د.طارق شندب
جرائم النظام السوري وتطبيقات العدالة الدولية
(محاضرة ألقيت في اسطنبول في مؤتمر الهيئة الاسلامية العالمية للمحامين) في ١٩/١١/٢٠١٣
مما لا شك فيه أن العدالة الدولية ما زالت تحصي يومياً عدد الشهداء في سوريا وعدد الجرحى والمهجرين والمفقودين دون أن تحرك ساكنا، وذلك لاعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية الممثلة للعدالة الدولية الجنائية لم تتحرك بأجهزتها للمبادرة بالتحقيقات عن جرائم الإبادة ،والقتل الجماعي والجرائم ضد الانسانية ومنها استخدام الأسلحة الكيماوية وغيرها من الجرائم، التي ترتكب في سوريا.
في اماكن عديدة من العالم تحرك مجلس الامن باقطابه سريعا وتم إعطاء الصلاحية للمحكمة الجنائية الدولية و رغم أن الجرائم التي ارتكبها النظام السوري على مدار ثلاث سنوات بحق شعبه هي اشد فظاعة و هولاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
من هنا يطرح السؤال: هل العدالة الدولية هي عدالة مسيسة؟
وهل ما يرتكب من جرائم في سوريا يدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ؟
وأين العدالة الدولية ووسائلها لحماية الشعب السوري ومعاقبة المجرمين؟
يأخذ الكثيرون على العدالة الدولية أنها عدالة انتقائية ، بمعنى أن معايير الملاحقة والتحقيق والمحاكمة لا تطبق بالتساوي على جميع الأنظمة المجرمة؛وان الاعتبارات السياسية والتدخلات تمنع الملاحقة والتحقيق في بلدان دون أخرى لحسابات وارتباطات سياسية بين الدول .و
لا شك أن مجلس الامن بقواعده الحالية يمثل القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ان من أهداف مجلس الامن المكتوبة حفظ السلم والأمن الدوليين.
إلا ان مجريات الأحداث منذ نشأة هذا المجلس وحتى هذه اللحظة تؤكد ان مصالح الدول الدائمة العضوية هي التي ترسم مسار تحديد مفهوم الامن والسلم الدوليين وترسم تحركات الامم المتحدة بكافة أجهزتها.
لقد شكل قيام المحكمة الجنائية الدولية في العام ١٩٩٨ حلماً للشعوب المضطهدة، لتفعيل مبدأ عدم جواز الإفلات من العقاب لأي مجرم مهما كانت حصانته ووضعه السياسي. ولكن تحقيق هذا الحلم لم يكتمل لان المحكمة الجنائية ليس لها صلاحية على كافة الدول؛ كما أن حصر الملاحقة في بعض الحالات يستدعي صدور قرار من مجلس الامن، مما يعني أن تحريك أجهزة المحكمة الجنائية لملاحقة بعض المجرمين يستدعي قرارا سياسيا من مجلس الامن كما هو الحال الآن بالنسبة لسوريا، وهذا ما يجعل (مبدأ عدم جواز الإفلات من العقاب) مبدأً استنسابياً.
.
ان العدالة الدولية تدخلت لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة وأنشئت لذلك محكمة خاصة كما هو الحال في راوندا وكمبوديا وتيمور وغيرها من الدول وما تزال تلك المحاكم تعمل بالرغم من العقبات التي اعترتها . وأصدرت تلك المحاكم بعض الأحكام بحق عدد من المجرمين من روؤساء دول ومسؤولين فيها؛ وما زالت تلاحق البعض. ولكن الأهم بالنسبة لعمل تلك المحاكم هو أنها وضعت حدا لحالات الإفلات من العقاب بالنسبة للروؤساء والمسؤولين الذين يتمتعون بحصانات سياسية فألقي القبض على العديد منهم وحوكموا بأحكام قاسية؛ ولكن الأهم من ذلك هو أن الكثيرين من روؤساء الدول والمسؤولين فيها باتوا يدركون ان الهروب من المسؤولية الجنائية اصبح امراً صعباً.
كذلك الأمر فان قيام المحكمة الخاصة بلبنان لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والتي هي محكمة جنائية دولية مختلطة ؛ هدفت إلى محاكمة هؤلاء القتلة ومنع الجريمة السياسية المستمرة في لبنان منذ تاريخ إنشاء دولة لبنان وحتى هذه اللحظة.
وفي العراق لاتزال العصابات الميلشياوية المدعومة من الحكومة تقتل شعبها وتفجر بصورة ممنهجة مما أدى بالمنظمات القانونية للقول ان إرهاب الدولة والقضاء تمارسه الحكومة العراقية (حكومة المالكي) بحق شعبها.
أما في مصر فجرائم الانقلابيين بحق المتظاهرين سلمياً ورغم كل الادانات الدولية ، ما زالت ترتكب بحق المتظاهرين السلميين المطالبين بعودة الشرعية .
أما بالنسبة لسوريا، فهي دولة غير موقعة على اتفاق روما؛ أي على اتفاق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والانضمام إليها؛ مما يعني نظريا انه لا صلاحية للمحكمة الجنائية الدولية للتدخل في الشأن السوري. ولكن نظام روما أعطى مجلس الامن الدولي صلاحية إحالة أي ملف يتعلق بدولة غير عضو فيه إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا صدر قرار بذلك عن مجلس الامن الدولي وهو الأمر الذي لم يتم حتى هذه اللحظة باعتبار ان بعض دول الفيتو كروسيا والصين تعارضان ذلك.
كذلك فان نظام المحكمة الجنائية الدولية أعطى المدعي العام فيها صلاحية التحقيق عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة دون العودة إلى مجلس الامن عندما يتعلق الأمر بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكلها جرائم ترتكب يوميا في سوريا على مرأى ومسمع مجلس الامن ومدعي عام المحكمة الجنائية الدولية. وهذ الأخير عليه ان يواكب الفقه الجنائي الدولي الذي يتمحور حول مفهوم منع الإفلات من العقاب لأي رئيس دولة أو مسؤول عندما يرتكب تلك الجرائم .
لقد جاء قرار المملكة العربية السعودية بعدم قبول العضوية في مجلس الامن كصرخة في وجه هذه المنظومة العالمية وعدم قدرتها على مقاربة واقع الشعوب و مفهوم الامن و السلم الدوليين في معناهما الحقيقي ، لا المجازي الخاضع لمصالح الدول الدائمة العضوية، وعلى الازدواجية المعتمدة في مقاربة الجرائم . فالنظام السوري قتل أكثر من مائتي ألف سوري وشرد أكثر من مليوني شخص وهدم نصف مباني سوريا ولا يزال مجلس الامن عاجزا عن القيام بواجبه. كما لايزال الكيان الإسرائيلي يعيث فساداً ويقتل الفلسطينيين ويحتل الأراضي ويبني المستوطنات، بالاضافة الى عشرات الحالات الدولية التي تبين أن منظومة الامم المتحدة الحالية عاجزة عن القيام بواجبها المفروض في نصوصها، وحالة مسلمي ميانمار والابادة التي ترتكب بحقهم هي من الأدلة أيضاً التي تؤكد عجز الامم المتحدة عن القيام بواجبها الدولي.
ان العدالة الدولية لن تستقيم إلا بمحاكمة كل مجرم يتمتع بحصانة ويظن بانه بمنأى من الملاحقة، وهذا هو المبدأ في القانون الدولي الجنائي.
ان مساع بعض الدول التي طللبت بإحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية يجب ان يفعل لتأمين الأكثرية من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرار بإعطاء الصلاحية للمحكمة الجنائية الدولية للتحرك في الملف السوري في ظل تقاعس مجلس الامن عن القيام بواجبه و في ظل نأي مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية عن القيام بالتحقيقات المطلوبة منه
كذلك يجب العمل من اجل الضغط على مجلس الامن لإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي النظام السوري على غرار المحاكم الجنائية الدولية الخاصة .
ان اي ملاحقة جزائية لمجرمي النظام السوري ( مهما تأخرت بدايتها ) ستطال أيضاً ميليشيات الغدر والقتل العراقية واللبنانية والإيرانية ومن يقف خلفهم، والذين يشاركون النظام السوري بارتكاب أفظع أنواع الجرائم التي عرفتها البشرية.
ان الجرائم التي ترتكب يومياً بحق الشعب السوري أثبتت ان منظومة الامم المتحدة بحاجة لإعادة صياغة جديدة و فق معطيات وقواعد تضمن حفظ السلام والأمن الدوليين حقيقة وحماية الشعوب، وان ينزع حق الفيتو من الدول الخمس وان يدخل عدد من الدول في منظومة مجلس الامن كأعضاء دائمين و ان يتم تغيير المعايير الدولية المعتمدة. ولعل ذلك يكون بداية ربيع عالمي قانوني جديد في منظومة الامم المتحدة المهترئة وبذلك تكون الثورة السورية بالرغم من كل جراحها وآلامها قد بذرت اول بذور ربيع العدالة الدولية .
شكرًا لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بقلم : المحامي طارق شندب ( محام بالاستئناف، دكتور في القانون الدولي الجنائي ).
812 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع