معتاشوا الظلال … اهل سقط المتاع

قلم باندان

معتاشوا الظلال… اهل سقط المتاع

هناك دائمًا فئةٌ ضئيلة في كل عالم من عوالمنا، تتحرك كأنها تعيش في منطقة رمادية بين الوجود والادّعاء، ولا تخطئهم العين مهما تغيّر المشهد أو تبدّلت الوجوه. فهؤلاء هم أهل السَّقَط؛ معتاشو الفتات والظلال، ومرتزقة الفرص السانحة الذين لا يجدون لأنفسهم موطئًا في دائرة الجوهر، فيلوذون بما يتركه الآخرون ويقتاتون على ما يسقط من مائدتهم الفكرية والإنسانية.
انهم ليسوا وهماً، ولا هم ظاهرة عابرة، بل نتاج خلل اجتماعي مشوّه يُتيح لصوت فارغ أن يعلو على حساب الفكر المتين، ويُفسح الطريق لمن يحسن التشدّق بما ليس فيه، ويُتقن ادّعاء المعرفة بما لا يعرف، والتباهي بمعارف هي لغيره. هؤلاء يلتقطون المفاهيم كما يلتقط المتسوّل لقمة ليست له، يمضغها بلا فهم، ويقدّمها للناس على أنها من صميم أدبه ورؤاه واجتهاده.
في المنظور الاجتماعي، لا يمكن فصل هذه الفئة المريضة عن مساحة الهامش التي خرجت منها. فالهامشيّ بطبعه يبحث عن نافذة تُطلّ به على الضوء ولو كانت نافذة مسروقة. لذا يندفعون إلى أي نقاش، ويندسون في أي قضية، ويحشرون أنوفهم في أمور لا يدركون ألفها ولا يفقهون جيمها. المهم أن يظهروا. المهم أن يشعروا أن لهم دورًا، ولو كان هذا الدور مصنوعًا من ورق رديء.
هم لا يصنعون فكرة، بل يتقنون تجميع بقايا الأفكار. لا يعرفون الطريق إلى المعرفة، لكنهم يعرفون الطريق إلى سرقة أثرها. ولذلك يكثرون في أزمنة الانحسار الثقافي، حين يضعف الوعي ويشتد الضجيج، فيتكاثر من يرفع راية ليست رايته، ومن يتزيّن بكلمات صاغها غيره، ومن يقدّم نفسه خبيرًا وهو لم يختبر من العلم إلا سطحه الأملس.
أما نفسيًا، فهؤلاء يحملون في داخلهم فراغًا عميقًا هشا يحاولون ردمه بأي شيء، بأي لفتة، بأي جملة منمّقة، بأي حضور مفتعل. إنهم مثال حيّ لـ وهم التفوّق الزائف؛ ذلك الشعور الهش الذي ينفخ صاحبه حتى يتوهم أنه أكبر من حقيقته. وكلما شعروا بانكشاف ضعفهم، ازدادوا تعلقًا بالأدوار المسروقة، واشتدّ تشبّثهم بأي فرصة تظهر أمامهم ليقفزوا فوقها ويعلنوا لأنفسهم بطولة لم يخوضوا لها معركة.
وحين تراقب سلوكهم في اللحظات الحرجة والقلقة، تدرك أنهم مرتزقة الضوء: لا يتحركون إلا عندما يشمّون رائحة فرصة، ولا يتقدّمون إلا حين يرون منصة فارغة أو لحظة يظنون أنها مناسبة لينفخوا فيها وجودهم. لا يحركهم مبدأ، ولا يستفزهم حق، ولا يوقظهم باطل؛ يحركهم فقط جوع الظهور. جوع الدور. جوع أن يُقال إنهم شيء، ولو كانوا — حقيقةً — لا شيء.
ومع ذلك، يبقى الجوهر عصيًا على السرقة. فالفكر لا يقبل أن يُحمَل إلا على كتف اجتهد وصنع، والوعي لا ينخدع طويلًا، والزمن لا يحتفظ إلا بما يستحق البقاء. لذلك، تظل هذه الفئة مجرد ظلال باهتة تمرّ في المشهد، تُثير ضجيجًا عاليًا، ثم تختفي حين يتقدّم صوت الحقيقة الذي لا يحتاج إلى زينة مزوّرة ولا إلى مجدٍ مُستعار.
وفي النهاية، لا يبقى إلا من بنى نفسه في الضوء، لا من عاش عمره يقتات على ما يسقط من أيدي الآخرين.
في المحصلة، سيظلُّ المشهد الفكري والإنساني رغم كل ما يعتريه من ضجيج وتطفّل قادرًا على فرز المعادن من الشوائب، والجوهر من الزيف، والصوت الحقيقي من الصدى المستعار. فهؤلاء الذين يعتاشون الظلال ويقتاتون السقط، مهما علت أصواتهم واشتدّت حركتهم المصطنعة، سيبقون مجرد ملامح باهتة لا يثبت لها أثر ولا يحفظ لها التاريخ مقامًا. أما من اختاروا الطريق أطولَ وأشقّ: طريق البناء والمعرفة والوعي والاجتهاد، فهم وحدهم من سيظل الضوء يعرفهم، ومن سيبقى حضورهم شاهداً على قيمة ما صنعوه لا على فراغ ما ادّعاه غيرهم. فالزمن لا يُنصف إلا الحقيقي، ولا يُخلِّد إلا من استحق الخلود.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

881 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع