د.منار الشوربجي
استطلاع جديد للرأي أثار الكثير من القلق في إسرائيل. فقد أجرت مؤسسة بيو الأميركية استطلاعاً نُشرت نتائجه في أول الشهر الجاري هدفه التعرف عن قرب على اليهود الأميركيين. وقد ركز الاستطلاع على مفهوم الهوية لدى اليهود الأميركيين فسأل أسئلة فرعية كثيرة بدءاً من المعتقدات والممارسات الدينية ومروراً بالرؤى السياسية والاجتماعية ووصولاً لطريقة تربية الأطفال واختيار شريك الحياة. وقد أظهر ذلك الاستطلاع انحساراً في الارتباط بالدين انكماشاً واضحاً للجماعة اليهودية في أميركا وميلاً لتعريف الهوية اليهودية بعيداً عن إسرائيل.
فعندما سئل المستطلعة آراؤهم حول جوهر الهوية اليهودية بالنسبة لهم، قال 62% إنها ارتباط ثقافي أو انتماء لعائلات يهودية، بينما ذكر 15 أن الدين هو أساس الهوية اليهودية. بل أكثر من ذلك، فمن بين أولئك الذين اعتبروا أن الدين هو جوهر الهوية اليهودية، قال الثلثان إن الإيمان بالله ليس حتمياً لتكون يهودياً. وحينما سئل المستطلعة آراؤهم عن المكونات الأساسية للهوية اليهودية، اعتبر 73% أن تذكر المحرقة مكون رئيسي، بينما رأي 69% الالتزام الأخلاقي أساسي، والعمل من أجل العدل والحرية مكون مهم أيضاً (56%).
أكثر من ذلك، فقد وصف 22% من اليهود الأميركيين أنفسهم بأن لا دين لهم، وهي نسبة في ارتفاع مستمر خصوصاً بين الأصغر سناً من اليهود. فبينما لا تتعدى نسبة اليهود الأميركيين الذين يعتبرون أنفسهم بلا دين 7% بين كبار السن، فإنها تصل إلى 32% بين الشباب. وأوضح الاستطلاع فارقاً كبيراً بين من يصفون أنفسهم بأنهم يهوديو الديانة وبين من يعتبرون أنفسهم بلا دين. فالفريق الثاني أقل انخراطاً في المنظمات اليهودية الأميركية أياً كانت رسالتها وأقل ميلاً لتربية أولادهم على الهوية اليهودية.
أما من يعتبرون أن لهم ديناً، فإن نسبة معتبرة منهم تربي أبناءها كيهود "بشكل جزئي". ويبين استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة بيو أن التحول المذهبي داخل الجماعة اليهودية يسير في اتجاه المذاهب الأقل تشدداً.
فالتحول يحدث من المذهب الأورثودكسي إلى المذهب المحافظ الأقل تشدداً ومن ذلك الأخير إلى المذهب الإصلاحي الأقل تشدداً على الإطلاق. وأظهر الاستطلاع أن هناك علاقة طردية بين انحسار الدين في حياة اليهود الأميركيين وبين ميلهم للزواج من غير اليهود.
ولتلك الأرقام دلالات بالغة الأهمية. فانحسار التدين له علاقة مهمة بإسرائيل. وهو ما يتضح في ارتفاع نسبة التأييد لإسرائيل بين اليهود الأورثودكس بالمقارنة بغيرهم. واعتبار اليهود أن هويتهم جوهرها ثقافي وأسري لا ديني يضفي سيولة على علاقتهم بإسرائيل. هو ما اتضحت دلالته بجلاء في الإجابة عن السؤال الخاص بالمكونات الضرورية للهوية اليهودية. فإسرائيل لم تكن على رأس تلك المكونات كما كان الحال في السابق، إذ سبقها تذكر الهولوكست بفارق شاسع (73%)، والالتزام الأخلاقي (69%).
بل الارتباط بإسرائيل (42%) كأحد المكونات الرئيسية للهوية جاء على قدم المساواة مع التمتع بروح المرح والفكاهة كمكون رئيسي للشخصية اليهودية. أما ارتفاع معدلات زواج اليهود بغير اليهود، فمعناه الانكماش المطرد للجماعة اليهودية الأميركية، خصوصاً مع انحسار تربية الأطفال باعتبارهم يهوداً.
وكل تلك النتائج تثير قلق إسرائيل، التي اعتمدت دوماً على الجماعة اليهودية الأميركية من أجل الحصول على دعم أميركا لها. لكن استطلاع الرأي حمل ما هو أخطر بالنسبة لإسرائيل. فهناك نسبة كبيرة من اليهود الأميركيين صارت لديهم تحفظات على سياسات إسرائيل. فقد أظهر الاستطلاع أن 38 % فقط منهم يؤمنون بأن الحكومة الإسرائيلية جادة بالفعل في التوجه نحو السلام. ويرى 44% أن الاستيطان في الأرض المحتلة ضار بمصالح إسرائيل نفسها.
والحقيقة أن كل تلك الأرقام لابد أن تقرأ في سياقها السياسي. فهناك أيضاً فجوة تتسع بين اليهود الأميركيين والمنظمات اليهودية الداعمة لإسرائيل هناك. فتلك المنظمات صارت في أغلبيتها الساحقة لا تعبر عن مواقف الناخبين اليهود. فهي صارت منذ نهاية السبعينات أكثر ليكودية ويمينية بكثير من اليهود الأميركيين.
فضلاً عن أن هياكلها التنظيمية كلها بالتعيين لا بالانتخاب الأمر الذي يجعلها ليست مسؤولة أمام الجماعة اليهودية. وتلك المنظمات في العادة هي جزء من النخبة الأكثر ثراء في أميركا وتُعبّر عن مصالحها، والتي تتسع الهوة بينها وبين مصالح باقي الجماعة اليهودية. أكثر من ذلك، فإن الأجيال الشابة من اليهود الأميركيين صارت أقل ارتباطاً بتلك المنظمات من الأجيال السابقة.
وهم يجدون تناقضاً واضحاً بين ليبراليتهم وبين مواقف تلك المنظمات التي تطلب الدعم الأعمى لإسرائيل وتسكت من ينتقدون سياساتها. باختصار، فإن التحول الجاري منذ سنوات داخل الجماعة اليهودية يسير باطراد في اتجاه فجوة متزايدة بين إسرائيل والأجيال الجديدة من يهود أميركا.
إذا كان الأمر كذلك، من أين يأتي الدعم الهائل لإسرائيل في أميركا؟ هناك مصدران، أولهما المنظمات اليهودية الداعمة لإسرائيل دون أن يكون لها بالضرورة دعم بين عموم اليهود فهي صارت من أقوى جماعات الضغط الأميركية وتعتمد على أموال الأثرياء اليهود التي تختلف مصالحهم كما سبق القول. أما المصدر الثاني، فإنني أدعو القارئ لتأمل ما أظهره الاستطلاع من أن 47% فقط من اليهود الأميركيين المتدينين يعتبرون أن أرض إسرائيل منحة من الله لليهود، مقابل 82% من المسيحيين الإنجيليين الأميركيين الذين يؤمنون بأن أرض إسرائيل منحة من الله لليهود. وهي مفارقة بالغة الدلالة. فالصهيونية المسيحية صارت اليوم أحد المصادر الرئيسية لدعم إسرائيل في أميركا وربما بدرجة تفوق اليهود.
713 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع