د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
11/11/2024
١٢قاصفة أمريكية بي-٥٢ في الشرق الأوسط!! ما ذا تعني؟؟
تمهيد
12 قاصفة أمريكية عملاقة من طراز B-52 هبطت 6 منها في قاعدة العديد الجوية في دولة قطَر، والستة الأخريات في الطريق إليها في غضون أيام... ولما تحدثت عنها في البعض من اللقاءات التلفازية، فوجئتُ بأن البعض من غير المطلعين على مواصفاتها وإمكاناتها وقدراتها وحمولاتها، تطوراتها والحقائق المتاحة عنها بدأوا يلومونني ويستخفون بي، بل وأن عدداً منهم إتهمني -جرياً على الأساليب الرخيصة المتصاعدة في هذه الأيام- بإعلاء شأن الولايات المتحدة الأمريكية والدعاية لها وإحباط معنويات المؤيدين للكفاح المسلّح في هذا الجانب أو ذاك من المتابعين للأحداث الخطيرة التي تعمّ منطقتنا الملتهبة بنيرانُها المُحرِقة منذ 13 شهراً ولغاية يومنا هذا، يقابلهم سادة متابعون ومُقَدِّرون لمجريات الأمور ومآسيها واضعين أيديَهُم على صدورهم جراء التهديدات النارية المتبادلة بين الكيان الصهيوني وربيبتها أمريكا وعموم دول الغرب، وبين إيران وأتباعها ومؤيديها بشكل غير مسبوق في تأريخ المنطقة، إلى جانب نُذُر الشؤم التي تغطي أوطاننا وشعوبنا للنتائج الكارثية جراء هذه التطورات المُخيفة ومهالِكِها ومحارقها.
لذلك قررت أن أضع هذه المقالة عن هذه القاصفات الستراتيجية المُرعبة أمام ناظرَي المتابعين السلبيين قبل الإيجابيين، لمجرد العلم بالشيء ولا الجهل به.
القاصفة B-52 البِكر
تعتبر الأولى في تأريخ الطيران الحربي من حيث كونها مزوّدة بـ8 محركات نفاثة ضخمة، وهي من سجلت رقماً قياسياً عالمياً في كونها الأطول، الأعرض، الأعلى إرتفاعاً، الأغلى سعراً، الأثقل حمولة بالقنابل والمقذوفات، والأبعد مدىُ من عموم الطائرات.
محطات في عمر B-52
النموذج التجريبي لهذه الطائرة عرضته مصانع شركة "بويِنْك BOEING" وفقاً لما أرادها قادة القوات الجوية الأمريكية قبل 72 سنة، والذي حلّق للمرة الأولى في تحليق إستعراضي يوم 15 نيسان 1952.. ولكن النموذج المُحسّن الذي قرروا إقتناءَه أُدخِل في الخدمة الفعلية عام 1955، لتكون القاصفة B-52 العلامة A التي إصطفّت إلى جانب المئات من القاصفات القديمة العملاقة، والتي كانت مزودة بمحركات مروحية من مخلّفات الحرب العالمية الثانية... ذلك النموذج الذي أضحى تحت إمرة قيادة القوة الجوية الستراتيجية S.A.C (STRATAGIC AIR COMMAND) لأغراض القصف الثقيل بعيد المدى، سواءً بالقنابل الإعتيادية أو النووية بعد أن برزت الولايات المتحدة بمثابة قطب عالمي وزعيمة لحلف N.A.T.O سنة 1949، قبالة الإتحاد السوفييتي قائد الكتلة الإشتراكية زعيم حلف "وارشو" سنة 1955.
يومان من الطيران المستمر
للمرة الأولى في تأريخ الطيران كُلّف النموذج المُحَسّن B-52-B بتحليق مستمر حول محيط الكرة الأرضية من دون هبوط في أية قاعدة جوية أو مطار، فطوى مسافة 39.147 كيلومتراً في غضون 47 ساعة و19 دقيقة خلال شهر كانون الثاني 1957، أجرى خلاله عدة إرضاعات بالوقود جواً من طائرات صهريج مصاحبة.
عدد غير مسبوق من القاصفات
في عام 1962 أضحى العدد العامل من هذه القاصفات لدى قيادة القوة الجوية الستراتيجية 744 قاصفة من مختلف العلامات، مع تطويرات متعاقبة ظاهرة وباطِنة أجرتها مصانع "بوينك" في العديد من أجزائها، وبذلك تحسّنَ أداؤها وطوّرت قدراتها بفضل أجهزة ملاحة لمختلف الأجواء المضطربة وتحديدات الرؤية البشرية في الإرتفاعات المنخفضة والشاهقة، إلى جانب رادارات ترتبط بكومبيوترات ترتبط مع الأقمار الصناعية وطائرات الإستطلاع الإختصاصية وطائرات AWACS، إلى جانب تبديل محركاتها النفاثة بأُخرَيات أكفأ وذات قدرات أفضل لدرء الأخطار وتحقيق سرعات وقابليات بالحمولات القصوى من القنابل والمقذوفات الأثقل وزناً والأعظم تدميراً، ناهيك عن إضافة العديد من نقاط تعليق تحت الجناحين وأسفل البدن لحمل مقذوفات وصواريخ أحدث وأقوى، ومضاعفة المدى عن طريق التزوّد بالوقود جواً من طائرات الصهريج، ومن دون أن تهبط في مطار أو قاعدة جوية ينبغي أن تكون مواصفاتها ملائمة لتحمّل الثقل الهائل لهذا العملاق.
أجيال متعاقبة من B-52
بدءاً من العلامة A الأساس ثم B والمتسلسلة لغاية العلامة G، حتى تبعتها العلامة H الأعظم تطوراً، وهي النموذج الأفضل المعتَمَد عليه بمثابة قاصفة ستراتيجية سجّلت رقماً قياسياً من حيث كونها الطائرة الأطول عمراً في تأريخ القاصفات العملاقة، والذي ناهز 72 سنة لحد يومنا الراهن، وما زالت تعمل بكفاءة 100%، وستستمر حسب المقرر لغاية سنة 2030، إنْ لم يتم تمديد أعمارها مجدداً بواقع 10-20 سنة أخرى، كما هو متوقع، وإلى حين إحلال قاصفات الشبح العملاقة الأحدث B-2" سبيريت" المتعاقَد عليها تباعاً محل ذات العدد من القاصفات B-52 القديمة نسبياً والتي ستُحال على التقاعد وتُنقَل بكل إحترام وسط مقبرة الطائرات بولاية "أريزونا" التي تضمّ 4000 طائرة متنوعة قديمة أو متضررة... ولربما يُستعاض عنها بقاصفات شبح B-21 الأحدث إذا ما تقرر شراؤها.
بضع عشرات من القاصفاتB-52 المحالة على التقاعد وقد أودِعت إلى مثواها الأخير وسط مقبرة الطائرات الأمريكية في ولاية "آريزونا".
ميادين الحروب التي إشتركت فيها
• حرب فييتنام (1965-1975).
• حرب كوسوفو (1998-1999).
• الحرب على العراق لإخراجه من الكويت (16/1- 28/2/1991):- إضافة لعشرات الآلاف من القصفات الجوية الأمريكية والتحالفية على عموم العراق بإستثمار المقاتلات/هجوم أرضي والهليكوبترات المسلحة، فقد بلغ عدد طلعات الـB-52 لوحدها (1.624) طلعة جوية منطلقة من قواعد بريطانية وإسبانية وتركية وعربية خليجية، وكذلك من قاعدة "دييغو غارسيا" وسط المحيط الهندي.. وقد أسقطت القاصفات B-52 لوحدها ما مجموعه (6.829) طناً من مختلف أوزان القنابل شديدة الإنفجار غير الذكية على القوات العراقية المتخندقة في أرض الكويت، وكذلك على التشكيلات البرية المنفتحة للدفاع الموضعي والهجوم المقابل المزمع في الداخل العراقي.. إلى جانب إطلاقها المئات من مقذوفات كروز "توما هوك" ذات المديات البعيدة والمتوسطة على أهداف ستراتيجية في بغداد وعموم العراق، والتي أُستُخدمت للمرة الأولى في حرب حقيقية.
• حرب الإجهاز على العراق وتدميره وحرقه (19/3- 9/4/2003).
• حرب تدمير مدن العراق الغربية بحجة القضاء على "د.ا.ع.ش" (2014-2017).
صورة لإحدى القاصفات B-52 وهي تُسقِط حزمة بسيطة من قنابلها شديدة الإنفجار الصغيرة نسبياً على مدينة الموصل العراقية بحجة (تحريرها) من تنظيم د.ا.ع.ش الإرهابي (2017).
القاصفة المعتمدة الأحدث B-52-H
أرجو أن يعذرني المتابع الكريم لهذه الإطالة ، فمن عِظَم عشقي للطيران فأني لا أشبع من الخوض في تفاصيله... لذلك فلنترك العلامات السبع السابقات A D C B E F G ونقفز إلى الجيل الثامن ذي "العلامة H" من هذه القاصفة، والذي سيشتمله موضوع بحثنا عن 12 قاصفة بعثتها الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط في هذه الأيام المضطربة في عموم منطقتنا التي تغلي بالدماء والأرواح، مثلما كانت أحوالها طوال التأريخ منذ إنبثاق باكورة الحضارات في وادي الرافدين التي توالت آلاف السنوات حتى بلغنا القرن 21.... وما زال الحبل على الجرار.
صورة للقاصفة B-52-H تحديداً، وهي صاحبة العلامة الأحدث بين أجيالها.
وإليكم نظرة مختصرة على الـ" B-52-H" -المسماة بالقلعة الطائرة- وأهمّ قدراتها:-
• النوع:- قاصفة ستراتيجية ثقيلة وبعيدة المدى.
• الطائفة:- 5 أشخاص:- "طيار، معاون طيار، ضابط مَلاّح، ضابط حرب ألكترونية وتشويش، ضابط قاصف".
• القوة الدافعة:- 8 محركات نفاثة ضخمة.
• السرعة القصوى:- 958 كلم/ساعة بإرتفاع 3.000 متر (حوالي 10.000 قدم) فوق سطح البحر.
• المدى الأقصى بحمولة كاملة:- 16.000 كلم.
• سقف الإرتفاع:- حوالي 17 كلم (55.000 قدم) فوق سطح البحر.
• الأوزان:- وزن الطائرة الفارغة 139 طن... وزنها بحمولة قصوى من الوقود والمقذوفات 229 طن.
• الأبعاد:- المسافة بين طرفي الجناحين:- 56 متر... إرتفاع الدَفّة: 12.5 متر... الطول الكلّي:- 49 متر.
• التسليح الثابت:- 4 مدافع رشاشة عيار 20 ملم مثبتة في ذيل الطائرة، تُدار رادارياً لدرء الأخطار بواقع 170 درجة إلى جميع الإتجاهات عند تقرّب أي جسم طائر مُعادٍ منها.
الحمولات القصوى للقاصفة B-52 H
81.5 طن من القنابل الإعتيادية حرة السقوط شديدة الإنفجار بأوزان متنوعة حسب الحاجة.
أو 20 مقذوفة كروز جو- أرض "توما هوك" متنوعة، مداها الأقصى 2.500 كلم.
أو 4-6 قنابل ثقيلة للغاية من طراز "أم القنابل" مختلفة الأوزان.
أو 4- 6 قنابل نووية مختلفة القدرات والأنواع.
عرض للحمولة الكاملة من القنابل والمقذوفات التي يمكن أن تُحَمَّل في جوف قاصفة B-52 H واحدة.
مجموع الحمولات للطلعة الواحدة
وإذا إستعرضنا مجاميع الحمولات التي يمكن -بالطلعة الواحدة- أن تسقطها أو تقذفها 12 قاصفة B-52-H، فهي:-
• إما إسقاط (1012) طن من القنابل شديدة الإنفجار غير الموجهة بأوزان متنوعة وأغراض متباينة.
• أو (240) مقذوفة كروز جو- أرض مُسَيّرة لمسافات أقصاها 2500 كلم.
• أو (48-72) قنبلة "أم القنابل" مختلفة الأوزان خارقة للأعماق بواقع 60 متر تحت سطح الأرض في أصلب الأراضي.
• أو 48-72 قنبلة نووية مختلفة القدرات والأنواع والأغراض.
أما إذا علمنا أن إعادة تركيب كامل الأعتدة والأسلحة بهذه القاصفات من الداخل وتحت الجناحَين، تتطلّب وقتاً يتراوح ما بين 3-4 ساعات بعد العودة من كل طلعة إستغرقت ساعتين على سبيل المثال، فإن بإقتدار هذه القاصفات إسقاط أو قذف 4-5 أضعاف كميات الحمولات التي ذكرناها في غضون 24 ساعة.
الإستنتاج
بعد هذا الفرش السريع والمناقشة البسيطة، فمن المستغرب أن يستخفّ البعض ممن يناقشونني وينتقدونني ويُبَسِّطون موضوعة تمركز 12 قاصفة من طراز B-52-H في منطقة الخليج العربي، وعلى بعد حوالي 250 كيلومتراً من السواحل الإيرانية المطلّة على مياه هذا الخليج ويقلّلون من أهمية هذه الخطوة الأمريكية، ويعتبرونها مجرد 12 طائرة قد تُسقَط بلمسة على زرّ مقذوفات دفاع جوي إيرانية، ولا ينظرون نحوها وكأن أيُّ منها قلعة طائرة لا تمتلكها سوى الولايات المتحدة الأمريكية!!!!!
وفي حين لا يمكن التأكيد أن غاية الولايات المتحدة الأمريكية من تموضع هذه القاصفات العملاقة والمتمتعة بهكذا قدرات، هي لأغراض الردع والحرب النفسية والتخويف ليس إلاّ.... ولكن الحكمة تقول:- "إن كان عدوّك فأراً فأحسبه أسداً" وإستحضر له وفقاً لمخاطر الإحتمال الأسوأ.
لذلك ينبغي أن نضع أمام أنظارنا وفي أذهاننا، أنها ربما أتت كأداة ضرب مُبرِح عند تصاعد الأمور بين الكيان الصهيوني وجمهورية إيران الإسلامية نحو المواجهة المباشرة بشكل أضرس مما نحن عليه في هذه الأيام، لا سيّما وأن "واشنطن" تقول بصراحة متناهية أن من أعظم أولوياتها هو الحفاظ على "إسرائيل" إن داهمتها أية أخطار.
لذلك فعلى قادة "طهران" السياسيين والعسكريين والحرس الثوري وكذلك أتباعهم من زعماء الفصائل المسلحة لمحور المقاومة، أن يحسبوا ويتحسّبوا لدرء مخاطر هذه القاصفات على أرض دولتهم وسمائها وبحارها وبُناها التحتية، ليكونوا حراساً لأرواح جنودهم وأبناء شعبهم ومواطنيهم وعمران بلدهم الذي تعب عليه آباؤهم وأجداد أجدادهم، وتعبوا عليه بشخوصهم منذ 1979 ولغاية وقتنا القائم.
وفي الختام نقول أن:- الإكتراث وتقدير الموقف المُعمّق والصادق ليس عيباً وضعفاً، بل هو السبيل الأفضل للحفاظ على الوطن والشعب والجيش والقوات المسلحة من أن تصيبها مصائب شبيهة بالتي وقع العراق في أتونها سنة 1991 ثم 2003 المشؤومتين جراء الغرور وإنعدام الواقعية، وذلك حتى لو تجرّع القادة كؤوس السُمّ العُجاف.
916 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع