
افرام الغساني
حين تتحوّل المناسبات الدينية إلى إلزام وتغول:العراق والمسخ الصامت للهويات
في الأزمات والملمّات قد يقبل الناس بسلوك المجاملات العابرة، لكن حين تتحول المجاملة إلى موقف عام، أو مطلب رسمي، أو مسايرة لطقس ديني لا يمتّ لثقافة المجتمع الواسع بصلة؛ تصبح المسألة خروجًا عن المعقول، بل انزلاقًا إلى نوع من التكيّف القسري الذي لا يخدم التعايش ولا يحترم خصوصية أحد.
إن من غير المقبول عقلًا ولا منسجمًا مع بدهيات الوعي أن يُطالب أبناء مجتمعٍ ما—سواء في تكريت أو الموصل أو غيرهما—بمنح عطلة رسمية في مناسبة دينية خاصة بطائفة أخرى، مبنية على موروث عقدي لا يشتركون فيه، بل يتعارض في جوهره مع رموزهم التاريخية ومع تصورهم الديني للأحداث.
وليس الحديث هنا عن مجرد عطلة؛ بل عن اعتراف ضمني بطقس لا ينتمي إلى ثقافتهم الدينية، وبحكاية تتضمن اتهامًا مباشرًا لرمزٍ من أبرز رموزهم، وهو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي يحتل في الوجدان السني مكانة رفيعة. فالشيعة يعتقدون أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قد استشهدت، وأن سبب استشهادها يعود إلى فعلٍ ارتبط باسم عمر—هكذا هو موروثهم، وهذا شأنهم، وهذا ما يمارسونه في طقوسهم وذاكرتهم الدينية.
لكن المفارقة، أو لنقل الغرابة العقلية والاجتماعية، أن يطالب بعض أبناء مدن سنّية مثل تكريت والموصل بأن تشملهم العطلة المعلنة في بعض مدن الجنوب، تحت مسمى “ذكرى استشهاد السيدة الزهراء”. هذه ليست مشاركة وجدانية بريئة؛ بل موافقة ضمنية على مضمون اعتقادي لا يؤمنون به، بل ويصطدم أساسًا برموزهم وذاكرتهم الإسلامية.
إن احترام الطوائف لبعضها لا يعني أبدًا انصهار الهويات أو تفريغ الخصوصيات الدينية من معناها. والمجاملات التي تخصّ العادات الاجتماعية شيء، والمجاملات في العقائد شيء آخر. فالمجتمع الذي لا يميّز بين الأمرين يقع سريعًا في التناقض، وربما في شيء من الجهل البسيط أو الخلط الثقافي الذي يفرغ الهوية من معناها من حيث لا يشعر.
ثم إن الدولة—محلية أو اتحادية—لا ينبغي أن تنزلق خلف رغبات انفعالية أو ضغوط اجتماعية لحظية. فالعطل الرسمية ليست لعبة، ولا ينبغي أن تتحول إلى صفقة رمزية أو إرضاء مجاني لهذا الطرف أو ذاك. العطلة الرسمية تعبير عن حدث وطني جامع، لا عن طقس خاص بطائفة، لأنها إن تحولت إلى غير ذلك فسنصحو كل يوم على مطالبة جديدة، وسندخل في سلسلة لا تنتهي من “العطل الهوياتية”، التي لا تنتج إلا مزيدًا من الانقسام.
إن احترام شيعة العراق لطقوسهم حق والتزام، مثلما احترام السنّة لرموزهم امانة ووفاء، لكن لا يعني هذا أن يشترك كل طرف في طقوس الطرف الآخر. فالاختلاف في الموروثات الدينية لا يُلغى، لكن يمكن إدارته بعقل هادئ دون أن يفقد كل مجتمع بوصلته.
والمشكلة هنا ليست في الشيعة الذين يمارسون ما يعتقدون به، فهذا حقهم، ولا في طبيعة المناسبة التي يرونها معتبرة. المشكلة تكمن في الاستسهال الفكري عند بعض السنّة الذين يطالبون بما لا ينتمي إليهم أصلًا، وكأنهم يريدون أن يثبتوا “حسن النية” في غير موضعه، أو يبحثون عن توافق سهل في مساحة غير قابلة للتوافق أصلًا.
إن التعايش الحقيقي لا يُبنى بالمجاملات التي على حساب المعتقد، بل يُبنى بالاحترام الواضح لحدود كل طرف، وبالوعي بأن الطقس الخاص يبقى خاصًا، والمناسبة العامة تبقى للجميع.
هذا هو الطريق الذي يحفظ المجتمع من الذوبان، ويحفظ لكل طائفة أصالتها من دون أن تصطدم مع الأخرى، ويمنع الدولة من أن تتحول إلى ساحة تجارب لتقليد هذا أو مسايرة ذاك.

1147 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع