أيام زمان ـ الجزء الرابع - المصور الشمسي

     

 أيام زمان ـ الجزء الرابع - المصور الشمسي

   

لكل شيء أصل وبداية، أو كما يسميها البعض، في البداية كان درب من الخيال، لذلك كان يجب أن يتطور مع الزمن، ولعل الأجيال الجديدة، بل حتى محترفي التصوير الفوتوغرافي الحاليين، لا يعرفون ما هو التصوير الشمسي القديم، أو كاميرا الشارع، والتصوير الفوتوغرافي أو التصوير الضوئي، مرادف لفن الرسم القديم فمن خلال العدسة يقوم المصور بإعادة إسقاط المشهد أمامه على وسط يمكن من خلاله إعادة تمثيل المشهد فيما بعد.

يعدُ التصوير الشمسي من المهن الشعبية الجميلة،التي كان لها في مدننا العراقية ، منذ مدة العشرينيات والى أواخر التسعينيات حضور واسع ومتألق، فهذه الصنعة الفنية التقليدية، لم تعد اليوم قادرة على التواصل ومواكبة التطور والتقدم الكبير، الذي حصل في تكنولوجيا الفوتوغراف وعالم الكاميرات، المثير والمدهش في تقنياته وأساليبه العلمية والفنية.

               

فكاميرا التصوير الشمسي البدائية الصنع والأداء، أصبحت لقدمها وانتفاء الحاجة إلى استخدامها شيئاً من التراث الشعبي، فهي فضلاً عن ضيق أفقها الفني، وكلاسيكيتها التي تجاوزها العصر، وفضلاً عن عجزها التقني واعتمادها الكلي على ضوء الشمس، وتخصصها بالبورتريت الشخصي النصفي، فإنها مقتصرة على التصوير السريع جداً للمعاملات الرسمية، لذلك فإن مهنة التصوير الشمسي التقطت أنفاسها الأخيرة وأصبحت الكاميرا القديمة تحفة نادرة.
المقصود بالكاميرا القديمة هي الكاميرا الخشبية القديمة، التي تلتقط الصـورة في الهواء الطلق في النهار وتحت ضوء الشمس، ومن دون رتوش وتسمى صورتها بـ(الصورة الشمسية)، التي تُستخدم للمعاملات الرسمية وللدوائر الحكومية، لأنها تعتبر أسرع كاميرا للصور في ذلك الوقت، وتظهر الصور بالأسود والأبيض فقط.
دخلت آلة التصوير للعراق عام 1895م أي قبل الحملة البريطانية على العراق ويقال إن المصور (عبد الكريم إبراهيم يوسف تبوني) وهو مسيحي كلداني من أهالي البصرة، كان قد سافر الى بومباي بالهند للدراسة وهو من أوائل الذين مارسوا فن التصوير في العراق في البصرة، بعد عودته للعراق حيث جلب معه أستوديو للتصوير الفوتوغرافي.

والعراق من أول البلدان العربية التي دخل فيها التصوير الفوتوغرافي. ومع دخول القوات الإنجليزية المحتلة الى بغداد أنتقل إليها وافتتح ستوديو للتصوير الى جانب المصور عبوش الذي كان قد جاء من لبنان للعمل مع تاجر تصوير يهودي يدعى حزقيل وافتتحا ستوديو في معسكر الهنيدي (معسكر الرشيد)، ثم افتتحا محلين آخرين عند رأس جسر الأحرار، الأول باسم عبوش وشريكه والثاني مصور (وادي الرافدين)، ومعظم عملهما اقتصر على تصوير الجنود الهنود من السيخ والكركا وجنود وضباط الجيش البريطاني ثم اشتهر المصور (بويز نجر) الذي كان يعمل بالجيش البريطاني والذي صور الجنرال (لجمن).

                        

أكثر فئة من فئات الشعب العراقي امتهن مهنة التصوير في تاريخ العراق هم أرمن العراق الذين انتقلوا الى ارض الشتات كما يسمونها ومن ضمن تلك الأراضي هي العراق حيث تجذروا فيه وأصبحوا عرقا مهما في المجتمع العراقي وتأصلوا على عاداته وتقاليده وأصبحوا تكملة من ارث العراق وحضارته مما يمتلكون من ثقافة وعادات أصيلة وعلوم وكان التصوير مهنتهم الأولى لان احتكاكهم بالاحتلال الإنكليزي حيث كانوا اغلبيهم يعملون في الترجمة ودخولهم مدارس الدومنيكان فنجد مصورين مشهورين جدا وكثيرين لم يذكرهم التاريخ في جميع أنحاء العراق من الموصل الى البصرة كما ساهم المصور المعروف شوكت تبوني، في إرساء دعائم هذا الفن رغم حداثته في العراق، وذلك عندما شارك في الكثير من البعثات التبشيرية، التي كانت تأتي لزيارة الأماكن المقدسة والمعالم السياحية، ومع هذا فقد بقي الرجال هم من امتهنوا التصوير الشمسي دون النساء،

    

حتى مجيء مصورة أرمينية الأصل تدعى (ليليان)، التي قامت بتصوير العوائل البغدادية ومنها الأسرة الملكية، حيث كانت هناك وجهة نظر بالنسبة للتصوير في المجتمع العراقي، التي ترى أن في التقاط الصورة (الرسم) يعد عيباً أخلاقيا كبيراً. فقد كان اغلب المصورين الشمسيين هم من الأرمن النازحين بعد الحرب العالمية الثانية الى العراق وبعد استقرار البعض منهم في بغداد والموصل. كانوا الى جانب قيامهم بالتصوير فهم يعملون في تصليح الساعات وأشهر هؤلاء المصور (طاطران) الذي عمل في الموصل واشتهر فيها.

إن نشاط ومكان تواجد هذه الكاميرا، كان عادةً قرب الدوائر الحكومية الرسمية في المدن الكبيرة، وبأعداد تنافسية كثيرة لتسهيل وتسريع معاملات الناس المطلوبة لها الصور لمعاملاتهم. وغالباً ما تنتقل هذه الكاميرا إلى ساحات المدارس في ذلك الوقت بأمر من إدارة المدرسة، لالتقاط الصور الشمسية للتلاميذ الجدد الذين سجلوا تواً في المدرسة اختصاراً للوقت، ومعاونةً لبعض أمور التلاميذ الفقراء والمحتاجين آنذاك.
تعتبر الكاميرا الخشبية سيدة الظرف والموقف والزمان والمكان في ذلك الوقت، وبقيت منتصبة على أرجلها الثلاث أمام جدار قديم، تغطيه وتستر عيوبه تلك القطعة السوداء من القماش، ويوجد بينهما الكرسي القديم المهلهل مكاناً لجلوس الشخص المطلوب التقاط الصورة له.
وهذه الكاميرا هي عبارة عن صندوق خشبي محكم، ضد الضوء تستند على ثلاثة مساند تشبه الأرجل قابلة للارتفاع والانخفاض حسب الحاجة، وفي مقدمة هذا الصندوق ثقب تدخل من خلاله الأشعة الضوئية المنعكسة من ذلك الشخص المراد تصويره، وهو يجلس أمام الكاميرا وتمر عبر الثقب مكونة صورة مقلوبة له على الجدار الداخلي للصندوق، الذي فيه مجر خاص على شكل حاوية صغيرة للمواد الكيمياوية، التي تتفاعل مع ورق التصوير لطبع الصورة، فيقوم المصور بسحب المجر لإخراج الورقة وغسلها بالمواد لتثبيت الصورة ومن ثم إخراجها صورة معكوسة الجوانب والألوان أي يكون الأبيض اسود والأسود ابيض وتسمى (الجامة) بعد ذلك يقوم المصور بلصقها مقلوبة على الخشبة المعدة لذلك والمتحركة إلى الأمام والخلف أمام العدسة أشبه بالسلايد ويفتح العدسة عليها وذلك برفع غطاءها ليلتقط لقطة ثانية للصورة لكي تكون حقيقية وبالعد المطلوب للوقت تصبح الصورة الحقيقية جاهزة يستخرجها من المجر الخاص لذلك وهي متلاصقة ليقوم بفصلها بواسطة المقص كل صورة على حده. ترافق الكاميرا قنينة المواد الكيمياوية وكذلك المقص لقص الصور به. ومن الملاحظ غالبا ما تكون أصابع يد المصور وأظافره مصبوغة باللون البنفسجي من جراء العمل بتلك المواد الكيمياوية والذي لا يمكن إزالته بسهولة بسبب استمراره بالعمل.

                                 

وعند حضور أحد الأشخاص طالباً التقاط صورة شخصية له، يأمره صاحب الكاميرا أن يجلس على الكرسي المخصص للجلوس ليقوم بتعديل جلسته وهيئته وكذلك تعديل وضع رأسه أما برفعه أو خفضه وإغلاق أزرار ثوبه المفتوحة وتعديل عقال رأسه أو إعطائه مشطاً لتصفيف شعر رأسه إذا كان حاسر الرأس، ثم يذهب المصور ليرى جلسة الشخص من خلال الكيس الأسود الطويل المفتوحة نهايته.
فيعود المصور ويرفع غطاء العدسة لفترة وجيزة تقدر بالعد أرقاما في نفسه من 1 إلى 5 أو أكثر، أو برهة من الوقت ويغلقه بعد التقاط الصورة، يقوم المصور بالنظر بعين واحدة من خلال الفتحة المتحركة والموجودة أعلى الصندوق الخشبي، ويده ممتدة داخل الكيس الطويل الأسود لتكمل بقية خطوات الصورة والعدد المطلوب..
وفي النهاية يقوم المصور بإخراج الصور بالأسود والأبيض على شكل قطعة واحدة فيقوم بالقص وفصل الواحدة عن الأخرى بواسطة المقص الخاص به ومن ثم ينشفها معرضاً إياها إلى الهواء، ثم يسلمها لصاحبها قابضا حينها منه الثمن المطلوب وهو خمسون فلساً عن كل صورة آنذاك.
هذا إذا مرت عملية التصوير بنجاح، أما إذا كانت فاشلة وغير سليمة فيعبر عنها المصور قائلاً (صورتك طلعت محترگة) أو (احترگت صورتك) فيطلب من زبونه العودة مرة أخرى للجلوس على الكرسي ليأخذ له لقطة جديدة أخرى ليتبع الخطوات السابقة نفسها من جديد.
إن الكثير من العائلات العراقية تحتفظ لأقاربها ببعض الصور الشمسية وخاصة الأموات منهم لتبقى صورهم الشمسية محفوظة للذكرى في البومات العائلة.. ومنهم من يعتز بتلك الصور التاريخية فيقوم بتكبيرها أما عن طريق التخطيط اليدوي لها، أو تكبيرها بواسطة الفانوس السحري المصنوع باليد أو بالكاميرات البدائية الخاصة. ومنهم من يقوم بتكبير وتلوين تلك الصور لتصبح صورة ملونة لدى بعض المصورين المختصين بذلك، يقوم محبي أصحاب الصورة هذه واعتزازا منهم بها بتزجيجها وتأطيرها وتعليقها في غرف الاستقبال في بيوتهم بعد إضافة الاسم وتاريخ الوفاة وكتابة كلمة الفاتحة عليها ووضع
الشريط الأسود في الزاوية العليا اليسرى باعتبار إن صاحبها متوفى.

          

إن كاميرا التصوير الشمسي هي بمثابة ستوديو مصغر ففي الصندوق تتم عملية التصوير والتحميض وتجهيز الصورة الشخصية لذلك فإن ضبط نسب المحلول مهمة جداً في التصوير الجيد والفني. ولكي يجهز المصور محلولاً يكفيه للتصوير في يوم عمل كامل فإنه يحتاج إلى لتر واحد من المواد الآتية: ملعقة شاي كل من (كربونات، سلفات، هيدريكول، ميتول) وعن المواد الأولية التي يستخدمها المصور المحلول والورق والأفلام والحبر الأحمر وهي كلها مستوردة. ثم تجفف وتقص. وقد تحتاج الصورة إلى رتــــــــوش فاللون المعاكس للأسود في الصورة هو الأبيض فعندما يطغى السواد على بعض مناطق الوجه فلابد من تبييضه لإبراز ملامح الصورة وجماليتها وعملية التبييض هذه هي التي يصطلح عليها بـ(الرتوش) ويستخدم لذلك الحبر الأحمر لأنه مادة قريبة من اللون الأسود وله قدرة على إظهار المعاكس للأسود وهو الأبيض فهو مادة تبييض جيدة. يستخدم الحبر الأحمر بوساطة فرشاة خط صغيرة لوضع اللمسات الخفيفة التي تزين الوجه.
وكانت مهنة التصوير أيام زمان إحدى المهن الأساسية المهمة التي لا يستغني عنها المجتمع وكانت تضم أعداداً كبيرة من المشتغلين بها يسترزقون منها ويعيشون عليها رغم قلة عائدها، وينتشرون في الميادين العامة وأمام المؤسسات الرسمية باحثين عن أرزاقهم، وغالباً ما يكون المصورون من أسرة واحدة يتوارثون هذا العمل عن بعضهم ويحدث كثيراً أن يوجد في مكان واحد الآباء والأبناء والأخوة وأولاد العم، ويتمرن الابن مع والده أو أحد أقاربه على “كاميرا” أبيه المنصوبة ثم يستلم العمل ووحده بعد أن يتعلم أصول المهنة في تركيب الأفلام وأخذ الصور وفي كيفية التقاط “الزبون” أيضاً.
واليوم وبعد أن حصل التطور العلمي وتوفرت أنواع الكاميرات الحديثة وكثرت محلات التصوير (الأستوديوهات) في المدن ودخلت الإلكترونيات بقوة وأحدثت قفزة نوعية في عالم التصوير والتلوين أضف إلى ذلك وجود أجهزة الموبايل المتطورة والمختلفة النوعيات والشركات لم نعد نسمع للكاميرات القديمة وجودا ولا حتى أثرا لها يذكر واختفت عن الوجود بسرعة البرق. ثم توالت الاكتشافات في مجال الصورة الفوتوغرافية وصولاً الى الفرنسي " وليم فوكس" الذي نقل نظام الصورة على الورق المقوى. وفي الأعوام الأخيرة انتعشت مهنة التصوير الفوتوغرافي بعد أن ذهب المصور الشمسي وكاميرته الخشبية الى متحف الذكريات، ليبدأ عصر جديد ساهم فيه العديد من مصوري العراق الذين ارشفوا تاريخ العراق وبغداد ومنهم المصور (جان) صاحب ستوديو بابل، كذلك ستوديو قرطبة لصاحبه (أموري سليم) والمصور (حازم باك) والمصور (أكوب) وسامي النصراوي ومراد الدغستاني وجاسم الزبيدي واحمد القباني وغيرهم.
المصادر:
• مهنة التصوير وأشهر محلات التصوير في بغداد / من كتاب بغداد في العشرينات / عباس البغدادي
• كتاب دراسة في طبيعة المجتمع العراقي / الدكتور علي الوردي. كتاب ملوك العرب / أمين الريحاني
• تاريخ الكاميرا في العالم / من موقع ويكبيديا الموسوعة الشاملة.
• أوائل المصورين في العراق

للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:

https://algardenia.com/mochtaratt/47419-2021-01-07-18-11-43.html

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

703 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع