أيام زمان الجزء -٣٧ - التنور

 أيام زمان الجزء-٣٧-التنور

يعتبر اكتشاف الإنسان للنار وكيفية إشعالها، والسيطرة عليها واستخدامها، من اكتشافاته الأولى، ومن الواضح أن النار لعب دوراً هاماً وحاسماً في تطور البشرية، ومن المؤكد أن هذا الاكتشاف قد عاد على الجماعات البشرية، بالعديد من الفوائد، خلال رحلة الإنسان على مر العصور وهو في سعي دائم لتوظيفها في حياته اليومية، وبالذات في مجال إعداد طعامه الذي يشكل رغيف الخبز أهم عناصره، وقد ابتكر أنواعاً مختلفة من المواقد الطينية لإعداده، بعضها ما يزال مستخدماً حتى الوقت الحاضر، وإن كانت في تراجع مستمر وسريع، ليحل مكانها وسائل إعداد الخبز الميكانيكية الحديثة.

منذُ القدم ارتبط الخبز بمختلف الموائد حول العالم وبشكل خاص مع الموائد، ولطالما كان للخبز قيمة معنويّة مرتبطة بالحياة، وحتّى بمدلولات اجتماعيّة كاستخدام جملة (صار بينا خبز وملح) أي بمعنى عِشْرَة طيّبة وعلاقة وَطِيدَة، كما أنَّ له رمزيّة معيّنة وأهميّة كبيرة، فالرمز المسماري للأكل، هو علامة (الفم) مع علامة (الخبز) في داخله، وكلمة (أكالو) الأكدية تعني «يأكل»، وكلمة (أكلو) تعني خبز. وتفيد السجلات الآثارية بأن سكان وادي الرافدين القدامى كانوا يصنعون أكثر من ثلاثمائة نوع من الخبز، الفطير وغير الفطير. وعندما تعلم أنكيدو (في ملحمة كلكامش) كيف يأكل مثل سائر بني البشر (بدلاً من ارتضاع الحليب من حيوانات البر)، كان أول شيء تعلمه هو أكل الخبز: «كل الخبز، يا أنكيدو، بهجة الحياة».
بينما يعتبر جبران خليل جبران أن تقاسم الخبز يعني الإنسانية ويقول في ذلك: "نصف الرغيف الذي لا تأكله يخص الشخص الآخر"، كما استخدمه الشاعر محمود درويش، ليكون رمزا للمحبة والحنين لوالدته عندما قال: "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسةِ أمي".

وأقدم الأدلة على استخدام التنور تعود للعصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري، حيث عثر في عدة مواقع على العديد من قطع من الطين المحروق، وكان أجدادنا العراقيون، يأكلون رغيف الخبز الذي يخبز في التنور (وهي كلمة بابلية) كان سومرياً، ولعل خبز العروق المعاصر (وهو خبز بلحم وبصل وتوابل) ذو جذور بابلية أيضاً، وما يزال رغيف الخبز يمثل العنصر الرئيسي في الغذاء اليومي، لسكان بلاد الرافدين بمناطقه المختلفة، وكذلك الأمر
بالنسبة لبقية الدول الأخرى كما هو الحال في العديد من مناطق العالم المختلفة.
ووفقا للمصادر التاريخية فأن استخدام التنور الطيني في العراق، يعود إلى الحضارات السومرية والبابلية، وهي من
الحضارات التي كانت تعطي اهتماما لأفران الخبز والتنانير الطينية، حيث كانت لصناعة الفخار وظيفة واحدة هي تلبية احتياجات الإنسان، الذي أخذ يصنع أدواته المستعملة في الحياة اليومية، كالتنور والأواني الفخارية والجرار وغيرها من متطلبات الحياة، كما تعتبر بقايا المواقد الطينية من بين المخلفات الأثرية الشائعة في العديد من المواقع الأثرية، التي جرت بها أعمال تنقيبات أثرية في مختلف مناطق وادي الرافدين.
والأدلة على استخدام المواقد الطينية، بغض النظر عن طبيعة استخداماتها قديمة جداً، وتعود إلى العصر الحجري القديم المتأخر، والمجتمعات القروية الزراعية، في كافة مناطق بلاد الرافدين والتي ما تزال تستخدم التنور في الوقت الحاضر، وتشير المصادر التاريخية انه اكتشف أقدم فرن صنع من الطين في التاريخ بمدينة بابل الأثرية ويقال انه يرجع الى 4000 عام قبل الميلاد.

التنور (الجمع: تَنَانِيْر) نوع من أنواع الأفران الطينية، التي يخبز بها الخبز في العراق ودول أخرى، تعود بجذوره إلى عصور زمنية قديمة. وهي من الظواهر التي توارثتها الأجيال وتناقلتها من جيل إلى آخر.
والتنور هو أيضاً عبارة عن موقد للخبز يصنع من الطين المخلوط ببعض المواد، مثل الطين الذي يستخدم في صناعة الطابون، ويصنع أيضاً على مراحل، تبدأ من الأسفل نحو الأعلى كما هو الحال في صناعة الطابون، إلا أنه يختلف عنه من حيث الشكل، (الطَّابُونُ: الموضعُ الذي تُطْبَنُ فيه النارُ، أي تُدفَنُ فيه لئلاَّ تَطْفَأَ، ويطلقُ الآن على المخبز أَو الفرن).

فالتنور يأخذ تقريباً شكل الجرة الكبيرة بدون رقبة وواسعة الفوهة، تتراوح أحجام التنور فمنها ما هو صغير الحجم ومنها كبيرة الحجم، وقد يصل ارتفاعه إلى 1م أو أكثر، وعرضه يتراوح بين 40-50سم. ويستخدم التنور صغير الحجم حالياً للأغراض المنزلية، في حين أن التنانير ذوات الأحجام الكبيرة تستخدم لأغراض تجارية في المخابز والمطاعم.

في السنوات الأخيرة غزا التنور المعدني الذي يعمل على الغاز البيوت، لأنه أكثر عملية بالنسبة لأم البيت من التنور الطيني، حيث يمكن نقله بسهولة بعكس التنور الطيني الثابت. ومن مساوئ التنور المعدني هو فقدان الخبز إلى المذاق الخاص واللذيذ لخبز تنور الطين، على الرغم من التطور والحداثة والتغيرات المدنية التي شهدها العراق في السنوات الأخيرة، مازال الكثير من المواطنين يفضلون وجود خبز التنور الطيني على مائدة الطعام اليومي، لذلك أخذت صناعة التنانير الطينية لتؤكد موقفها المبدئي الثابت على الولاء للعائلة العراقية، فهي الأجدر والأوفى في مثل هذه الظروف الصعبة، حيث لجأت العوائل العراقية إلى شراء التنانير الطينية من القرى والأرياف التي تمسك أبناؤها بهذا التكوين الطيني، الذي لا يخضع لتقلبات الوضع ومتغيرات التطور والحداثة، إذ تفضل كثير من العوائل في القرى والأرياف انتقاء التنور الطيني، رغم انتشار وتطوير تقنيات التنور الغازي لأن نكهة الخبز كما يؤكد القرويون تكون أكثر طعما من التنور الغازي.
ليس للتنور قاعدة من نفس مادة الطين، فهو يثبت بعد الانتهاء من عملية التصنيع والجفاف على قاعدة حجرية،
وفوق مستوى سطح الأرض. وعادة ما يكون له فتحة صغير في أسفله لإخراج الرماد ودخول الهواء وبعد تثبيته في مكانه الدائم، فوق القاعدة الحجرية، يحاط بما يشبه الجدار من الطين والحجارة الصغيرة، لحمايته وللمحافظة على الحرارة بداخله، أثناء عملية تشغيله.

وتتم عملية الخبز بوضع (إلصاق) الأرغفة على جدران التنور الداخلية، وليس على قاعدته كما هو الحال في الطابون. وتكون عملية إعداد الخبز من خلال وضع الأرغفة، تباعاً، على ما يشبه المخدة الدائرية، ثم تدفع بقوة لتلتصق على جدران التنور الداخلية.
كما يختلف التنور عن الطابون من حيث طريقة وآلية استخدامه، فهو لا يحتاج إلى عملية إحماء مستمرة، كما هو الحال في الطابون، وإنما يحمى قبيل الاستخدام مباشرة، بإشعال الوقود في أسفله من الحطب وغيره من مواد الوقود الصلبة، ويمكن الخبز أثناء عملية اشتعال الوقود، كما أن التنور يمكن إحمائه باستخدام أنواع أخرى من الوقود مثل النفط والغاز، خاصة تلك المستخدمة في الوقت الحاضر في المخابز والمطاعم.
بالإضافة إلى التنانير الطينية، فقد أصبح التنور يصنع حديثاً من المعدن، بشكل البرميل أسطواني الشكل، وبأحجام مختلفة، واستخدامه شائع في العديد من الدول العربية وخاصة في منطقة الجزيرة العربية، ويستخدم التنور سواء في المنازل أو في المطاعم، لإعداد الخبز، وطهي بعض الأطعمة، التي لا تتم إلا بواسطته، مثل المندي على سبيل المثال.
لم يكن لتقدم التكنلوجيا تأثيراً كبيراً على هذا الحرفة، فالمواد الداخلة في صناعة التنور الطيني هي الطين الأحمر الحر أي الصلصال حيث يحضر الطين ويخلط جيداً ويخمر، ويبدأ الحرفي يصنع من هذا الطين حلقات بقطر حوالي 1 متر وبارتفاع حوالي 20 سم وسمك حوالي 3 سم تترك لتجف يعمل من هذه الحلقات العدد وبأقطار تشكل مع بعضها التنور والذي يكون بارتفاع كلي 1 - 1,5 متر حيث يتم تركيب هذه الحلقات فوق بعضها لتكون الشكل النهائي للتنور وتترك لتجف تحت أشعة الشمس.

تختلف أحجام فرن التنور، فمنها الكبير ما هو للأغراض الإنتاجية التجارية ومنها الصغير للأغراض المنزلية.
يركب هذا التنور في أحد زوايا المكان أو تصف التنانير بجانب بعضها لتشكل صف منها كما هو في المخابز، تملأ
المسافة البينية بين التنانير لتشكل مسطبة يستفاد منها في رق العجين قبل إدخاله التنور ولصق العجين على جدار
التنور، يستخدم خشب الأشجار أو نوى التمر أو حتى المواقد النفطية التي تعمل بضغط الهواء للنفط إلى الموقد لتسخين التنور وإيصاله إلى درجة الحرارة اللازمة للخبز.
لا تحتاج عملية بناء التنور الطيني إلى وسائل وإمكانيات مكلفة، إذ يتم تحضير الطين ويفضل أن يؤخذ من أكتاف الأنهار أي من (الجرف) لأنه طين أحمر ويسمى بـ(الطين الحري) الذي يمزج بمادة (النفاش) المستخلص من رؤوس القصب والبردي في مناطق الأهوار، ثم تبدأ عملية خلطه بالطين أي بواسطة دلك قطع الطين وما أن تتحسن بالتماسك والتجاذب بين جزيئات الطين تتحول الى مرحلة البناء بدءا بالطابق السفلي صعودا إلى الأعلى ولا تستغرق عملية صنع تنور طيني أكثر من يومين فقط، حيث يترك ليجف في الهواء ويصبح جاهزا للاستعمال.
من المعتقدات والتقاليد التي ظلت عالقة في نفوس بعض أبناء القرى حتى يومنا هذا وهي أن كسر التنور يعبر عن حالة شؤم وفأل سيئ وقد يقع شيء غير مستحب، حتى أن الشخص الذي ينوي السفر إلى مكان ما ويحدث أن يكسر تنور الدار قبل يوم أو ساعة نراه يؤجل سفره حسب اعتقاد الكثير من أبناء قرى الجنوب، وهذه معتقدات ظلت عالقة في نفوس أغلب القرويين وربما أصحاب المدن أنفسهم ومن بين الأغاني الفلكلورية الشهيرة لخبز التنور أغنية المطرب العراقي المرحوم ناظم الغزالي( من وره التنور ناوشني الرغيف – يا رغيف الحلوة يكفيني سنة) ، حاليا ازدهرت صناعة التنانير بشكل لافت في العراق بعد إن اختفت لسنوات خلت، ورغبة المواطن من شوق عارم لنكهة ولذة طعم خبز التنور الطيني، وهذه طقوس يستشعر بها كافة العراقيين منذ حقب من الزمن القديم، ومازالت موجودة على مائدة العائلة الواحدة في وجبات الطعام، بشكل يضاهي ويفوق خبز التنور الغازي، ويذكر إن العوائل الجنوبية بشكل عام وسكان الأهوار بشكل خاص خصوصا التي تقطن المناطق المحاذية لضفاف الأنهر والشواطئ، وكذلك التي تقع في عمق الأهوار لازلت تحافظ على مكانة تنور الطين، ويعتق البعض إن إعداد الخبز فيه تختلف مواصفاته ونكهته.
المصدر: وكالات، مواقع التواصل الاجتماعي.

 للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/mochtaratt/57420-2023-02-02-12-58-12.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع