كامو في الطاعون .. الإنسان والعبث

د. عصام البرّام
القاهرة

كامو في الطاعون .. الإنسان والعبث

لا يكتب ألبير كامو في روايته الشهيرة الطاعون عن وباء فقط، بل يتخذ الوباء مدخلاً فلسفياً عميقا للتأمل في طبيعة الوجود الإنساني، حين تُختزل الحياة إلى لحظة مواجهة مع ما هو غير مرئي وغير متوقع وغير معقول. الوباء في هذه الرواية ليس مجرد سياق صحي أو كارثة طبيعية، بل هو تمثيل رمزي لواقع الإنسان في عالم عبثي تختل فيه المعايير وتسقط فيه الضمانات ويُترك الفرد أمام قوى تفوقه وتُجبره على إعادة تعريف معنى الحرية والمسؤولية والمعاناة.
تقع أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية خلال أربعينيات القرن الماضي حين تبدأ الفئران الميتة بالظهور في الشوارع، ثم تتوالى الإصابات بين السكان بمرض مجهول يتحول لاحقا إلى وباء يفرض حصاراً كاملا على المدينة، في البداية ينكر السكان وجود الوباء أو يستخفون به ثم تبدأ الأرقام في التزايد ويضطرون إلى الاعتراف بالحقيقة التي لا مفر منها؛ هنا تبرز المهارة السردية والفكرية لكامو الذي لا يسعى فقط إلى وصف وقائع، بل إلى سبر أغوار النفس البشرية حين تفقد الروتين والأمان وتضطر إلى مواجهة واقع جديد لا يخضع لمنطق الحياة اليومية.
يختار كامو أن يروي القصة من خلال شخصية الطبيب ريو الذي يصبح بطل الرواية وإن لم يرد ذلك، فهو ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل شاهد ومشارك وراصد لمعاناة الآخرين. يرفض ريو التفسيرات الدينية أو الميتافيزيقية للوباء ويرى أن مهمته الأساسية تكمن في العمل المستمر لمساعدة المرضى والتخفيف من آلآمهم حتى وإن كان ذلك بلا جدوى واضحة، هذا الالتزام بالمقاومة في وجه العبث هو جوهر الفلسفة الكاموية التي تتجلى بوضوح في الرواية والتي تقول إن الإنسان لا يحتاج إلى أمل كي يواصل العمل بل إلى شجاعة لمواجهة اللاجدوى.
لا يقدم كامو الوباء فقط كحدث، بل كحالة وجودية تتكشف فيها طبيعة الإنسان أمام الآخر أمام الخوف أمام الموت، فيضع شخصياته في إختبار أخلاقي وفلسفي، إذ ليس الجميع يتصرف بنفس الطريقة البعض يحاول الاستفادة من المأساة والبعض يفرّ منها، البعض ينكرها والبعض الآخر يتخذ منها فرصة لإعادة بناء علاقة جديدة مع نفسه ومع العالم، في هذا السياق يمكن أن نفهم شخصية تارو الصحفي الذي ينضم إلى فرق المتطوعين لمكافحة الوباء رغم أنه ليس طبيبا ولا مجبراً على ذلك وتأتي مذكراته لتشكل بعداً موازيا للرواية وتمنحنا نظرة تأملية في عمق التجربة الإنسانية تحت ضغط الموت الجماعي.
ومن أبرز الشخصيات أيضا نراه الأب بانلو الكاهن الذي يواجه صدمة أخلاقية حين يرى موت الأطفال الأبرياء تحت رحمة الطاعون ففي البداية؛ يفسر ما يحدث بأنه عقاب إلهي على خطايا البشر، لكنه لاحقاً وبعد أن يشهد مأساة طفل صغير يحتضر بين يديه تتزعزع قناعاته ويتحول إلى شخص صامت متأمل مشارك في المعاناة من دون أن يجد لها تفسيراً نهائياً، هذه التحولات الفكرية والعاطفية لدى شخصيات الرواية تكشف لنا أن الطاعون ليس مرضا بيولوجيا فحسب، بل أزمة وجودية تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته قبل أي شيء آخر.
الرواية كُتبت في الأربعينات، لكنها تظلّ راهنة في كل زمن، إذ أن الطاعون الكاموي يتجاوز التأريخ والجغرافيا ويتحول إلى إستعارة كونية عن كل ما يهدد الإنسان من قوى العنف والاحتلال والقمع والفاشية والكراهية والجهل، هذه كلها أوبئة لا تقل فتكاً عن المرض البيولوجي، وقد قرأ الكثيرون الرواية على أنها إسقاط على الاحتلال النازي لفرنسا، كما قرأها آخرون كدعوة للمقاومة الفردية في وجه الطغيان، أياً كان شكله ومصدره وفي كل قراءة تظلّ الرسالة المركزية قائمة. الإنسان مدعو لمواجهة العبث لا من خلال الاستسلام، بل من خلال الفعل اليومي البسيط الذي يُعيد إليه شيئا من كرامته وإنسانيته.
كامو ليس وجودياً بالمعنى السارتري ولا يعدّ نفسه فيلسوفاً، لكنه بلا شك أحد أعمدة الفكر الحديث الذي سعى إلى منح الإنسان أدوات أخلاقية ونفسية لمواجهة عالم غير عقلاني بعقل أخلاقي ومنطقي، في الطاعون لا يقدم حلاً مثالياً ولا ينتصر للتفاؤل الزائف، بل يدعو إلى وعي مأساوي يتصالح مع الألم من دون أن يستسلم له، فهو يكتب بلغة واضحة بعيدة عن الغموض أو التزويق الأدبي؛ لأنه يسعى إلى الحقيقة لا إلى الزخرفة ولا يتعامل مع الأدب كزينة بل كمسؤولية أخلاقية تجاه العالم.
أحد أهم محاور الرواية هو الصمت ذلك الصمت الكثيف الذي يغلف المدينة حين يبدأ الوباء في الانتشار صمت الشوارع الخالية صمت البيوت المغلقة صمت المرضى الذين ينتظرون موتهم هذا الصمت لا يمثل فقط نهاية الحياة اليومية بل أيضا بداية لتجربة داخلية جديدة يصبح فيها الإنسان أقرب إلى ذاته وأكثر وعيا بتفاهة الكثير من الانشغالات السابقة حين تُنزع عنه الزينة الاجتماعية ويجد نفسه وحيداً مع جسده مع خوفه مع ذاكرته وندمه وأحلامه المؤجلة.
كامو في الطاعون لا يطرح أسئلة ميتافيزيقية بقدر ما يطرح تحديات عملية كيف نعيش في عالم لا يقدم لنا ضمانات كيف نحافظ على كرامتنا حين يسقط النظام كيف نصنع المعنى في قلب اللامعنى كيف نمنح الحب والرحمة حتى حين لا نؤمن بأن هناك جزاء أخروي أو مكافأة ينتظرنا بعد الموت هذه الأسئلة لا تُطرح بشكل مباشر لكنها تتغلغل في نسيج الرواية من خلال الشخصيات من خلال الأحداث من خلال العلاقات بين الناس من خلال الحوارات القليلة والإيماءات الصامتة والاختيارات الفردية التي تتكرر يومياً دون ضجيج لكنها ترسم ملامح إنسانية عميقة.
وهران في الرواية ليست مجرد مكان بل تتحول إلى شخصية سردية حية مدينة حديثة بروتينها الإداري وحياتها المملة تتحول فجأة إلى سجن كبير يُفرض عليه الحجر الصحي وتُقطع عنه الاتصالات بالعالم الخارجي فيصبح سكانها مجبرين على إعادة اكتشاف بعضهم البعض وعلى إعادة تعريف علاقاتهم مع الجسد والموت والزمن، هذه المدينة التي كان أهلها منشغلين بالتجارة والمقاهي والربح السريع تجد نفسها أمام واقع مختلف تماما تتساوى فيه الطبقات ويتحول الجميع إلى ضحايا محتملين أو شهود على المعاناة.
الطاعون عند كامو ليس نهاية بل كشف لحقيقة عميقة طالما تجاهلها الناس كشف لحقيقة هشاشتنا كبشر ولقدرتنا رغم ذلك على الصمود في وجه العبث من خلال أفعال صغيرة متكررة من خلال التضامن الإنساني من خلال المحبة التي لا تحتاج إلى تبرير فلسفي من خلال الإصرار على أن نكون بشراً في عالم يفقد ملامح إنسانيته شيئا فشيئا وفي ذلك دعوة إلى فعل المقاومة اليومية إلى اختيار الخير حتى حين يبدو بلا جدوى إلى أن نكون أطباء في زمن المرض وشهوداً على الألم من دون أن نصبح جزءاً منه.
كل من قرأ الرواية في عز جائحة كورونا أو بعدها شعر بأنها كتبت الآن لا قبل أكثر من سبعين عاماً وهذا ما يمنحها طابعها الكوني، فالطاعون ليس حدثاً من الماضي، بل هو حاضر دائم بصيغ مختلفة وكأن كامو يصرخ في وجه الزمن قائلاً؛ إن الخطر لا يأتي فقط من الجراثيم بل من اللامبالاة من النسيان من التواطؤ من الصمت وإن المقاومة ليست فعلا بطولياً خارقاً بل التزاماً أخلاقياً مستمراً رغم الضعف رغم الشك رغم الألم.
وهكذا تظل الطاعون رواية تتجاوز حدود الأدب لتصبح شهادة على الإنسان في أقسى لحظاته وأكثرها صدقا رواية لا تحتاج إلى دراما مفتعلة ولا إلى حبكات معقدة لأنها تستمد قوتها من الواقع من التجربة من الألم المشترك الذي يربطنا كبشر في مواجهة مصيرنا المشترك في زمن يتغير فيه كل شيء بسرعة ويبقى فيه سؤال المعنى معلقاً دائما ًفوق رؤوسنا. البير كامو لا يجيب، لكنّه يرشدنا إلى الطريق أن نعيش كأن للحياة معنى حتى وإن لم نجد هذا المعنى أن نقاوم العبث لا بالحرب، بل بالفعل البسيط الصامت، بالإصرار على أن نكون بشراً دائماً وأبداً

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع