الوهج يتعاظم تحت رماد المجامر: أزمة الأخلاق تقوض الأسر وتصدّع البيوت

قلم باندان

الوهج يتعاظم تحت رماد المجامر:أزمة الأخلاق تقوض الأسر وتصدّع البيوت

تبدو المدينة المعنية في خطابي بخيرٍ في صورتها النمطية اللامعة: اذ ان الخطباء في يوم الجمعة يتكلمون عن الحور العين وعن مقدار زكاة الفطر، والناشطات ينهمكن في غرس أشجار الأكاسيا في الجزرات الوسطية، ومقاهٍ مكتظّة بالعوائل الهاي، وصالاتُ رياضةٍ الجم تضجّ بحركات الات اللياقة على وقع الموسيقى الرائقة، ومراكزُ تجميلٍ تتبرّج بالضوء الازرق الخافت.
ولكنّ ما تحت السطح انما يحكي حكايات أخرى؛ مجامر نار تعبت من الرماد فلم يعد يقدر على ستر دخانها. خطبٌ تقليديةٌ تستعيد صدى نفسها، ونشاطٌ مدنيٌّ يكتفي بالشعارات، بينما تتآكل الأخلاق وتُقضَم الحشمة وتنسف الاستقامة، وتتهادى قيمُ العِشرة والحياء والمسؤولية على حافة الانهيار. في الكافيهات دخانٌ يملأ الاجواء بدل من أن يملأ المعنى، وفي مراكز التجميل غطاء تجميليٌّ لدواعي ومآرب خفية أعمق، وعلى الشواطئ وفي الحدائق والشقق السفري لهوٌ يورث العطب. تتقدّم إلى الواجهة ظاهرتان فاضحتان: خُلعٌ وتفريق في المحاكم يُستدعى كحلٍّ سريعٍ دون بذل الإصلاح، وزيجاتٌ تنهار في شهورها الأولى تحت ضغوط التوقعات المصقولة على الشاشات وزيف المظاهر وكذبها.
ليس هذا مقالَ ملامةٍ بقدر ما هو محاولةٌ لالتقاط نبض مجتمعٍ يتآكل؛ نضع إصبعنا على الجرح، ونقترح طريقًا إلى ترميم المعنى قبل أن يصير الخراب قدرًا لا رجعة فيه.
ليس في المدينة ما يُفزع أكثر مما يُوجِع. هناك ضجيجٌ مكتومٌ تحت السقوف وخلف الجدران، وشروخٌ دقيقةٌ تتسرّب في جدران البيت الكبير الذي نسمّيه مجتمعًا محليا؛ شروخٌ لا تُرى للوهلة الأولى، لكنها تُضعف الأساس حتى إذا زلزلت الأرض زلزالها، تداعى البنيان من حيث نظنّه متينًا. وفي قلب المشهد يقف خطابٌ دينيٌّ مُعادٌ ومكرر على نحوٍ شكلي، يطارد صدى نفسه ولا يمسك نبض الشارع، ويقف نشاطٌ مدنيٌّ اجتماعي يعتني بالواجهة ويهمل الجرح، حتى صار الخراب يبدأ خفيف الوطأة، ثم يثقل فلا يُبقي ولا يذر. تلك هي النار التي ظلّت طويلًا تحت الرماد، ثم تعبت من التخفي؛ فما عاد الرماد يستر دخاخينها ووهجها، وإذا بالدخان يعلو، يَشي بما تحته من لهبٍ صامت.
تبدأ الحكاية من التفاصيل الصغيرة التي صارت يوميةً إلى حدّ الاعتياد. في الكافيهات، فتياتٌ في عمر البلوغ يجرّبن إطفاء عطش الروح بقدَح نارجيلة، فتزداد الروح تيهًا. وعلى مراكز التجميل الخاصة وتنظيف البشرة و”البكيني”، تتردّد نساءٌ في الأربعين، منهن الأرامل ومنهن العازبات، بحثًا عن خلاصٍ سريعٍ من وحدةٍ طاحنة أو فراغٍ وجوديٍّ قاسٍ، فيتحوّل الجسد إلى سِتارٍ شفيفٍ يُخفي ما لا يقدر القلب على قوله. وعلى الشواطئ والحدائق العامة، وفي بعض الشقق المستأجرة، يتكاثر لهوٌ لا يورث إلا العطب، وتنساب المخدرات بين اليافعين كالسُّمّ البطيء، فيما تتمدّد ظواهر الابتزاز الإلكتروني حتى يصير الهاتفُ قيدًا في اليد لا نافذةً على العالم. وفي صالات “الجِم” قوامٌ يُنحت، لكنّ إرادةً تضيع، إذ تُستبدل المعاني العميقة بصورةٍ مصقولةٍ تُقاوِم الغياب أكثر مما تُحقّق الحضور.
الأخطر هو أنَّ خلل القيم تسلّل إلى صميم الأسرة. فها هي بعض الزوجات يضقن ذرعًا باستقامة أزواجهنّ وحشمتهم، لا عن قهرٍ أو ظلمٍ، بل عن ضجرٍ مغلَّفٍ بذريعة “التحرر”. وها هو الخُلع يشق طريقه في المحاكم شيوعًا لافتًا، ليس كرحمةٍ تُنقذ من أذًى لا يُحتمل، بل كحلٍّ سريعٍ يُستدعى قبل أن تُستنفد محاولات الإصلاح الجاد. وعلى الضفّة الأخرى، تنهار زيجاتٌ حديثةٌ في شهورها الأولى: زفافٌ صاخبٌ على الشاشات، وصورةٌ مبهرةٌ تُعانق الضوء، ثم ما يلبث أن ينكشف الوَهْم أمام أول احتكاكٍ بتفاصيل المطبخ وفواتير آخر الشهر، وأمام أول اختلافٍ في الطباع، أو أول سوء تفاهمٍ لم يُمنح حقّه من الإصغاء.
لسنا هنا بصدد التوبيخ أو التجريم؛ فمن وراء هذه الظواهر وجوهٌ بشريةٌ مُتعَبة، وتاريخٌ من الخيبات الصغيرة المتراكمة. غير أن الواجب يقتضي أن نُسمّي الأشياء بأسمائها: نحن مجتمعٌ يفقد بوصلة التوازن؛ تُزاح القيم الهادئة أمام نزعات الاستهلاك العاجل، ويُستبدل الحوارُ بالإلغاء، والصبرُ بالملل، والمسؤوليةُ بالنزق. البيتُ الذي كان مدرسةَ الصبر ومصنعَ الألفة صار، عند غير قليلين، تجربةً مخبريةً تُرمى نتائجها إن خالفت التوقعات.
لماذا نخسر البيوت بهذه السرعة؟ لأنّ التعارف الحقيقي يُؤجَّل عند كثيرين إلى ما بعد العقد، مع أنه روح العقد وشرطه؛ ولأننا نخلط بين الحبّ ورفاهية المشهد، فنظنّ صورةَ الزفاف حياة، وننسى أن الحياة بناءٌ يوميٌّ شاق. ولأنّ القطيعة أسهل من تعلّم فنون الخلاف: الإصغاء الذي يُنقِّي، والاعتذار الذي يُرمّم، والاتفاق المرحلي الذي يشتري الوقت كي لا نخسر الكلّ. ولأنّ قسمًا من خطابنا الديني والثقافي اكتفى بالوعظ المجرّد، فلم يُعلّمنا مهارات العِشرة: كيف نضع ميزانيةً بلا قسوة، وكيف نُدير الغيرة بلا إذلال، وكيف نتفاوض من غير كِسرٍ ولا كِبر. ثم جاءت الشاشاتُ بحيواتٍ مصقولةٍ تُعرَض على مدار الساعة، فصنعت توقعاتٍ غير واقعية تصطدم بأرض المطبخ، وبعرق العمل، وبالاختلاف الذي هو ناموسُ البشر.
أمّا الخُلع والتفريق، فهو في أصله بابُ رحمةٍ عظيم، لكنّه ينقلب نقمةً حين يُستدعى بغير بَذلٍ صادقٍ للإصلاح، أو يُستخدم سلاحَ ابتزاز، أو يُتَّخذ سُلّمًا لـ”تحقيق الذات” على حساب ميثاقٍ غليظ. ليست الحريةُ خصومةً مع المسؤولية، ولا التحررُ خصومةً مع العِشرة. بين زوجٍ مستقيمٍ لا يُحسن التعبير عن مودّته، وزوجةٍ تؤذيها الصمتُ فتقرأه نفورًا، تضيع بيوتٌ كان يكفيها قليلٌ من مهارات التواصل ووساطةٌ عاقلةٌ تحفظ الوجوه.
وفي الخلفية، تتكاثر أشكالُ التيه: شبابٌ اختلطت عليهم الهويّاتُ حتى مالت نفوسٌ إلى الجنس ذاته، ومراهقون وقعوا في حبال ابتزازٍ رقميٍّ يُسقط الكرامةَ بضغطة زرّ، وعلاقاتٌ عابرةٌ تُطفئ نور الفطرة على الشواطئ، ومخدراتٌ تُغري اليافعَ بفرارٍ قصيرٍ ينتهي بأَسْرٍ طويل. ليست هذه مجرد “حالات”، بل منظومة إشاراتٍ متساندة: مراكزُ تجميلٍ تتورّم بوظائف تتجاوز العناية إلى تعميةٍ عن السؤال الداخلي، كافيهاتٌ تتحول إلى غرف انتظارٍ للفراغ، صالاتُ رياضةٍ تعيد تشكيل الجسد وتعرضه لمن يشتري وتُهمِل بنية الروح، شققٌ مستأجرةٌ تُدار كما تُدار الصفقات لا العلاقات، وحدائقُ عامةٌ يغيب عنها الذوق العام فلا يعود المكانُ مكانًا للناس بل للضجيج.
فماذا نصنع؟ إنّ الاستجابة التي تليق بالخطر ينبغي أن تكون أوسع من خطبةٍ وأعمق من حملةٍ عابرة. نحتاج أولًا إلى إعادة تعليم الفضيلة بلغةٍ معاصرة: العفّةُ ليست تحجّرًا، والاستقامةُ ليست جفاءً؛ على الخطاب العام أن يشرح “لماذا” قبل أن يأمر “افعل/لا تفعل”، وأن يَصل بين الإيمان والمعنى اليومي للكرامة والعدالة واللطف. ونحتاج ثانيًا إلى تأهيلٍ جادٍّ لما قبل الزواج: برامج رصينة مُلزمة وقصيرة، لكنها عميقة، تُعلِّم إدارة الخلاف، والذكاء العاطفي، وتوازن الأدوار، وحدود الأهل، وآداب الفضاء الرقمي، وحُرمة الخصوصية. وثالثًا إلى مراكز إصلاحٍ أسَريةٍ محترفة: وسطاءُ معتمدون، وجلساتُ مصالحةٍ تُبنى على خطةٍ زمنية، ومتابعةٌ تمنح البيت فرصةً ثانيةً قبل أن يكتب القاضي الحكم.
ورابعًا، لا بد من حمايةٍ ذكيةٍ لليافعين: تثقيفٌ رقميٌّ صارمٌ يعلّمهم أين يضعون أقدامهم في متاهة الشبكات، وخطوطُ دعمٍ نفسيّةٌ وقانونيةٌ مُعلَنةٌ يسهل الوصول إليها، وبرامجُ شبابية رياضيةٌ وفنيةٌ وجماعيةٌ تُشبع الطاقة بدل أن تُهدرها في التيه. وخامسًا، استعادةُ دور المنبر والثقافة: خطيبٌ يسمع بقدر ما يتكلم، وكاتبٌ يضيء المساحات الرمادية بين الحلال والحرام، ومؤسساتُ إعلامٍ تُحسِن مسؤولية الصورة فلا تبيع الوهم في سوق المتابعة. وسادسًا، تنظيمٌ حضاريٌّ رفيق للفضاءات العامة؛ ضبطٌ للذوق العام يحفظ كرامة المكان بلا فظاظةٍ ولا تسيّب، ورقابةٌ على المراكز والأنشطة التي تحوّلت إلى منافذ للإغواء أو الابتزاز، من غير مطارداتٍ ولا تشهير، بل بقانونٍ واضحٍ يُطبَّق على الجميع.
وأخيرًا، لا ينهض بيتٌ بلا استعادة معنى العهد. الزواج ليس عقدَ خدمةٍ يُفسَخ عند أول تعثّر، بل ميثاقُ رحمةٍ ومودّةٍ وعدل. يسقط حين نُعاملُه كصفقة، ويثبت حين نُطعِمُه صبرًا ولطفًا وتنازلاتٍ كريمة. على الأهل أن يُسندوا لا أن يُؤجِّجوا، وعلى الأصدقاء أن يُصلحوا لا أن يُصفّقوا للقطيعة. ومن حقّ المجتمع على نفسه أن يُذكِّر أبناءه بأن كلّ حريةٍ تزدهي حين تسكنها مسؤولية، وأن كلَّ تحررٍ جميلٍ ما دام لا يهدم البيوت على رؤوس ساكنيها.
كلمةٌ في المحبّة والصدق لبناتنا وبنيننا:
إلى بناتنا: جمالكنّ في عقلٍ عامرٍ ونفسٍ مطمئنةٍ أكثر منه في مرايا صقيلة. لا خلاص في دخان مقهى ولا في إشعارٍ عابر، بل في معرفة الذات ووضع الحدود وإكرام النفس. وإلى أبنائنا: الرجولة ليست صخبًا ولا تحدّيًا أجوف؛ الرجولة صدقٌ مع النفس، وكرامةٌ لا تُباع لمتعةٍ رخيصة، ومسؤوليةٌ لا تفرّ منها إلى شاشة. واكتبوا على الجدار: “خلافٌ نبيلٌ خيرٌ من قطيعةٍ عجولة”.
يبقى أن نقول: لسنا نكتب لنلعن الظلام، بل لنُشعل قنديلًا. النار التي تحت الرماد تعبت من الاختباء، والدخان فضح المستور. لكن لكل نارٍ ماءٌ يطفئها: ماءُ الوعي حين يصير سلوكًا، وماءُ التربية حين تعود بيتًا ومدرسةً ومسجدًا وإعلامًا، وماءُ القانون العادل حين يُطبّق بلا محاباة، وماءُ القدوة التي تمشي بين الناس فتقنعهم بصمتها قبل كلامها. لسنا بحاجةٍ إلى نبيٍّ يدعو علينا؛ نحن بحاجةٍ إلى غضبٍ نبيل يوقظنا، وإلى ضميرٍ حيٍّ يعمل معنا. فلنُمسك بالمقود قبل أن تتهاوى العربة في المنحدر. ومن اليوم — لا غدًا — نجرّب أن نكون ذلك الضمير، وأن نُطفئ النار قبل ألا يبقى رمادٌ لشيء.
في آخر الحساب، لا نريد أن نكون شهودًا على انهيارٍ توقعناه فصمتنا؛ نريد أن نكون صانعي نجاةٍ قبل أن تكون توبةً محمومة. إنّ إنقاذ البيت والمجتمع لا يبدأ ببيانٍ ولا بخطبةٍ فحسب، بل بعملٍ يوميٍّ صادق: استعادةُ لغةِ الحوار، وتعليمُ مهارات العِشرة، وإعطاءُ الشبابِ بوصلةً ومعنى، وتأسيسُ مؤسّساتٍ تأخذ بيد المتخاصمين لا أن تُسهِم في تفككهم. لنطفئ النار بالماء الواقي — وذاك الماء هو الوعيُ الذي يتحوّل إلى سلوك، والتربيةُ التي تصير نهجًا، والقانونُ الذي يُطبَّق بعدل، والقدوةُ التي تمشي بين الناس فلا تتركهم للضياع. فإذا أردنا لمجتمعنا أن ينهض، فعلينا أن نستنشق هواءً جديدًا من المسؤوليّة والحنوّ والتعاطف؛ وإلا فسيبقى الرمادُ يغطي فمًا يستصرخ بالإنقاذ. فلنبدأ اليوم، بخطوةٍ صغيرةٍ فيها صدق، فقد تُنقذ بيتًا وتقلب مسارَ أمة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع