د. محمد عياش الكبيسي
كان بودي أن أقدم لقراء «العرب» في يوم عيد الأضحى ما يناسب المشاعر العامة لدى المسلمين وهم يتابعون مناسك الحجيج تلبية وتكبيرا وطوافا وسعيا ونحرا وحلقا ووحدة إيمانية وروحية, تصهر هذه الأجناس والألوان واللغات في بوتقة الأمة الواحدة والجسد الواحد، إلا أن الصورة الأخرى الممتدة في طول الهلال الخصيب من البصرة إلى درعا كانت قادرة هذه المرة على مزاحمة الصورة الأولى وتشتيت الاهتمام وتعكير الصفو الذي اعتاده المسلمون في مثل هذه الأيام.
فوجئ الناس بمسيرة طائفية لشيعة عراقيين وبحماية حكومية يجوبون الأعظمية وهي معقل السنة الأول في بغداد، لم تكن المسيرة تندد بجرائم القتل أو الفساد الحكومي الذي بلغ النخاع، ولا بانقطاع الكهرباء ونقص الخدمات الآدمية، ولا السرقات الرسمية التي استنزفت موارد الدولة، ولا صرخات السجينات العراقيات اللواتي يتعرضن للإهانة والتعذيب وربما الاغتصاب، كل هذا ليس مهما في نظر هؤلاء، وليس مهما كذلك خضوع العراق لهيمنة الأجنبي ولمخططاته الرامية لتمزيق البلد وإنهاء العراق كدولة وشعب وتاريخ، إنما المهم في نظرهم هو إعلان البراءة من أصحاب محمد ولعنهم وسبهم وشتمهم, خاصة عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين!
ربما يتصور البعض أن هذه مجرد حادثة شاذة قامت بها ثلة من السفهاء، بيد أن الحقيقة أكبر من هذا بكثير، فبسقوط بغداد على يد الجيش الأميركي دخل العراق والمنطقة كلها في ساحة صراع جديدة ومختلفة تمام الاختلاف عن كل أشكال الصراع التي تدور في هذا العالم، وكأن الأميركيين لم يكن لهم قصد من احتلال العراق إلا تشجيع الأقلية الشيعية على تحدي الأمة الإسلامية واستفزازها بكل الوسائل.
قبل هذه المسيرة كان هناك تصريح للنائب البرلماني عن التيار الصدري بهاء الأعرجي الذي هاجم فيه التاريخ الإسلامي كله دون استثناء «من أبي بكر إلى أحمد حسن البكر» على حد قوله، ولم تصدر من الحكومة ولا من المرجعيات الشيعية أية إدانة لهذا التصريح!
تزامنت هذه الاستفزازات مع حالة من العدوان المستمر على كل ما هو سني، فتم اغتصاب عدد من مساجد السنة وحرق مساجد أخرى، وشاع في بغداد القتل على الاسم والهوية، وأصبح من يحمل اسم عمر يتعرض للمخاطر الجدية والمضايقات, وعلى يد القوات الحكومية وفي نقاط التفتيش.
هناك أشرطة فيديو منشورة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي لاحتفالات طائفية, وفيها إعلان الفرح والابتهاج في أكثر من مكان بمناسبة ذكرى وفاة عمر أو وفاة عائشة!
هناك أيضا أكثر من ثلاثين قناة فضائية عدا المواقع الشبكية والصفحات الشخصية التي تتعدى الحصر, والتي تبث على مدار الساعة ما يسيء للصحابة الكرام ولأمهات المؤمنين -عليهم رضوان الله أجمعين- وقد شاهدت على إحدى هذه الفضائيات سؤالا يوجهه مقدم البرنامج إلى المشاهدين: من أشجع الناس؟ فاتصل أحد الشباب وقال: أشجع الناس هو أبو لؤلؤة قاتل عمر، فقال المذيع بارتياح: وهل هو أشجع من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ قال: نعم، لأن عليا لم يتمكن من قتل عمر حتى بعد أن اعتدى عمر على فاطمة وكسر ضلعها! ثم اشتركا في الشماتة بقتل عمر, ونسيا نقطة الإشكال بينهما: من أشجع علي أم أبو لؤلؤة؟! يذكر بهذا الصدد أن قبر أبي لؤلؤة أصبح مزارا مقدسا ومكانا مناسبا للتنفيس عن كل تلك الأحقاد والعقد التاريخية.
وأذكر محاضرة لواحد من علمائهم النشطين جدا وهو يطالب الشيعة بتحرير سامراء، ثم يقارن بين احتلال السنّة لسامراء واحتلال اليهود للمسجد الأقصى، ليصل إلى نتيجة أن تحرير سامراء أولى وأوجب من تحرير المسجد الأقصى! وكل هذا موثق ومنشور.
إننا إذاً لا نتكلم عن حالة شاذة أو حدث عابر وإنما نتحدث عن مشروع متجذّر دينيا وثقافيا وقادر على توظيف التاريخ والجغرافيا والسياسة والإعلام، وما حصل من تحالف بين إيران وحزب الله وبشار الأسد في قتل الشعب السوري ما هو إلا نتيجة طبيعية لتلك الثقافة أو لذلك المشروع الزاحف.
إنه لمن المعيب حقا ألا يخضع هذا المشروع للنقد والتحليل حتى على المستوى الأكاديمي والمعرفي، فما زال النفَس العام لدى المثقفين على اختلاف توجهاتهم الإسلامية والقومية والعلمانية هو النأي عن هذا التفكير أو الوسواس الطائفي، حتى لو كان من باب التشخيص والتوصيف، وقد يكون هذا النأي هو نوعا من الترفع عن هذا المستوى الشاذ والمتدني, والذي لا يليق بثقافة العصر بعد أن قطع الإنسان أشواطا كبيرة في بناء المجتمعات والدول المدنية الحديثة، وليس لنا إلا أن نشاركهم في هذا الهاجس المزعج بالفعل، لكن هذا الترفع لا يعني أن الواقع أيضا قد ارتفع، بل كل ما سنفعله أننا نترفع بذواتنا عن هذه الأرض لنتركها لأولئك الشاذّين أو الهابطين، وربما لن يكون هذا الترفع إلا نوعا من الانهزام والتخلي عن المسؤولية.
بهذا الوعي انتفضت المحافظات الست بغداد والموصل وديالى وكركوك والأنبار وصلاح الدين، ليست ردا على الدراجي ولا على الأعرجي, وإنما هي انتفاضة بوجه المشروع الذي يهدد هوية الأمة وثقافتها ووجودها، وقد فوجئ العالم بالفعل بحجم الانتفاضة وحجم الغضب الجماهيري غير المتوقع في ظل ثقافة التعالي هذه, والتي ما زالت السمة الأبرز لدى عامة المثقفين.
لقد نجح السنّة هذه المرة في تحقيق عدد من الأهداف منها:
-1 إحياء هوية الأمة الأصيلة والالتفاف حولها، وهي لا شك الضمانة الأخيرة لوحدتهم وتماسكهم في وجه هذه التحديات المصيرية، ومن مظاهر هذا تسمية المواليد الجديدة بأسماء الصحابة، وتغيير أسماء الشوارع ومداخل المدن الرئيسية بأسمائهم كذلك، وتأكيد الخطباء والشعراء على ربط العراق باسم فاتحه الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
-2 تجاوز المحافظات الست إلى المحافظات التسع بعد أن أعلنت الفعاليات الكردية المتعددة في السليمانية وأربيل ودهوك (إقليم كردستان) استنكارها لهذه الاستفزازات الطائفية, وتضامنها مع المحافظات السنية العربية، ونحو هذا كانت استجابة المناطق التركمانية، وهذه خطوة كبيرة ينبغي البناء عليها، وهي لا شك الطريق الأخصر لتحقيق التوازن العراقي المطلوب سياسيا ومجتمعيا.
-3 فك الحصار الإعلامي المضروب على الحراك السني في العراق، حيث تصدر الحدث العراقي بعد جريمة سب الصحابة والتداعيات المتلاحقة المشهد الإعلامي للقنوات العربية والعالمية الأكثر متابعة والأكثر مقبولية.
وفي المقابل كانت هناك حالة من الاضطراب في المشروع الطائفي نفسه، فبينما يستنكر رئيس الحكومة هذه المسيرات, ويتوعد باعتقال قادتها «المثيرين للفتنة» تظهر وزارة الداخلية بصورة أخرى لتدعي أن هذه المسيرات ربما تكون مفبركة ومزيفة! وانتقل هذا الاضطراب إلى المرجعيات الكبيرة فبينما تصدر عن السيستاني فتوى جوابية بالرقم (100644) تندد بهذا العمل العدواني يصدر تشكيك بالفتوى من جهات شيعية أخرى بحجة أن تسلسل الاستفتاء في موقع السيستاني الرسمي قد وصل إلى (8360) فقط حتى هذا التاريخ! وعلى كل حال فالفتوى لم تحظ بالاهتمام الشيعي العملي، فما زالت القنوات والمواقع المعهودة بالسب واللعن تمارس دورها وزيادة, مما أفقد المرجعية شيئا من هيبتها ومصداقيتها داخل الوسط الشيعي نفسه.
إن الأمة بكل مؤسساتها العلمية والثقافية والإعلامية وبكل علمائها ومثقفيها مدعوة اليوم -بعد أن فقدنا الأمل بقادتها وسياسييها- إلى التنزل إلى هذا المستوى مهما كان شاذا وهابطا، كما ينزل الطبيب للبحث في تفاصيل الأمراض ومسبباتها، كما أن الدفاع عن أصحاب محمد وأزواجه الطاهرات ليست مهمة السنّة في العراق, بل هي مهمة المؤمنين أينما كانوا، فعائشة هي أم المؤمنين كلهم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) وقد تنزل القرآن نفسه للدفاع عنها، فكيف يترفع المؤمنون اليوم عن حماية أمهم والدفاع عن عرض نبيهم؟
872 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع