أيام زمان الجزء التاسع عشر - خياط الفرفوري

      

        أيام زمان الجزء التاسع عشر - خياط الفرفوري 

    

العراق من أكبر الدول العربية وأكثرها تنوعًا، من ناحية اللهجات والثقافات والعادات والتقاليد، يستخدم العراقيون كلمة "فرفوري" للإشارة إلى الخزف أو البورسلان، والمعروف استخدامه لصناعة الأواني المنزلية، كالصحون وأباريق الشاي والأطباق الكبيرة، كما يستخدم في صناعة التماثيل، فيُقال "ماعون فَرْفُورِي" أي طبق من الخزف، كما يُصنع البلاط من الخزف أحيانًا لتزيين الأرضيات في الأبنية.

يقول صاحب تاج العروس: "وقوْلُ العَامَّة: الفُرْفُورِيّ، لهذا الخَزَفِ الذي يُؤْتَى به من الصِّين غَلَطٌ، وإِنّمَا هو الفُغْفُورِيّ نسبهً إِلى فُغْفُور مَلِكِ الصِّين، كانَ في طاعتهِ الملوك الحاكمين في البلاد الواسعة، الواقعة بين الحلة والصين، وقد دامَ حكمهُ 62 عام وهو من السلالة الارشكية، ومن الممكن أن تكون فئة من الملوك الارشكيين إن لم يكونوا جميعهم قد لقبوا ب بغبور ابن الآلهة، وأصبح شكل آخر لكلمة فغفور وهو فخفور التي يعتقد أن كلمة فخار قد اشتقت منها، كما أننا نرى أن كلمة فرفوري العامية ويُقصَد بها الخزف الصيني ما هيَ إلا تحريف ل فغفوري.
تعتبر مهنة إصلاح الأواني الفخارية، وكذلك الأواني التي تصنع من الطين اللين من المهن القديمة، والتي تزامن ظهورها مع ظهور صناعة الفخار والأواني الحجرية. وقد تطورت هذه المهنة عبر الزمن، وشملت إصلاح الأواني الفخارية والخزفية والزجاجية، وبقيت في صورتها التقليدية حتى عهد قريب. هذا، وقد ظهرت أنماط حديثة لهذه المهنة، متمثلة في مهنة ترميم التحف والأواني الأثرية، والأواني المهمة، أي التي لها رمزية مهمة أو ذات الثمن الغالي.
تشير نتائج التنقيبات الأثرية إلى أن مهنة إصلاح الأواني الفخارية أو الحجرية، ظهرت في الحضارات التي نشأت في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من 8000 عام، كما تشير الدلائل الأثرية إلى أن هذه المهنة، ارتبطت في الغالب، بالأواني الأثرية ولها حدث وعالية الجودة، وتم العثور على آنية نُذرية تعود إلى حقبة الوركاء، وهي آنية تحمل رسومات تمثل تقديم الطعام إلى الآلهة، هذه الآنية انكسرت في تلك الحقبة القديمة، وتم إصلاحها بعناية شديدة عن طريق صنع ثقوب في القطع المكسورة، وإعادة لصقها باستخدام قطع من النحاس. هذا وقد تعددت طرق إصلاح الأواني الفخارية في الحقب القديمة، وقد اشتهرت طريقتان في الحضارات التي قامت في الشرق الأوسط، الأولى، باستخدام النورة، حيث تطلى المناطق المكسورة أو الثقوب الموجودة في الفخار بالنورة.

         

أما الطريقة الثانية، وهي الطريقة الأكثر انتشاراً، والتي بقيت حتى العصور الحديثة فهي عملية خياطة الآنية، وذلك بثقب الأجزاء المكسورة بمثقاب خاص، ومن ثم لصق هذه الأجزاء مع بعض باستخدام خيوط أو قطع من النحاس، وقديماً كان يستخدم القار كمادة لاصقة توضع بين القطع المكسورة، وهذه المادة تم استبدالها في العصور الحديثة بالشحم وبياض البيض، بالإضافة إلى أنواع أخرى من المواد اللاصقة، وعثر في مدينة الكوفة في تلِّ الصياغ، على صحن كان مكسورًا، يعود إلى القرن الثامن الميلادي، وقد أجريت عليه عملية تصليح وصيانة في تلك الفترة، إذ جرى تصليحه بمسامير حديد، والذي يعود إلى نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، دليل كبير على أثرية المهنة حيث تظهر عليه آثار الخياطة التي جرت عليه في حينه.
أيام زمان تصنع الأواني والأباريق من خليط مواد بعضها مصنوع من الخزف، وبعضها من الطين أو الزجاج، ويتفنن المهرة في صناعتها، ففي السابق كانت حرفا يدوية يصنعها أحد المهرة الفنانين، مما يجعل سعرَها مرتفعا، ويزداد السعر كلما زادت قيمة المصنوع الفنية من حيث الزخارف والألوان، ويكتب توقيع المحترف، أما اليوم فقد ساهمت المصانع وتوفر المواد الأولية، ووسائط النقل في انخفاض الأسعار، ما جعل أسعارها شبه مجانية، وجعل أغلب الناس لا تعبأ بتكسر الأواني أو تهشمها، فالحياة البسيطة، والحرمان، وضعف الوضع المعيشي، وحرص الإنسان على الحفاظ على أوانيه وحاجياته المنزلية، كلها عوامل ساهمت في ازدهار مهنة خياطة الفرفوري.

          

لم تعد هذه المهنة موجودة حاليا، واختفت تماما من الوجود لارتفاع القدرة الشرائية لدى الناس، واختفاء من يزاولها، لتبقى شيئا من التاريخ وتندرج من ضمن الموروثات الشعبية العراقية، ولم يبق منها إلا اللوحات والصور المحفوظة للذكريات الجميلة، مع بعض الأواني والأطباق القديمة والتي صلحت.
لم تكن مهنة تصليح الصحون والأباريق والأواني وخياطتها، مهنة شعبية من التراث القريب كما صنّفها الكثير من المؤرخين والباحثين والصحفيين، فقد أثبتت التنقيبات الأثرية، أن خياطة (الفرفوري) مهنة أثرية بدأت قبل الميلاد، لقد انقرضت هذه المهنة التي عاشت منذ عشرات السنين وظلت قائمة حتى خمسينات القرن الماضي، وقد كان أكثر من يزاولها هم الإيرانيون المتواجدون في العراق، خلال تلك الحقبة الزمنية من التاريخ تاركةً خلفها الذكريات.

     

خياطة الفرفوري من الحرف التي انتشرت في العراق، والاعتزاز بالقطعة المكسورة واقترانها بذكرة شخص غائب عن العائلة، كلها تدفع العائلة للاحتفاظ بحاجياتها القديمة، باعتبارها (أنتيكة)، ومن الخطأ الاستغناء عنها ولم تتعود العائلة العراقية في ذلك الزمن على التجديد، كما هو اليوم وعليه من النادر استبدال التآلف إلا إذا فقد افتراضية الانتفاع منه، ثم أن ربات البيوت بشكل خاص يعتزون بالنفائس من الحاجيات والمواد المنزلية، لأنها كانت جميعها مستوردة لذلك تفضل النساء إصلاحها بدل أتلافها ورميها، ولان مثل هذه الأوعية كلها من الخزف الصيني غالية الثمن نسبياً باستثناء (الكتلي) المصنوع من المعدن. كان خياط الفرفوري يتنقل بين الأحياء السكنية والأزقة القديمة والمناطق الريفية المجاورة لمركز المحافظة، وخاصة بيوت العوائل الغنية والمعروفة، ينشد لهم فيها خيّاط الفرفوري بصوته الصدَّاح، ويصلح بأنامله تلك الحاجيات، لعله يعيد إلى الناس بسمتهم، بإصلاح ما تكسَّر من أباريقهم وأوانيهم.
وبهذه الصيحات المألوفة له لدى الجميع (خياط فرفوري... فرفوري خياط)، يتجمع الأطفال حوله وكل يريد أن يرشده على بيت والدته طلبا لخدماته، فتخرج النساء وتقف عند عتبة الباب تحملن بأيدهن من الأباريق والصحون المصنوعة من الفرفوري التي تعرضت للكسر، وتجري المعاملة والاتفاق على قيمة الأجر الخاص لكل إناء مقدما. بعد انتهاء العمل يستلم خياط الفرفوري المبلغ المتفق عليه وان لم يكن مالاً فبالمقايضة وغالباً ما تكون بالدهن الحر أو الرز العنبر أو غير ذلك.

     

     
من الملفت للنظر أن الرجال لا يتدخلون في هذه الحالة على الأطلاق وذلك يعزو لسببين أولهما انه في هذا الوقت الذي يحضر صاحب هذه المهنة للعمل يكون معظم الرجال في أشغالهم أو في الدوام الرسمي، وثانيهما يترفع الرجال الى مثل هذا العمل لأنه له مساس بالشخصية والمقدرات.

             

وأكثر هذه العوائل تمتلك صحون نادرة فيها صور ملوك ورؤساء وفنانين مصنوعة يدويًّا بيد محترفين، عليها إمضاء صانعها واسمه، وهذه سعر شرائها مرتفع جدًا، وتحتاج إلى مهارة ودقة في عملية تصليحها، ويطلب صاحب المهنة أجورًا مرتفعة حسب نوعية المادة وصناعتها وقيمتها الشرائية، لأنها تحتاج إلى وقت طويل وجهد ودقة في العمل، ويتكفل بإعادة التحف والمزهريات والأنتيكات الكبيرة والثمينة التي تتعرض للكسر الى شكلها الأصلي وإصلاحها، وكان عمله يلقى الرضا والقبول من العوائل كونهم يعتزون بهذه التحف الثمينة، وكانوا كرماء معه في الدفع، فلا يقوم الخياط بلصق الصحن أو القوري والإبريق، لأنها طريقة فاشلة، بل يخيطها بسلك رفيع من أجل المحافظة عليها. وكان اغلب زبائن خياط الفرفوري هم أصحاب المقاهي لخياطة قواري الشاي الثمينة النادرة. إذ يقوم هذا الخياط بتحزيمه بأشرطة معدنية تفاديا لكسره بالحرارة المستمرة، وغالبا ما يكون هذا العمل بشكل هندسي جميل.
وطريقة تصليح إبريق الشاي (القوري) يتم بوضع قاعدتين دائريتين مصنوعتين من الحديد أو النحاس في أعلى الإبريق وأسفله، ويقوم الخياط بتوصيلهما بواسطة قطع معدنية، ويصبح شكله مثل شبكة تحيط بالإبريق تقيه الكسر وتحميه. أما الأواني والصحون، وبعد ثقب في قطعتي الإناء المكسور من الجهتين، يربطهما بواسطة قطعة معدنية صغيرة، بعدها يضع مادة صمغية سريعة التصلب، ليقوم بلصق المادة بعد ربطها بالمسامير النحاسية أو الحديدية، من أجل إرجاعه إلى ما كان عليه قبل الكسر.
هذا الرجل كان يرتدي الدشداشة أو البنطلون الواسع، والقميص والسترة أو مع كيوه بيضاء ويضع على رأسه (عرقجين) يلف عليه (جراوية) بغدادية، يقوم صاحب المهنة بفرش قطعة من القماش أعدها خصيصا لهذا الغرض، في ظل أحد البيوت ويجلس عليها وله جلسة خاصة أثناء عمله، فهو يثني رجله اليمنى أو اليسرى فيجعل مستوى ركبته بمستوى صدره، متكئاً عليها تساعده في ثبات ودقة العمل، خاصة في تثقيب الخزف وطرق الشرائط المعدنية، يحمل عدته التي دون عناء في خرج يضعه على كتفه، وهو يجوب في الأزقة والحارات.
بعدما يتفق مع صاحب القطع المكسورة، ينزل كيس العدة من على كتفه ويخرج أدواته من الخرج، وهي أدوات عمله الخفيفة كالأسلاك الرفيعة (السيم) وشرائط معدنية لا يتجاوز عرضها العشرة ملم، وعلبة من مسحوق البورك، وعلبة تحتوي على سائل بياض البيض، وقوس (كوز) صغير يستخدم في دوران مثقب خشبي، يحمل في نهايته قطعة حديدية تشبه المسمار يستخدم في ثقب الجهة الخلفية للوعاء المتصدع أو المكسور بقدر ما يمكن للسلك المعدني الدخول فيه. وهناك أيضا بعض الأدوات كالمطرقة الصغيرة والكماشة بالإضافة لقطعة قماش للتنظيف.
وأثناء عمله غير آبه بالعيون التي تحدق بعجب وانبهار من قبل النسوة والأطفال، الذين يلتفون حوله وقد تسمرت أعينهم عليه، يبدأ بعمله ويضع القطعة المكسورة بجوار القطعة الأخرى، ليقوم بالتأشيرات عليهما بالقلم ومن ثم بثقب ما تم تأشيره بواسطة المثقب اليدوي، بتثقيب القطعتين المكسورتين ثقوب متقابلة، فبواسطة مبرد ناعم جدا ينظف القطع المكسورة يقوم ثم بربطهما بسلك معدني بقوه قد أعده مسبقا للعمل، ويضع مادة رابطة شديدة التماسك والتصلب تمنع النضوح إذا ما ملئ الإناء بالسوائل وهي النورة المخلوطة ببياض البيض. ويتأكد من عدم نفاذ السوائل من الإناء وبعد أن ينهي الخياط عمله هذا يكون الإناء قد اكتمل العمل فيه وقد عاد الى شكله السابق فيقوم بمسحه من كل ما تعلق به من أثار العمل ليسلمه الى صاحبته ويستلم قيمة الأجر المتفق عليه.
ويعرض في احدى قاعات المتحف البغدادي مجموعة لوحات زيتية لرواد الرسم العراقي والتي تمثل تقريباً معظم المهن والتقاليد والعادات والمناسبات التي يمارسها أهل بغداد ومن هذه المهن هي مهنة خياط الفرفوري مازالت هذه الشخصية يعيش بيننا رغم انقراض مهنة تصليح الأواني والأباريق، فلا بد من الالتفات لهذه المهنة التي عاشت مع المجتمع العراقي سنين طويلة، وحافظت على مقتنياته الخزفية والطينية عبر مئات الأعوام، بحلاوتها ومرارتها، وحتى لا ينقرض هذا التراث، فهي دعوة للمهتمين لتوثيق وجمع الأدوات. فربّما يصبح المتحف البغدادي يوما، شاهدا حيا على تأريخ العراق العريق.
المصدر
وكالات ، مواقع التواصل الاجتماعي.
الموروث الشعبي العراقي رحيم المبارك

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

902 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع