مذكرات الاستاذ امين المميز- الحلقة الأولى

                                       

                              د.رعد العنبكي

     

 مذكرات المرحوم الاستاذ امين المميز رحمه الله/سقوط بغداد

لعل اكثر ايام بغداد اسودادا هي الايام الكائنة بين دخول تركيا الحرب العالمية الاولى سنة ( 1914 ) وبين سقوط بغداد بيد الانكليز في شهر مارت سنة (1917 ) فقد قاست بغداد والبغداديون الامرين في هذه الفترة وخاصة ليلة 10-11 مارت اذ توالت عليها الاهوال والنكبات والفواجع والجوع والقحط والحرمان وشقاء الزمان مما لم تشهد مثله منذ ان اجتاحها هولاكو سنة  ( 1258 ) يوم جعل من رؤوس اهلها جبالا من الجماجم وجعل من نهر دجلة نهرا اسود من كثرة ما رمي فيه من كتب ومخطوطات

   

                               كبار ضباط الجيش العثماني في العراق

اذكر بغداد يوم جند الالاف من خيرة شبابها وارسلوا الى جبهة القفقاس فهلكوا في جبالها وثلوجها ولم يعد لبغداد  ( نفاخ نار )
اذكر بغداد وفي كل بيت يتيم ينتحب وارملة تنوح وثكلى تندب وتلطم لفقدان وحيدها
اذكر بغداد يوم رافقت والدي وانا احمل ( علاكة ) ملئى بالليرات التركية الورقية لنشتري من سوك الموله خانه اوكية شكر او ربع جاي او راس جبن او حفنة تمر او لطعة كيمر
اذكر بغداد يوم رافقت والدتي الى فرن في باب الاغا جوار حمام كجو في يوم من ايام القحط فرايت عشرات النسوة يمددن اذرعهن نحو الفران وباليد الواحدة شهادة من المختار تؤيد عدد افراد العائلة وفي اليد الاخرى ثمن صمونة واحدة للفرد الواحد في اليوم الواحد ولغطهن وعياطهن وتوسلاتهن تطحن القلوب وتصم الاذان
اذكر بغداد يوم امر الوالي خليل باشا بفتح الشارع الذي سمي باسمه (خليل باشا جاده سي ) وعملت المعاول قي هدم دور وحوانيت الحيدرخانة على رؤوس ساكنيها حتى اصبح الصباح كان منظر البيوت واثاثها المبعثرة والدكاكين وبضائعها المتناثرة مشهدا يدمي القلوب ويفتت الاكباد وليس في بغداد من يصغي الى شكواهم وتظلماتهم

    

اذكر بغداد في تلك الليلة المشؤومة ليلة انسحاب الجيش التركي ودخول الجيش البريطاني في( 11- مارت – 1917 ) لما قاسينا محنا واهوالا لم يقاسها شعب من شعوب الارض
اذكر ساعة انفجار مستودع البارود في باب الطلسم عندما اهتزت بغداد من اقصاها الى ادناها
واذكر تلك الساعة الرهيبة التي سمعت فيها ذلك الدوي الهائل فخبات راسي تحت اللحاف وانا ارتجف وارتعد وابكي من هول ما سمعت ظنا مني بان اللحاف سيحميني من الخطر كمااذكرها في تلك الليلة عندما اشتعلت النار في خان الرماح الكبير الواقع في سوق السراي والوهج ينعكس على فناء دارنا فينيرها واذكر الفرهود والفوضى التي رافقت الحريق عندما اخذ الناس يتراكضون وهم يحملون كل ما خف او ثقل حمله من دكاكين وخانات الموله خانه وسوق السراي وسوق البزازين ومخزن الكمرك في المستنصرية
اذكرها لما نادى المنادي بلزوم تسليم المنهوبات خلال بضع ساعات والا تعرض لعقوبة الاعدام كل من عثر بحيازته على شئ منها
اذكرها لما اعلنت السلطات العسكرية لزوم تسليم كل من كان بحيازته سلاح مهما كان نوعه:
تفكه – ورور – بشتاوه – قامه – سيف – خنجر – جنتيانه – اكلك  او اية الة جارحة ويقع تحت طائلة عقوبة الاعدام كل من يعثر في داره على شئ منها واذكر اكدا س الاسلحة مكومة في مدخل دربونة الدنكجية
واذكر صليات الطلقات ودوي المدافع من كل حدب وصوب وكانه يوم الحشر بعضها موجه نحو اهداف عسكرية وبعضها موجه نحو( دوب) الجسر التي هربت من مراسيها جراء العاصفة وان الجيش التركي يصر على اغراقها لئلا تقع بيد الجيش الانكليزي فيعيد بناء الجسر المقطوع لاغراضه العسكرية
واذكر غضبة الطبيعة في تلك الليلة عندما اجتاحت بغداد عاصفة هوجاء لم تشهد مثلها منذ بناها المنصور وحتى يوم الناس ذاك فلم تبق العاصفة ( تيغة) الا وهدمتها ولا سقفا باليا الا واقلعته ولا جينكوالا وطيرته مئات الامتار مولدا تلك القرقعات المخيفة حتى انها اقتلعت منارتي جامع الاصفية من حوضيهما فتناثر الكاشي على ارجاء المنطقة المحيطة بالجامع ومن بينها دارنا فاحتفظت بقطعة منه سنين عديدة للذكرى

                       

اذكر بغداد ليلة السقوط عندما اصر القائد التركي خليل باشا- والضباط والجنود الاتراك مشهورون بعنادهم وثباتهم في اوقات الحروب والمعارك – على عدم اخلاء بغداد ورفض تسليمها الى الانكليز وظلت المناقشة الحادة جارية بين ضباط الاركان وخليل باشا حتى منتصف الليل واهل بغداد يتكرضمون ويتضورون حتى اقتنع خليل باشا بوجهة نظر ضباطه فابرق الى اسطنبول واستلم الجواب بالموافقة واخذ الجيش التركي بالانسحاب
اذكر بغداد ساعة ساد الهرج والمرج والخوف والفوضى بين سكانها واذكر كيف اننا وضعنا وراء باب الدار شئ ثقيل وجد فيها زيادة في الحماية من الفرهود وكيف ان الناس قد تحصنوا في بيوتهم ولم يبق في الشارع غير الحرامية والفرهودجية الذين كنا نراقبهم من الشبابيك يحملون غنائمهم على ظهورهم ويهرولون
وفي صباح اليوم التالي انتشر الانضباط العسكري في الاسواق والطرق وحول المرافق العامة وهداء الوضع قليلا
وبهذا اكتفي على امل تكملة الموضوع في الحلقة القادمة انشاء الله تعالى
ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

878 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع