شفق نيوز-تشهد بحيرة عَنه في محافظة الأنبار كارثة بيئية صامتة، بعد أن انخفض منسوب مياهها إلى أدنى مستوى منذ عقود، ما أدى إلى فقدان واسع للتنوع الأحيائي، وهجرة شبه كاملة للطيور والأسماك والكائنات الدقيقة التي كانت تستوطن ضفافها.
هذه البحيرة، التي كانت يومًا موئلًا طبيعيًا لمئات الأنواع، باتت اليوم مرآة عاكسة لواقع العراق المائي المتأزم في ظل غياب العدالة في تقاسم مياه الأنهار مع دول الجوار.
ويقول أستاذ علم البيئة بجامعة الأنبار عثمان خلف، إن "بحيرة عنه كانت واحدة من أغنى المسطحات المائية في غرب العراق، نظرًا لبيئتها المعتدلة نسبيًا وتنوع طبوغرافيتها".
ويضيف خلف لوكالة شفق نيوز: "كنا نوثق فيها أكثر من 60 نوعًا من الطيور المقيمة والمهاجرة، فضلًا عن أكثر من 20 نوعًا من الأسماك والكائنات المجهرية التي كانت تشكل قاعدة السلسلة الغذائية. اليوم، فقدنا أكثر من 70% من هذا التنوع بسبب الجفاف الحاد وانحسار المياه."
ويحذر خلف من أن فقدان هذه الأنواع لا يعني فقط كارثة بيئية، بل أيضًا انهيارًا لمنظومات بيئية متداخلة كانت تساهم في التوازن الطبيعي.
ويتابع: "الجهات الرسمية ما تزال تتعامل مع البحيرات كخزانات مائية وليس كنظم بيئية يجب الحفاظ عليها. وهذه الرؤية الكارثية هي ما تسرّع من زوال بحيرة عنه".
بدوره، قال إعلام قائممقامية قضاء عنه، إنه "رغم التحديات المستمرة التي تواجه قطاع الثروة السمكية، إلا أن انخفاض منسوب المياه هذا العام لم يكن العامل الأبرز في تراجع الإنتاج، مقارنةً بتأثير الصيد الجائر والعوامل الأخرى".
وأكدت القائممقامية لوكالة شفق نيوز، أن "منسوب المياه في نهر الفرات خلال هذا العام، وعلى الرغم من الشحة العامة، يُعدّ أفضل نسبياً من السنوات السابقة، وهو ما ساهم في تقليل حجم الضرر المتوقع على الثروة السمكية".
وأشارت إلى أن "هناك تراجعاً عاماً في حجم الإنتاج، لكن لا يمكن إرجاعه حصراً إلى شح المياه، بل يجب النظر في مجمل العوامل المؤثرة، وفي مقدمتها الصيد العشوائي وغياب الرقابة البيئية".
من جانبه، يرى الباحث في شؤون المياه، قاسم الراوي، أن ما يحدث في بحيرة عنه هو نتيجة مباشرة لأزمة شاملة في إدارة الموارد المائية، وانعدام التوازن في الاتفاقات الموقعة مع دول المنبع، خصوصًا تركيا وإيران.
ويضيف الراوي لوكالة شفق نيوز، "منذ عام 2003، لم تنجح الحكومات العراقية في إبرام اتفاقيات ملزمة لتقاسم عادل لمياه نهري دجلة والفرات، كل ما لدينا هو تفاهمات فضفاضة، بينما تبني تركيا أكثر من 22 سدًا دون أي مراعاة لحاجة العراق وسوريا".
ويشير إلى أن بحيرة عنه تعتمد بالدرجة الأولى على مياه نهر الفرات، الذي بات تدفقه لا يتجاوز 35% من حصته التاريخية.
ويوضح، أن "البحيرة لم تصمم لتتحمل هذا الانخفاض الطويل الأمد، المياه التي تصلها اليوم لا تكفي للحفاظ على عمق بيئي طبيعي، وبالتالي تبدأ الحياة فيها بالزوال تدريجيًا".
ويؤكد الراوي أن "معالجة المشكلة لا تكمن فقط في مطالبات دولية، بل في إعادة هيكلة الإدارة المائية داخل العراق، وتفعيل خطط الحصاد المائي وتنقية مياه الصرف المعاد ضخها إلى الأنهار".
فيما يقول الناشط المدني زهير خميس، وهو من أهالي قضاء عنه "نحن أبناء المنطقة نرى الموت اليومي للبحيرة التي كانت جزءًا من ذاكرتنا وحياتنا الاقتصادية والاجتماعية، قبل سنوات، كانت مصدر رزق عشرات العائلات من الصيادين، وملتقى للطيور في مواسم الهجرة. اليوم، تحولت إلى أرض جرداء".
ويضيف خميس لوكالة شفق نيوز، أن "الروائح الكريهة تنتشر من الطين المكشوف، والمياه الراكدة صارت مرتعًا للحشرات والأمراض الجلدية، الأطفال الذين كانوا يسبحون فيها، صاروا اليوم يمرضون من مجرد الاقتراب منها".
ويحمّل خميس السلطات المحلية والوزارات المعنية مسؤولية الصمت والإهمال، مشيرًا إلى أن "منظمات المجتمع المدني طالبت مرارًا بخطة إنقاذ، دون أي تجاوب حقيقي".
ويؤكد الناشط، أن "البيئة ليست رفاهية، نحن نختنق، نخسر الطبيعة والهوية، ولن يعيد الزمن ما نخسره الآن، إذا ماتت البحيرة، فإن عنه كلها مهددة بالجفاف الاجتماعي".
ويعاني العراق منذ أكثر من عقد من تراجع متسارع في مناسيب المياه بسبب التغير المناخي، وزيادة إنشاء السدود على منابع دجلة والفرات في تركيا وإيران، إلى جانب سوء الإدارة الداخلية، ووفق تقارير رسمية وأممية، خسر العراق أكثر من 50% من أراضيه الزراعية الصالحة، كما تراجعت مستويات المياه في سدود الفرات بشكل مقلق.
ورغم وعود متعددة من الحكومات المتعاقبة، لم ينجح العراق حتى الآن في إبرام اتفاقات مائية ملزمة تحفظ حصصه التاريخية، في ظل اعتماد تركيا سياسة مائية مجحفة، وتكرار قطع إيران لمجاري الأنهر الحدودية.
796 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع