فريدة تتمتع بذوق مميز وثقافة عالية. وكان عالمًا بالنجوم وتقويم البلدان وطبائعها ومناخها وتشعب بحارها وتصنيف شعوبها، ولم ينقل إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقي وضروب الغناء فقط وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي سادت في الشرق ثم انتقلت للغرب.

لقد ألّف زرياب أربعاً وعشرين مقطوعة، لتتوافق مع ساعات النهار، ومع الحالة النفسيّة لكل وقت. وينتقل هذا الإرث الفني المميّز إلى شمال إفريقيا مع الموريسكيين، وذلك بعد سقوط غرناطة عام 1492، وطرد الموريسكيين النهائي من الأندلس بين عامي 1609 و 1614.

كما انتقلت إيقاعات وألحان المدرسة الأندلسيّة التي نشأت في ظلّ زرياب، إلى أمريكا اللاتينيّة، حيث نقلها الموريسكيون الذين رافقوا كولومبوس في رحلة اكتشاف العالم الجديد، وتذكرنا بها ألحان السامبا، والتشاكريرا في الأرجنتين والأوروجواي، وألحان الرقصات الشعبيّة في تشيلي، والسهول الكولومبية والفنزويلية، وألحان الرقصات الشعبية المكسيكية والكوبية، كما يشير الباحث توني إيغورا في كتابه (أصول الموسيقى الكوبيّة)، الصادر عام 1997.

لقد أتى زرياب بكل المعارف الأفلاطونية الجديدة والموسيقى وتأثيرها على الجسد، وكان مولعا بكل التجديدات الفكرية والفلسفية. وتذكر الدكتورة (مانويلا كورتس) أن ابن سعيد المغربي الأندلسي الذي عاش القرنين الثاني والثالث عشر كان يقول: (خلال عصر زرياب كانت القصائد التي وردت في كتاب الأغاني للأصفهاني هي التي تغنَّى). وهو شكّل القصيدة الذي كان يغنَّى به في الأندلس في المرحلة الأولى، ومن ثم بدأت الموشحات والأزجال تشارك مع هذه القصائد. وهي القاعدة التأهيلية التربوية التي أسسها زرياب، ثم أخذت بالانتشار في باقي مدارس الأندلس.

ولم يكتفِ زرياب بالموروث الكلاسيكي الذي أخذه عن أستاذه إسحق الموصلِيّ بل أضاف الكثير، فهو أحد كبار المجددين، وقد اعتمد التنوع منهجا ودمج بين أجزاء من قصائد مختلفة، لذا وصل إلى أقصى درجات الحرية في التنويع في الإيقاعات الموسيقية، فالشعر العربي المغنى له قوالب محددة منها الطويل والقصير، والدمج بين أجزاء القصائد يعني تنوع الإيقاعات.

لقد كانت هذه بداية النوبة، وهي صنائع لحنية تتألف من خمسة أقسام، كل منها يسمى باسم دور الإيقاع، ووفقا لآراء بعض المؤرخين فقد كانت النوبة أندلسية، ثم أخذت بالتغير باختلاطها مع أنغام موسيقية أخرى قادمة من الشمال الأفريقي من الجزائر وتونس والمغرب.

يذكر المؤرخ ابن حيان القرطبي في كتابه (المقتبس في تاريخ الأندلس) أن المرأة شكلت جزءا مهما من حياة زرياب، وذكر اسم جاريتيه المفضلتين جلان (غزلان) وهنيدة، فقد كان يوقظهما بالليل لمساعدته في التدوين، وكانت ابنتاه عليّة وحمدونة مغنيتين شهيرتين. وقد استمر هؤلاء النسوة السير على خطى زرياب، وكان المغنون يستفتونهن بعد ذلك فيفتين بالحلول الموسيقية، وكانت المدرسة القرطبية انعكاسا للمدرسة الشرقية.

مختصر القول، كان زرياب علامة فارقة، لأنه يمثّل النموذج الأمثل للنابغة الموسيقي، وللمثقف الأشهر، الذي تتحول في ظله حياة مجتمع، اجتماعياً وفنياً، في مرحلة كان سيّدها عبد الرحمن الثاني، ووصل فيها التأثر بالفكر والأدب للشرق الإسلامي ذروته، وأضاف إليه زرياب التأثير الاجتماعي والفني. وكان لزرياب تأثيره الاجتماعي؛ وخاصة الفني، في الأندلس وما وراء حدودها في أوربا والعالم أجمع، والباقي أبعد من زمانها، ومازال زرياب يثير اهتمام كل المهتمين بدراسة التراث الأندلسي.

 

الآثار الاجتماعية لزرياب:
لقد تحدثت الكاتبة شيرين الكردي عن احتفاء إسبانيا بمبدع الإتيكيت العربي (زرياب) وعن اعتزاز إسبانيا بمعالم الحضارة الإسلامية وتكريمها لعلمائها الأجلاء. ورصدت دراسة للفنانة التشكيلية الإسكندرانية رحاب فاروق الإتيكيت والموسيقى والجماليات في حياة المبدع زرياب.

لم ينقل زرياب إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقى وضروب الغناء فقط، وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي كان ينعم بها المشرق في بغداد وما حولها. فكان زرياب بذلك من أهم عوامل التواصل بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه في ذلك العصر.

لقد نقل زرياب العديد من الاشياء إلى الأندلس غير الغناء والموسيقى، ونقل أجمل ما في بغداد إلى قرطبة ومنها إلى الأندلس، وهو وحده الذي نقل أحسن الأقمشة وأزهى الألوان من بيوت الخلفاء إلى بيوت النبلاء.

وتعطي مصادر التاريخ الاندلسي مساحات كبيرة من صفحاتها للرجل الأسطورة زرياب وتنسب إليه أنه ارتقى بالذوق العام في الأندلس، ووصفوه بأنه الرجل الأنيق في كلامه وطعامه، وتذكر المصادر أنه كان يلفت الأنظار إلى طريقته في الكلام والجلوس إلى المائدة أيضا. وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا.

وفضلاً عن ذلك فقد أدخل زرياب إلى أوروبا وجبات الطعام الثلاثية الأطباق. وكان له ذوقه الخاص في تنسيق الموائد وتنظيمها واتخاذ الأكواب من الزجاج الرقيق بدلاً من المعادن.

وتؤكد روايات تاريخية أن زرياب هو مخترع الحلويات التي سماها (الزريابية) ثم تحور هذا الاسم وتحول إلى (زلابية).

وادخل زرياب لعبة الشطرنج إلى الأندلس ومنها انتقلت إلى أوروبا، وما زالت كلمة (الشاه مات) في اللعبة مستخدمة في أوروبا والعالم إلى اليوم بلفظها العربي (Shahmat).

وصفوة القول أن زرياب لم ينقل إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقى وضروب الغناء فقط، وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي كان المشارقة ينعمون بها، فكان ذلك من أهم عوامل التواصل بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه في ذلك العصر.

توفي زرياب عام 857م، بعد أن أنار الأندلس بحضارة بغداد وزخرفها الذي جلبه معه، وأضاف إليها لمسات عبقريته، وبأنامله الساحرة تحولت الأندلس إلى حاضرة خالدة لا زالت تتغنى بها الأجيال.

واليوم لا يخلو شارع في غرناطة أو قرطبة أو إشبيلية من لافتة كُتب عليها اسم (زرياب Ziryab) للدلالة على مقهى أو فندق أو حتى فرقة موسيقية.

https://www.youtube.com/watch?v=JkYUva01SGM&t=55s

المصادر: مواقع إلكترونية متعددة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1010 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع