
د.صلاح الصالحي
غابات أخشاب الأرز (Cedar) بين اسطورة جلجامش والتجارة الاشورية
ان الموارد الطبيعية مثل (المعادن والصخور والاخشاب...الخ) نادرة في بلاد الرافدين آنذاك، فهو يفتقد إلى الحديد وصخور البازلت والاجرانيت، غير انه يمتلك الصخور الكلسية، والمرمر المعرق في شمال محافظة نينوى والتي شكلت التماثيل الاشورية التي نعرفها الآن، اما في وسط وجنوب العراق فلا يتوفر غير الطين، الذي استخدم في البناء، وتشكيل التماثيل الطينية، والرقم المسمارية، ولذلك يطلق على حضارة العراق تسمية (الحضارة الطينية)، كما يفتقد العراق إلى الأخشاب القوية التي تستخدم لصناعة الاثاث والابواب ...الخ، وما متوفر هو خشب النخيل الذي لا يصلح لصناعة الاثاث والابواب والسفن...الخ، انما استخدم في عمل سقوف الاكواخ الطينية أو وقودا، ومن هنا توجهت انظار ملوك العراق القديم نحو بلاد الشام لتوفرغابات الأرز واستخدامها في شتى المجالات، وتذكر حوليات ملوك بلاد الرافدين نشاطهم العسكري في سورية، ولبنان، وفلسطين، كما وضمت قائمة الجزية (كلمة الجزية في اللغة الآشورية الحديثة هي ماداتو maddattu، وهي مشتقة من الفعل تادانو Madānu، بمعنى "يعطي، يدفع") المفروضة على ممالك بلاد الشام الصغيرة المهزومة مواد ثمينة ومختلفة ومن ضمنها الاخشاب، كما نلاحظ ذكرغابات الأرز منذ الالف الثالثة ق.م وحنى سقوط دولة بابل الحديثة (539) ق.م.
ذكر غابات الأرز في اسطورة جلجامش
تقع غابة الأرز(Cedar) في جبال سورية ولبنان، ويحرسها خمبابا (Ḫumbaba) أو همبابا (Humbaba) أو هوواوا (Huwawa) وهو نصف إله (شكل 1)، وقد دخل الغابة البطل جلجامش أو كلكامش (Gilgamesh) ذات مرة، حيث تجرأ على قطع أشجار الأرز من غاباتها البكر خلال سعيه وراء الشهرة، وصفت غابة الأرز في الألواح (4-6) من ملحمة جلجامش، وتأتي أوصاف أقدم من خلال قصيدة تعود إلى سلالة أور الثالثة بعنوان جلجامش وهواووا (Huwawa)، وتقول القصيدة السومرية التي تروي مآثر جلجامش انه سافر شرقا، على الأرجح إلى جبال زاكروس (Zagros) في إيران حيث غابة الأرز، إلا أن الاسطورة البابلية الاحقة والأكثر قبولا تُشير إلى أن غابات الأرز تقع غربا في جبال سورية و لبنان (Lebanon)..

شكل 1: لوحة بارزة من الطين المحروق تصور هوواوا أو همبابا أو خمبابا حارس غابة الأرز (Cedar) التابع لإله إنليل (Enlil)، يُرجح أنها تعود إلى العهد البابلي القديم أو عصر مملكتي إيسن-لارسا، ارتفاع اللوحة (105) ملم.
اللوح الخامس من ملحمة جلجامش
يدخل جلجامش وإنكيدو غابة الأرز البديعة، ويبدآن بقطع الأشجار، فيسمع خمبابا الصوت، فيأتي إليهما زائرا ومحذرا إياهما، فيصرخ إنكيدو في وجه همبابا بأنهما أقوى بكثير منه، ولكن همبابا الذي يعلم أن جلجامش ملك، فأخذ يسخر من الملك لتلقيه الأوامر من شخص تافه مثل إنكيدو، فحول خمبابا وجهه إلى قناع بشع، ويبدأ بتهديدهما، فهرب جلجامش واختبأ، وأخذ إنكيدو يصرخ في وجه جلجامش ويشجعه، فيظهر جلجامش من مخبئه ويبدأ الاثنان معركتهما الملحمية مع خمبابا، ويتدخل الإله شمش في المعركة، ويساعدهما، فيُهزم خمبابا، وركع على ركبتيه، وسيف جلجامش على رقبته، وبدأ خمبابا يتوسل من أجل حياته، ويعرض على جلجامش جميع أشجار الغابة ويخدمه إلى الأبد ، بينما كان جلجامش يُفكّر في الأمر، يتدخل إنكيدو مُطالبا جلجامش بقتل خمبابا قبل أن يأتي أي من الآلهة ويمنعه من قتله، وبضربة خاطفة من سيفه، قطع جلجامش رأس خمبابا، لكن قبل أن يموت صرخ خمبابا وهو يلعن إنكيدو: (ليت إنكيدو لا يعيش طويلا، ليت إنكيدو لا يجد راحة في هذا العالم!)، ثم قطع جلجامش وإنكيدو غابة الأرز(Cedar)، وخاصة أشجار الأرزالطويلة ليصنعا بوابة عظيمة من الأرز لمدينة نيبور، كما صنعا طوفة (بمعنى كلك، بالاشوري كلكوKalakku) من الأرز (شكل 2)، وانطلقا بها عبر نهر الفرات إلى مدينتهما، بعد ذلك بوقت قصير، مرض إنكيدو ومات في مدينة اوروك (Uruk) (حاليا الوركاء وتقع شرق نهر الفرات، وتبعد وحوالي (30) كم شرق مدينة السماوة في محافظة المثنى في العراق).

شكل 2: هذه صورة الكلك (كلكو) ويستعمل لنقل الركاب والبضائع لتعذر وجود وسائط نقل برية انذاك متوجهة من شمال العراق الى بغداد والبصرة، وتعود الصورة إلى عام (1918) ميلادية، وبقي الكلك يستخدم كواسطة نقل لغاية اربعينات القرن الماضي (اليمين)، صورة اخرى خيالية للكلك (كلكو) وما يحمله من بضائع ومسافرين (اليسار).
إحتكار الاشوريون لتجارة أخشاب الأرز
ان اشجار الارز كانت ولا زالت موجودة في جبال دولتي سورية (Syria) ولبنان (La-ab-a-an)، وكانت تلك الاخشاب تنقل بواسطة السفن التي صورت على لوح حجري زين قصر سرجون في عاصمته (دور شروكين) حاليا خرسباد (Khorsabad) حيث تصور سفن اشورية (السفينة بالأكدية يلبو (eleppu) منذ الالف الثانية ق.م، ثم ظهرت تسمية سفيناتو (Sapinatu) في العهد البابلي الحديث القرن السادس ق.م) وهذه السفن كانت تنقل الأخشاب من لبنان وسورية بالسفن الفينيقية (شكل 3) إلى ساحل مدينة اوغاريت على البحر المتوسط ومنها إلى نهر الفرات وإلى قصر سرجون في عاصمته دورشروكين أو المدن المقدسة في جنوب العراق القديم، وهناك رسائل متبادلة بين قوردي-اشور-لامور (Qurdi-Ashur-Lamur) الحاكم الاشوري، وكانت منطقة نشاطه العسكري والاستخباراتي جنوب سورية والمدن الفينيقية (صور وصيدا...الخ) وإلى فلسطين، وكان معاصرا للملكين الاشوريين تجلاتبليزر الثالث (745-727) ق.م، وسرجون الثاني (721-705) ق.م، وتتنازل بعض رسائله اعمال الشغب ضد جامعي الضرائب (الضريبة بالاشوري كيتو Kittu ، والهدايا نمرتو Nimirtu) وتطلب الأمر استدعائه لجنود ايتو (It’u) وهم قوات عسكرية من قبيلة (Itua-a) الآرامية عرفوا بقوتهم وقسوتهم من أجل اخماد الاضطرابات وما ترتب عنها اتخاذ اجراءات بشأن تجارة اخشاب الأرز (Cedar) وتتمثل في منع تصدير الأخشاب إلى مصر، وبالمناسبة يحمل علم دولة لبنان حاليا شكل شجرة الارز.

شكل 3: سفن آشورية تنقل الأخشاب الأرز (Cedar)، نقش بالنحت البارز من قصر سرجون (شروكين) (Sargon) في خرسباد (Khorsabad)، القرن الثامن قبل الميلاد.

903 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع