بسام شكري
قصص من الحرب المنسية-الخوذة الهتلرية
بعد انسحاب الجيش العراقي من داخل الأراضي الإيرانية الى الحدود الدولية تم نقل القطعات الخلفية للجيش العراقي كذلك، وخلال عملية الانسحاب التي لم تصدقها إيران في ذلك الوقت لفقدان الثقة بين طرفي الحرب كنت في الجبهة ولضيق الوقت فقد تركنا خلفنا في مواضعنا داخل الأراضي الإيرانية عدد كبير من الذخائر تكفي لتسليح جيش كامل حيث ان الجبهة الممتدة على طول الحدود العراقية الإيرانية والبالغة الف واربعمائة كيلومتر كان الجيش العراقي منتشر على طول الحدود وقد تركنا خلفنا كل مواضعنا التي كنا قد بنيناها من أكياس الرمل وقمنا بسقفها بأعمدة الخشب القوية وفوقها قطع الزنك , وقد وتركنا خلفنا كميات هائلة من الخشب والزنك الغير مستعمل وتركنا خلفنا ذكريات مؤلمة لما قد حصل معنا خلال تلك الفترة وبعد ان انسحبنا الى الحدود الدولية وحفرنا مواضعنا تحت الأرض مرة ثانية ذهبت في اجازتي الاعتيادية التي كانت أسبوعا واحدا يضيع منها يومي الذهاب والعودة وبعد عودتي من الاجازة وجدت ان القطعات الخلفية للفوج قد احترقت نتيجة قيام احد المقاتلين بحمل كمية من القنابل اليدوية ( الرمانات ) في يده وربطها جميعا في سلك معدني مثلا القلادة وقد تعثر في مشيته فانفلت صاعق احدى الرمانات وانفجرت وقتلته في الحال وقامت بتفجير قنبلة ثانية وسرعان ما أصاب المخزن حريق أدى الى احتراق بنادقنا واغراضنا التي كانت عبارة عن الفراش والخوذ وبما اني قد وصلت مساء فقد تم توزيع بنادق وخوذ جديدة وفراش على الجميع وقد نفذت كمية الخوذ ولم يبقى أي خوذة لي وعندما سالت نائب الضابط المسؤول عن المخزن عن خوذتي اعتذر وقال ان الكمية المتوفرة قد نفذت ويمكنني انتظار الارسالية القادمة وسوف يرسلها لي الى الجبهة وقد حيرني جوابه فكيف اذهب وراسي مكشوفة بدون خوذة؟ فطلبت منه ان يتأكد من المخزن مرة ثانية فاخبرني انه يعرف الكمية التي طلبها وقد وزعت على الجميع وهناك نقص عدد من الخوذ يتجاوز العشرين خوذة ونحن في خضم النقاش لمحت خوذه في زاوية المخزن فسالته عنها فاخبرني انها خوذة هتلرية فلم افهم ما يقصد بخوذة هتلرية الى ان جاء بها فتبين انها من الحديد وليست من الفايبركلاس الرومانية التي كنا نستعملها وكان شكلها غريب وثقيلة فجربتها فكانت كبيرة تغطي الاذنين كاملا واصبح راسي غاطسا فيها فقلت له انها ثقيلة لكني سوف اخذها فضحك ضحكة طويلة وقال لي هل انت متأكد ان سوف تلبس خوذة هتلرية في الجبهة؟ فأخبرته نعم ولما لا انها نصيبي, واخذتها وركبت بأول سيارة متجهة الى الخطوط الامامية، الخوذة من زمن الحرب العالمية الثانية ويطلق عليها في الجيش العراقي خوذة هتلرية وهي المانية الصنع ثقيلة جدا على الراس لكني لم أكن املك خيارا اخر ولم اعرف في حينها الحكمة التي دعتني لقبول استعمالها.
كنت البس تلك الخوذة العجيبة والمثيرة للضحك كلما خرجت من الملجأ الذي أعيش فيه تحت الأرض او كلما وقفت في المرصد او مواضع القتال صحيح انها كانت ثقيلة لكني ومع فورة الشباب نسيت ثقلها وتعودت عليها، كانت مواضعنا الجديدة مرتفعة عن ارض العدو حيث قد تم اختيار الجبال والتلال المرتفعة عند الانسحاب مما وفر عليها حماية اكبر من القصف ومن الهجمات البرية لكن العدو كان بعيدا عنا وخلال اقل من شهر تقدم العدو الينا وكنا نشاهد عجلاته وتنقلاته بالعين المجردة , الجبهة كانت من خطين الخط الأول كان منطقة الحجاب وهي قوة سرية واحدة تكون كإنذار مبكر للقطعات الاصلية تكون اما الجيش حيث يتم زرع حقل الغام امامها وخلفها والخط الثاني هو الجبهة الرئيسية ويتم تبديل سرية الحجاب شهريا بإحدى سرايا الفوج ومقاتلي الحجاب اذا أرادوا الوصول الى بقية سرايا الفوج عليهم اجتياز خندق بعمق متر ونصف وفوقه سدة ترابية بارتفاع نصف متر وفي جهة الحجاب من ذلك الممر هناك نقطة حرس وفي جهة الجبهة هناك نقطة حرس أخرى ولا يحق لاي مقاتل من الانتقال بين الاتجاهين الا عند حصوله على موافقة لان العدو ممكن ان يتسلل الى الجبهة اذا تمكن من التسلل الى الحجاب , قوة الحجاب التي تحيطها الألغام من الاتجاهين هي في الخسائر حسب المفهوم العسكري أي انه في حال أي هجوم للعدو فان تلك القوة ستدافع عن مواضعها وتتصل بخط الجبهة خلفها لأخباره عن قوة العدو وحجمها واذا تقدم العدو فانه سيقضي على قوة الحجاب ويجتاز حقلي الألغام الممتدين امام الحجاب وخلفه ليصل الى الجبهة وكان المقاتلين يعبرون الممر الضيق تحت الأرض عدة مرات يوميا لنقل الماء والارزاق للمقاتلين وللبغال وكان في سرية الحجاب ممرض واحد يقوم برعاية المقاتلين وفي الغالب كان عدد مقاتلي سرية الحجاب مئة وخمسين مقاتلا حالها حال سرايا الفوج الخمسة, لقد كنت ضمن سرية الحجاب في ثلاث مرات كل مرة هي شهر كامل حيث تتناوب سرايا الفوج القتالية الثلاث على الحجاب والحياة في الحجاب افضل من الجبهة طبعا لأننا لم نكن نخرج دوريات وكمائن للعدو وليس علينا قصف مدفعي ثقيل ونحن نتراشق مع العدو بالهاونات الخفيفة والقناص ورشاش البي كي سي المتوسط لكننا كنا في خطر دائم لان العدو اذا ما هجم على قطعاتنا سنكون نحن في مواجهته ولا مجال لانسحابنا الى الخلف لان خلفنا الألغام ويتم غلق الممر العميق الذي يربطنا مع قطعاتنا , كنا نقضى معظم وقتنا في مراقبة العدو وارسال الاخبار الى قطعاتنا عن طريق تلفونات سلكية حيث يمنع استعمال اللاسلكي خوفا من استهدافه من قبل العدو وكنا نفتح الأجهزة لثواني ثم نغلقها في أوقات مختلفة بهدف ارباك العدو, وكنا نتحلل من لبس الحذاء العسكري (البسطال) في الكثير من الأحيان لعدم الحاجة اليه وعدم وجود رقابة علينا وحياتنا كلها في الخنادق تحت الأرض والخندق هو شق في الأرض بعمق متر ونصف وفيه ساتر ترابي في الجهتين وهو مكشوف وغير مغطى وفي بعض الأحيان كنا نخرج قليلا فوق الأرض, لم نكن نعهد من قبل ان يكون العدو قريب علينا بهذه المسافة وقد تعودنا ان يكون العدو على بعد اكثر من عشر كيلومتر عندما كنا في داخل الأراضي الإيرانية وعندما كان العدو يقصفنا بالمدفعية او الهاونات كنا نسمع صوت الاطلاق فندخل الملاجئ تحت الأرض فتصل القذيفة الينا فلا تصيبنا وكانت ملاجئنا محصنة وحتى لو سقطت القذيفة فوق الملجأ فإنها تنفجر ولا تؤثر على الملجأ لان فوقه كمية كبيرة من الأحجار والصخور تمثل طبقة انفلاق خارجية, شيء واحد كان يؤذينا هو القذائف الفسفورية التي كان الجيش الإيراني يستعملها حيث انها تحدث حرائق في أي مكان تسقط فيه وفيها كمية كبيرة من الدخان السام وسائل الفسفور الحارق الذي لا يمكن اطفائه الا بعزل المنطقة المحترقة عن الاوكسجين أي وضع كمية من التراب او بطانية واذا ما أصاب السائل احد المقاتلين فانه يحدث له حروق لا شفاء منها.
في الحجاب القصف مختلف كليا فلا مدفعية تقصفنا ونسمع صوت الاطلاق ونختبئ تحت الارض من القصف وذلك لقرب المسافة مع العدو فكان العدو يستعمل مدفع 106 ملم عديم الارتداد وما ان نسمع صوت اطلاق ذلك المدفع الملعون حتى تسقط القذيفة علينا حيث ان قذيفة ذلك المدفع بخط مستقيم وليس مثل المدافع العادية او الهاونات حيث ترمي بشكل قوس وستستغرق القذيفة طائرة في الفضاء وقتا للوصول الينا ونسمع صفيرها عن بعد, وكان القناصين الاثنين في السرية يراقبون خروج المدفع فيقنصون افراده فيسكت المدفع وفي الكثير من الأحيان لا يتمكن القناصين من المدفع حيث كان يرمي وينسحب بطريقة يتدحرج الى الأسفل فلا نتمكن من رؤيته وللعدو قناصين اكثر من قناصينا حيث يقدر عددهم في السرية التي تقابلنا ستة قناصين وكانت لكل سرية من سرايا العدو اثنين من مدافع 106 ملم عديم الارتداد وكان لدينا مدفع واحد فقط لا نتمكن من استعماله لان المسافة المكشوفة كانت قصيرة وقد وضعناه في وادي صغير ومع مرور الوقت اخذ المدفع الإيراني يقصفنا بشكل يومي ولعدة مرات فيهدم مواضعنا او يقتل مقاتلينا او يقتل احد البغال المستعملة لنقل الماء والارزاق ولم نتمكن من الرد عليهم وفي احدى الامسيات اجتمعنا نفكر في طريقة لإسكات مدفعهم غير الاعتماد على القناص فتفتق ذهب احد المقتلين كان من محافظة ديالى عن فكرة جهنمية ورسم على الأرض منطقة العدو ورسم منطقة سريتنا وموقع مدفعنا في الوادي وقال انه سيقوم غدا وقبل شروق الشمس بتجربة اطلاق قذيفة على العدو وبعد نقاش شرح لنا الفكرة وهي ان يضع المدفع في اقصى الوادي وفوهته الى الأعلى فيرمي القذيفة فترتفع في السماء فوقنا ثم تسقط على العدو وقال انه يحتاج ان يضرب ثلاث قذائف دخان للتعرف على مكان سقوط القذيفة ليقوم بتصحيح زاوية المدفع ثم يقصفهم , وقذيفة الدخان تستعمل لتحديد مواقع العدو قبل قصفها وهي لا تحمل أي بارود سوى كمية من الدخان لاستمكان اهداف العدو وفي اليوم التالي وقبل شروق الشمس وفي الضياء الأول وضع المدفع 106 ملم في الوادي باتجاه اعلى التل ووضع احجار خلف عجلاته الأربعة لمنعه من التدحرج وجعله يرمي الى الأعلى مثل القوس بدلا من الرمي بخط مستقيم قام برمي اول قنبلة دخان فسقطت خلف خطوط العدو فقام بخفض زاوية المدفع واطلق قذيفة دخان أخرى سقطت فوقهم مباشرة فقام برميهم بأربعة قذائف متتالية كل خمسة دقائق قذيفة حتى دمر مواضعهم وخرجوا يركضون وبذلك تمكنا من اسكاتهم وتعميم فكرة وضع المدفع 106 ملم عديم الارتداد حيث استعملته بقية الافواج بنفس الطريقة , وهذا الوضع قد اثار العدو علينا اكثر فازداد عدد القناصين واصبحنا لا نتمكن من الخروج الا بعد ان يحل الظلام , في احدى الليالي هبت علينا ريح قوية وسقط مطر غزير وكان لدي موعد في اليوم التالي للذهاب الى مقر الفوج وفي الساعة الحادية عشر صباحا خرجت من موضعي للذهاب فشاهدت ان كل شيء قد تحول الى طين وكل الممرات ( الخنادق) التي تحت الأرض فيها مياه الامطار واتصلت بالسرية التي خلفنا لكي يفتحوا الطريق من بداية النفق من جهتهم فاخبرني المقاتل الذي في الجهة الثانية بان مياه الامطار قد جرفت عدد من الألغام الى داخل الخنادق التي نمر بها للوصول اليهم وقال لي لا تمشي في الخندق وامشي منحني الراس فوق الأرض بجانب الساتر الترابي فأخذت نصيحته ومشيت منخفض الرأس بجانب الساتر حتى لا يراني القناص و كان امامي احد المقاتلين يحمل معه قزان لجلب طعام الغداء يمشي معي في نفس الاتجاه وخلفي اثنين من المقاتلين مشينا مسافة لا تزيد عن عشرين مترا وفجأة سمعنا صوت اطلاق المدفع 106ملم باتجاهنا فرميت نفسي بجاني الساتر الترابي ونزل اثنين من المقاتلين في الخندق والثالث الذي كان خلفي تمدد تحت الساتر الترابي وبسقوط القذيفة سمعنا صوتا عاليا من داخل الخندق حيث نزل المقاتل الذي كان يحمل قزان الاكل الفارغ على لغم بتر قدمه في الحال, وهنا حمدت الله اني سمعت كلام من اخبرني لا امشي في الخنادق لان الامطار قد جرفت الألغام الى الخنادق وتعاونا على سحب المقاتل من داخل الخندق وعلم رفاقنا في الاتجاهين بما حصل فاخذوا برمي العدو بما لديهم من أسلحة لمشاغله العدو لنتمكن من سحب المقاتل الذي بترت قدمه باللغم الأرضي الى الاسعاف.
كانت تلك الحادثة صدمة لي فلو نزلت الى الخندق بشكل لا ارادي لبترت ساقي انا كذلك لكن الله قد كتب لي حياة جديدة, توالت الأيام وانا حزين على ذلك المقاتل واخذ الهدوء يسود الجبهة وخف كثيرا القصف المدفعي لكن القناصين زاد نشاطهم حتى عندما كنا نذهب الى الاجازة في بغداد نسمع اغنية يرددها الشباب في الشارع وهي : دنك يا حلو لا يضربك القناص وكلمة دنك باللهجة الشعبية العراقية تعني احني راسك وكنا نتمازح دوما ونحن في الجبهة ونرددها كثيرا الى ان جاء ذلك اليوم الذي كنت عائدا من الجهة اليسرى للسرية باتجاه موضعي فتعبت من المسير فجلست مع زميل لي على حافة صخرة في ارض منخفضة واخذنا نتحادث وفجأة وبدون سابق انذار سمعت صوتا هائلا يصم اذني وشعرت بدوار كبير وقد انشلت حركتي ولا اعرف ماذا افعل فقام زميلي بسحبي من يدي ورمى بي على الأرض وقال لي سلامتك اجلس ولم اعرف في البداية ماذا حصل وبعد خمس دقائق علمت بان قناصا إيرانيا قد ضربني في راسي فأصاب الخوذة الهتلرية التي لم تتأثر وقد انبعجت قليلا لكن الارتطام اصدر صوتا طن في اذني وحرك الخوذة بالاتجاه الاخر وفقدت فيها توازني, حمدت الله كثيرا وقرات بعضا من القران الكريم وحمدت الله على ارتدائي تلك الخوذة التي لولاها لاخترقت رصاصة القناص راسي كما كانت تفعل في الخوذ الرومانية المصنوعة من الفايبر كلاس.
لقد نسيت تلك الحادثة التي كانت سنة 1983 وقد مر عليها أربعين عاما وفي الأسبوع الماضي كنت في زيارة الى إيطاليا وفي مدينة نوالة الصغيرة الواقعة في ضواحي مدينة فينيسيا في مساء يوم الاحد 6-10-2024 تعشيت في مطعم إيطالي جميل جدا مأكولات بحرية على الطريقة الإيطالية والمطعم كان مزدحم واصوات الناس تختلط مع اغنية إيطالية جميله وبعد الانتهاء من الاكل تجولت في المطعم وقد اثار انتباهي الأشياء القديمة الموضوعة على الرفوف بعناية فائقة الى ان جاءت اللحظة الحاسمة التي رأيت فيها الخوذة الهتلرية على رف جميل الى جانب جهاز غرامفون قديم جدا, فارتديتها بطريقة لا ارادية واخذت صور وانا ارتديها فرحا بها كأنها صديق قديم كان قد انقذ حياتي, رجعت للبيت وبقيت طول الليلي استذكر قصة الخوذة الهتلرية التي رفض الجميع اخذها لبشاعة منظرها ولثقلها وقد اقذتني من الموت. وقرر ان اكتب قصتي معها بعد عودي الى المانيا وقد كتبتها اليوم بسرعة لم اتوقعها.
9-10-2024
بسام شكري
835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع