د. علي محمد فخرو
الديموقراطية الاجتماعية في الحداثة العربية
في مقال الأسبوع الماضي حذّرنا من الدخول في بعض المماحكات التي يثيرها البعض حول الديموقراطية تارة باسم شعار الشورى وتارة باسم شعار العلمانية وتارة باسم شعار عدم استعداد العرب للتعايش مع متطلباتها وغيرها كثير وعبثي إلى أبعد الحدود.
ما يهم ليس هذه المعركة أو تلك وإنما الاتفاق على الأسس والمحتويات ونظم التطبيقات والأهداف للديموقراطية التي نتكلم عنها ونتمسك بها.
أولاً – هناك ضرورة لاعتبار الديموقراطية جزءاً وجودياً وضرورياً من مكونات الحداثة العربية. ما عاد مقبولاً تأجيل تطبيقها أو التلاعب بأسسها بسبب أية مبرّرات أو ظروف، كما فعلنا في الماضي القريب. إنها حقّ عام، وليس تفضّلاً أو منّة من أية جهة كانت، من أجل أن تشارك الشعوب والمجتمعات في اتخاذ القرارات العامة وتقرير المصير المشترك بحرية ودون عوائق مصطنعة، والتي بدونها لا يمكن بناء توازن موضوعي تعاضدي في ما بين مؤسسات المجتمعات ومؤسسات الحكم.
من هنا المساواة التامة في ما بين الديموقراطية وبقية مكونات المشروع النهضوي العربي.
ثانياً – إن الديموقراطية هي منهجية ونظام حكم شامل غير قابل للحذف والانتقاء والتشويه. إنها تنظم وتحمي جميع أنواع الحريات الفردية والجمعية بما فيها حريات الفكر والتعبير والنشر والتنظيم المدني والعقيدية الدينية، وبالتالي التعددية الدينية والسياسية والثقافية، وهي تشجّع وتحمي نشاطات وتفاعلات التعددية السياسية وأحزابها، وبالتالي ترفض بقوة فكرة الحزب القائد والزعيم الأبوي الملهم، وهي لا تكتمل إلا بنظام تمثيلي دستوري شرعي نزيه وشفّاف وقابل للمساءلة والمحاسبة يؤدي إلى فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وإلى تداول سلمي للسلطة تنظّمه القوانين والدساتير الشرعية، وأخيراً هي نظام يخضع لمعايير القيم الإنسانية والأخلاقية وعلى الأخص فضائل العدالة بكل أنواعها وصيغها والتسامح والتعايش السلمي مع المواطن الآخر.
وإن أي مساس بأي من تلك المكونات والشروط سيجعل الديموقراطية ناقصة وعرجاء. ولقد أثبتت تجارب الكثير من مجتمعات العالم عبر العديد من القرون أن التهاون مع تواجد تلك المكونات والشروط قد أدى إلى أشكال من الفشل للكثير من التجارب الديموقراطية، وها أننا نعيش حالياً في زمن مراجعات عميقة وجذرية للموضوع الديموقراطي برمّته وخصوصاً في دول الغرب العريقة في تجاربها الديموقراطية.
إنهم يتحدثون عن الانتقال من الفردية المنفلتة إلى فردية اجتماعية متوازنة، عن استبعاد لحق الملكية الخاصة من قائمة الحريات الأساسية مثلما يقترح الفيلسوف الأميركي جون رولز، والرجوع إلى إعطاء أهمية للملكية العامة، وعن إضافة آليات جديدة للديموقراطية من مثل بناء مجالس محلية منتخبة وبسلطات تشريعية وإدارية كبيرة، وعن إدماج تفاعلي تعاضدي للأفكار الماركسية مع الأفكار الليبرالية، وعن رفض للتشوهات القيمية والأخلاقية الأخيرة في الحياة السياسية والممارسات الثقافية في الآونة الأخيرة.
وإنها اذن لفرصة أمام الجميع للمساهمة في وضع التصورات الإصلاحية الجديدة للديموقراطية، وعدم ترك الأمر كله، كما حدث في السابق، في يد ما يسمى بدول وقوى المركز لتضع لوحدها صورة الديموقراطية الجديدة وفرضها على العالم كله.
ويهمّنا أن يقتنع شباب وشابات الأمة العربية بأن العالم لم يستقر عبر القرون الثلاثة الماضية على ممارسة واحدة متماثلة للديموقراطية، فكانت مثلاً الممارسة في بلد كالسويد أو الدنمارك مختلفة إلى حدود بعيدة عن الممارسة في الولايات المتحدة الأميركية، وبالطبع كانت الممارسة الماركسية اللينينية للديموقراطية مختلفة جذرياً عن الممارسة الليبرالية، واليوم لا يمكن الحديث عن مماثلة الممارسة الديموقراطية في الصين بالممارسة في فرنسا، وبصورة دائمة ظلّت الممارسة الديموقراطية في الجنوب الأميركي لها طابعها المتميّز الخاص بها.
المهم أن تدرك شابات ويدرك شباب المستقبل أنه لا يمكن الحديث عن بناء حداثة عربية ذاتية نديّة متميزة ومتفاعلة مع حداثات الآخرين دون أن تحتل الديموقراطية جزءاً بارزاً من مكوناتها، وأصبح نشر الإيمان بالضرورة الوجودية للديموقراطية في المستقبل العربي لكي تكون الديموقراطية جزءاً أساسياً من ثقافة الجماهير العامة من مسؤوليات المثقفين والمفكرين والأساتذة والآباء والأمهات والمناضلين العضوية الملتزمة التي لا تتوقف ولا تتراجع.
457 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع