مَنْ حُلِقَتْ لحْيَةَ جَارِهِ فليسْكُبِ المَاءَ على لحيته
بقلم سمير الصميدعي
سفير حاليا، وزير الداخلية الأسبق
الهجوم الشرس الذي وقع في أوائل هذا الشهر على نوادي المسيحيين وغيرهم بحجة تطهيرها من المشروبات الكحولية وقرار أحد مدراء الشرطة في مدينة الكاظمية بمنع دخول المواطنات اليها الا إذا ارتدين الحجاب، من الأمور التي لا يجوز السكوت عنها، لا بسبب الدفاع عن الذين يتعاطون الخمور أو لتفضيل زيّ السافرة على زيّ المحجّبة وإنما للدفاع عن جميع الحريات التي هي حق دستوري مكفول للجميع لا ينبغي التهاون أو التفريط به.
ألعراق ليس بيشاور وبغداد ليست قندهار والشعب العراقي منذ القدم وباستثناء فترات محددة قد اعتاد على تعايش الأضداد بلا تضييق ولا تكفير ولا تحقير، والشواهد على ذلك لا تعد ولاتحصى من خمريات أبي نؤاس إلى ديوان الجواهري أذكر منها مثلاً ما أخبرنا عنه القاسم بن علي الحريري في القرن الثاني عشر في إحدى مقاماته وهو يصف البصرة والحياة فيها إذ قال:
"رأيت بها ما يملأ العينَ قُرّةً ويُسلّي عن الأوطانِ كلَّ غريب
بها مــا شِــئت من دينٍ ودنيـــا وجيرانٍ تنــافَـوا في المعـاني
وكــم من مَعلـَـمٍ للعـــلمِ فيهــــا ونــادٍ للنـدى حُلـوِ الـــمجـاني
فَصِلْ إن شئت فيها من يُصلّي وإمّـا شــئتَ فادنُ من الدنــانِ"
والآن وبعد قرابة الألف عام تظهر فينا سلفية متزمتة بألوان شتى لم يعهدها هذا المجتمع ولسوف يرفضها بشقيها السني والشيعي ليعود الى طبيعته متسامحا يحترم الدين بل الأديان ويرفع قدر المتديّن قناعةً لا رياءً ويترك للناس خياراتها من المأكل والملبس والمشرب والمعتقد إذا ما مارسوها وفق القانون.
والشعب العراقي، وقد ذاق الأمرين من الدكتاتورية والاستبداد، لا يريد الإبتلاء بها مرة أخرى،ولكن ما الذي يضمن ذلك؟
فقد هيأ لنا التدخل الأمريكي الخلاص من الدكتاتور، لكنه لم يستطع تخليصنا من العقلية الاستبدادية الشمولية التي تعشعش في أدمغة الكثيرين ممن ارتقوا إلى أركان السلطة، وهم الآن يتحكمون في حياة الناس.
لذلك علينا أن نبني وضعنا الجديد ونقوّمه على أسس من شأنها أن تمنع الإنتكاس إلى الشمولية، ولن يكون ذلك إلا بالإصرار على تطبيق الدستور والقانون من حيث النص والروح والإحتكام اليهما وإخضاع الجميع لأحكامهما (على علاتها حتى يمكن إصلاحها) لا قولاً بل فعلا. وهذا يقتضي إقامة دعاوى قضائية ضد الجهاز الذي اقترف ذلك الإعتداء والمسؤول الذي أمر بهذا التجاوز وغيرهما من الإعتداءات والتجاوزات مثل الهجمة الجديدة على بائعي الكتب في شارع المتنبي، فإن كان الجاني مجهولاً تقام الدعوى على الجهة المسؤولة عنه، مهما كانت رفيعة في سلم السلطة. فإن قام القضاء بواجبه فهو خير على خير، وإن خضع للسلطة التي ينبغي محاسبتها ورضخ لها انكشـف ذلك للملأ وساعد في زيادة الوعي بضرورة الإصلاح.
ومن المفاهيم التي يجب أن نعيها لصيانة حرياتنا أن الإنتخابات وحدها لا تعني الحرية والديمقراطية. هناك شروط أخرى منها:
إن الحكومة لا يحق لها باسم الأغلبية التجاوز على ما كفله الدستورلكل مواطن من حريات وإلا صارت دكتاتورية الأكثرية وهذه غالبا ما تنزلق إلى الدكتاتورية المطلقة فالضامن للحريات هو القانون فإذا امتُهن امتُهن سواد المجتمع.
ونحن نراه يُمتهن كل يوم من سلطة تسمي نفسها "دولة القانون" وهذه مفارقة مضحكة مبكية. وما الإعتداءات التي أشرنا إليها إلا حلقات جديدة في مسلسل أصبح واضحا، مسلسل التضييق المتزايد والإذلال والإكراه وفق أيديولوجية شمولية هي في أحسن الإفتراضات دكتاتورية الأغلبية وليست ديمقراطية، وفي أسوأ الإفتراضات مصادرة للحريات وتجاوز صارخ على الدستور وعلى القانون وتمهيد للإنزلاق إلى دكتاتورية شاملة غاشمة تمعن كسابقتها في تدمير البلد وجره مكبلا إلى العصور المظلمة.
ونذكر هنا ما تناقلته الأخبار عن قول أحدهم في وزارة الصحة " أنا لا يهمني القانون. الذي يهمني هو الشرع" وفاته أنه موظف في الدولة وفق القانون يستلم راتبه وفق القانون ومسؤولياته يحددها القانون (الذي يفترض فيه أن لا يكون مناقضا للشرع أصلا) فإذا رأى في عمله وفق القانون ما يناقض الشرع حسب فهمه وتفسيره وأراد الإلتزام بالشرع عليه أن يستقيل من عمله ويتركه وينصرف إلى خدمة في مسجد أو ما شابه لأنه لا يمارس سلطته في وزارة الصحة بتفويض إلهي وإنما بتفويض قانوني من القانون الذي يحتكم إليه المسلم والمسيحي والصابئي وغيرهم.
كذلك فإن حكم القانون واحترامه الصارم هو ضرورة لا لضمان الحقوق والحريات فحسب وإنما لخلق جو من الإطمئنان والإستقرار الذي يشجع على مكافحة الفساد المستشري بغيابه ويقنع اللاجئين بالعودة إلى أوطانهم ومنازلهم من غير خوف ويؤدي إلى توافد المستثمرين ورساميلهم لتشغيلها في بناء البلد وتحريك عجلة الإقتصاد وامتصاص البطالة. أي باختصار فإن حكم القانون هو المفتاح لكل أسباب التقدم والإنتعاش وغيابه أُسّ المفاسد.
وقد يقول قائل إن هذا الكلام مثالي لا ينطبق على وضعنا الحالي في العراق. ومجتمعنا ليس كمجتمع سويسرا وقادة الدولة وأجهزتها بما فيها الأجهزة الأمنية كلهم من هذا المجتمع، فعلينا أن نتوقع إذاً أن سيتغرق تكيّفُ المجتمع لمتطلبات الديمقراطية وقتا طويلا والإصلاح يكون تدريجيا (العافية بالتداريج كما يقول المثل الشعبي).
هناك على هذا ملاحظتان:
الأولى: ليس لدينا أي وهم حول الحال الذي نحن فيه وتداخل وتشابك الأسباب والعوامل المؤدية اليه الداخلية منها والخارجية ولكن لا يمكن الإستسلام وقبول كل شيء بحجة أن "ليس بالإمكان أحسن مما كان".
والثانية: أن ظاهرة الإستهتار بالقانون والصلافة في التجاوز عليه ليست وليدة مجرد التسيب أو سوء التدريب أو عدم الإكتراث وإنما هي تقوم على شبكة معقدة وقوية من المصالح الكبيرة بل الهائلة القائمة على الفساد المالي والإداري وعلى افتراض أن الذين هم خارج دائرة المصالح هذه أو على أطرافها لاحول لهم ولا قوة أغلبهم يتخبطون في مستنقعٍ من الفقر والجهل ويمكن إهمالهم وإذا تململ البعض منهم أُخرِج لهم البعبع الطائفي لإفزاعهم وتحريك عواطفهم وعصبياتهم حتى يعودون إلى الرضوخ بل الدفاع عن التجاوزات عينها، وتسهل تعبئتهم "ديمقراطياً" لإحباط أي تحرك ممن هم أكثر وعيا وأقل عرضة للتحشيد الطائفي. من هنا يتم إنتاج هذا الثالوث المدمر: الفساد والطائفية والإستهتار بالقانون. حصيلة ذلك أننا نتقهقر أو إذا تقدمنا في بعض المضامير يكون تقدمُنا ببطئ لا يمكن أن ندرك معه حتى البلدان النامية التي بدأت انطلاقتها بنشاط. ولا خروج من هذا الدرك السحيق إلا بزيادة الوعي عند الجميع بأن الإصرار على احترام القانون – على علاته وحتى إذا اختلفنا في بعض نصوصه - هو المدخل للخلاص وضمان الأمن والإصلاح والبناء ومن خلال ذلك تحسين ظروف المعيشة والخدمات وعودة البلد إلى عافيته بالتدريج. وعلينا أن نفهم أن ذلك لا يروق لكبار المستفيدين من بقاء الوضع على حاله وهم الآن للأسف شريحة واسعة ذاتُ حولٍ وصَول.
والإصرار على احترام القانون يعني الإصرار على فضح ومحاسبة منتهكيه مهما سمت مراتبهم، جميعهم بلا استثناء وليس الإقتصار على من هناك مصلحة سياسية في محاسبته ومعاقبته والتستر على غيره.
فليعلم الجميع بأنهم إذا وقفوا متفرجين عندما يقع الإعتداء على غيرهم سيأتي دورهم ليكونوا هم الضحية وإن التجاوز على القانون
وإن حصل في الأمور التي تبدو صغيرةً اليوم لسوف يحصل في الأمور الخطيرة غداً
وإن حصل بصورة انتقائية تتماشى مع أهوائنا لسوف يحصل في ما نكره أن عاجلا أم آجلا،
وإن حصل بشكل يدغدغ بعض المشاعر الدينية أو القومية أو العنصرية وصفقنا له أو سكتنا عنه يكون ذلك وبالاً على الكلّ يدفعون ثمنه في أمنهم وأرزاقهم وراحتم وتعليم أولادهم وتطبيب مرضاهم وفي النهاية في كرامتهم وحتى في حياتهم.
وقديماً قالوا: مَن حُلِقتْ لحيةُ جارٍ لهُ فليسكبِ الماءَ على لِحيتِهْ.
842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع