محلة السيمر وما جاورها .. أمكنة ووجوه
بقلم/ثامر سعيد
نهضت محلة ( السيمر ) في اواخر القرن التاسع عشر حين اتخذتها سلطة الاحتلال العثماني همزة وصل باتجاه ( العشار ) المحلة الاقرب لشط العرب وللحراك التجاري الذي تميز باشتداد حدة التنافس بين ( دولة الرجل المريض ) او الدولة العثمانية والنفوذ البريطاني على التحكم بميناء البصرة الذي كان الخليج آنذاك يسمى باسمه .ولما ادرك العثمانيون اهمية الانتقال من منطقة البصرة القديمة ( منطقة شناشيل الاغوات ورجالات الدولة ) ؛ عمدوا الى بناء صرح السراي الحكومي الذي توزع على ضفتي نهر العشار القادم من شط العرب ليحتل ضفتي النهر الشمالية والجنوبية . اضافة الى السجن المركزي . وهكذا ازدادت اهمية ( السيمر ) باعتبارها تطل مباشرة على النهر فافتتحت فيها عشرات المحلات التجارية وصارت تأتيها المهيلات والمراكب الصغيرة لتفرغ شتى اصناف البضائع . غير ان حريقا هائلا داهم المحلة سنة 1904 واستمر اياما معدودة لتعود ( السيمر ) الى سابق انزوائها كمحلة مطلة على الدرب المطل على النهر والذي يصل الى مركز المدينة على امتداد ما اسماه البريطانيون بـ( طريق الساحل ) لغرض الانتفاع منه في اثر الاحتلال البريطاني للبصرة 1914 .
وبسبب بدائية التوثيق وندرة الصور الفوتوغرافية قلما جرى ذكر محلة السيمر كواحدة من كبريات الواجهات التجارية في المدينة ، ومع انطفاء آخر لهب وجمرة ، ازدهرت قصبة العشار لتصبح مركز المدينة التجاري ولينهض معها سوق الهنود الشهير ومرسى الدوكيارد عند فم نهر العشار .
ومن هنا يلاحظ القارئ الكريم ان كاتب هذا الاستذكار الشاعر والموثق البصري ثامر سعيد كتب عن حياته التي عاشها كواحد من ابناء المحلة من دون ان يمتلك ايا من التفصيلات التي حصلت بطبيعة الحال قبل ولادته بسنين ، تلك التفصيلات المتعلقة بماضي (السيمر) المجيد . لقد تركز جلّ استذكاره حول البيئة الاجتماعية للمحلة ، وهو الأغفال الذي تلمسناه في كتاب ابن آخر لمحلة السيمر هو الشاعر الفقيد مهدي محمد علي في كتابه الاستذكاري الجميل ( البصرة جنة البستان) لم يتطرق الى ماضي محلة (السيمر) رغم انه قضى طفولته وشبابه هناك قبل هجرته الى حلي ويتوفى فيها .اترك السطور التالية التي كتبها الصديق الشاعر ثامر سعيد ليحدثنا عن الواقع الشعبي في محلة السيمر وما جاورها
محمد سهيل احمد / اديب ،موثق ومترجم / :
اتذكر السيمر جيدا في نهاية القرن المنصرم ومطلع سبعيناته عندما كنت تلميذا في مدرسة ( الأصمعي ) ، أعبرها أو أمر بمحاذاتها عند ذهابي اوعودتي من المدرسة . وأتذكرها ايضا خلال عقدي الثمانينات والتسعينات ، اتذكر اشجدار جوز الهند الرشيقة الشاهقة تزين واجهة المحلة المطلة على الشارع الرئيس التي كان اهلنا يسمونها ( نخل ابي جهل ) لأنها لم تكن تثمر في ارضنا على الإطلاق .والأدق .. اننا نحن من كان يجهل تلقيحها وإثمارها . ولطالما احسست بما يشبه الدوار وأنا أمد بصري الرؤوسها المشرئبة في السماء . اتذكر شجرة اليوكالبتوس العجوز قرب الجسر تهوي بغتة مثل رجل اصابته رصاصة في الرأس لتشطر احدى السيارات العابرة نصفين . اتذكر موظفات البلدية وهن يدلين بسلالهن الخوص بخيوط طويلة من طبقة المبنى القديم العليا الذي يطل قفاه على
حوانيت سوق سوق السيمر فيملؤها العابرون او الباعة بما يطلبن من بقالة
او صمون ساخن .واتذكر المقهى الصغير الطاعن في الذكريات وكازينو الميثاق ، لعبة المحيبس في اماسي رمضان ، (ابو كريم القصاب) ومعاناة اولاده بين الجنسيتين العراقية والبحرينية ؛ (جبار الحلاق) ،(جعيوة ابوالفلافل) ، بائعات قيمر الصباح الفاتنات ، مصلح بائع الدراجات الهوائية الأنيق ، مكوى الفحم القديم ، العتالين المخضرمين وأصحاب العربات الخشبية الصغيرة ،الخان القديم الذي اصبح سكنا لعوائل فقيرة ،(ابو علي المنصور) ، (طالب الربيعي) الذي اختفى بطريقة غامضة لتحل بعده امه العجوز في ادارة حانوته الصغير ، حلاقة كليوباترا وصاحبها وكيل الأمن الذي يعرف كل من في السوق مهنته الثانية ! الخضارين وباعة اللبلبي والمتسولين ومراقبي البلدية الجوالين ، وجه المخبر السري وشاربه الكث ، افران الدهان وهي اقدم افران المدينة اتخذت مكانها في السيمر منذ عهد الحطب حيث كانوا يستخدمون حطب اشجار الاثل في شواء الصمون والحلويات تأتي به عربات الخيل من الزبير والبرجسية .شجرة البرهامة
على ضفة النهر تشبه هرما فرعونيا اخضر بضوعها الساحر ايام الربيع !،
المنطقة الصناعية ، سيد ادريس : الرجل المبارك ، تجلب النسوة اطفالهن
المرضى اليه ليبصق في افواههم فيتماثلون للشفاء او يموتون .
معرض السيارت الامريكية
اتذكر بيت الشناشيل الكبير الذي كانت تشغله شركة ( بيت لاوي ) بلا واجهة زجاج عريضة ولا سيارات جديدة فارهة .كان المكان فرعا من شركة بيت لاوي الأم لتجارة السيارات لتجارة السيارات التي تملكها احدى العائلات اليهودية .الحاج جودي اول ميكانيكي سيارات في السيمر والاسطة حسن الشلهاوي ،اتذكر الدرب الملتوي الضيق الذي يشبه المتاهة يفضي بك الى محلة الحميدي ، اتذكر القناة المشيدة تحت الشارع العام المحاذي للنهر تأخذك الى نهر العروة مرورا بالمعصرة وبساتينها .أما اهالي السيمر القدامى فكثير ممن بقي منهم على قيد الحياة مازال يتذكر (شاكر نوح ) وطائرته التي اقلعت يوما من ايام العانات في اربعينات القرن العشرين من السيمر لتسقط في الساحة التي نطلق عليها اليوم ب(ساحة الزعيم ) بالقرب من ( كمب الأرمن ) . كان شاكر نوح رياضيا بعضلات مفتولة حسبما وصفه من عرفوه .يعتمر دائما قبعة شبيهة بقبعات الانجليز ،وبحفنة من العانات ــ العانة كانت قيمتها اربعة فلوس في زمانه ، زادها
عبد الكريم قاسم فيما بعد فلسا آخر ــ تمكن شاكر نوح من شراء من شراء
محرك سيارة صغير فصنع طائرة ، وبعد العديد من المحاولات استطاعت
ان تطير في سماء المدينة وانتهت بالسقوط ! محاولته تلك كانت قادته الى
السجن فلم يخرج منه الا بعد ان تعهد ان لا يعود لفعلته تلك !
محلة القطانة
اما دهليز السيمر الخلفي يبدأ من استدارته التي يسميها اهالي ايام زمان (
الفضوة ) في حلق الشارع المؤدي الى ديوانية ( ميرزا عباس محمد تقي )
وأقدم جوامع المكان ( جامع محسن محاسن ) الذي يمتد بمحاذاة قفا بنايتي
البلدية والاوقاف القلعتين ويطل عليه طابور حوانيت على جانبي الخان
القديم وينتهي بالفرع الذي يشخص فيه محل المصور الشهير ( ابو علي )
وهو من قدامى محترفي التصوير في المدينة ؛ لتبدأ من بعده( محلة
القطانة ) : مجموعة من محال المنجدين الذين توارثوا عن آبائهم مهنة
الندافة وما زالوا متشبثين بها الى يوم كتابة هذه الجولة الممتعة ، مخازن
القطن ، بيوت الشناشيل التي بدأت تغير ملامحها خلال العقود الثلاثة
الماضية بإعادة ترميمها وشق جدرانها السميكة لتحويل ما يليها من غرف
الى محال تطل على لشارع مباشرة ، محلات الحدادين وحرفيي الصفيح
وصانعي السكاكين والمناجل وبعض العدد الزراعية البدائية ، مصلحو
الساعات اليدوية القديمة ، جامع القطانة القديم ، محال ومحال ومحال !
خانات وخانات حتى نصل لشارع بشار بن برد في المكان الذي يعتقد ان
فيه قبر التابعي الجليل ( علي بن يقطين ) ، تعبر الشارع لتلج دربا عاليا
تطل عليه من جانبه بضعة محال ليأخذك الى المطعم المركزي بسنينه
الطويلة ورائحة شوائه المنتشرة في ارجاء المكان .لن تجد اليوم مركز
الشرطة القديم بعد هدمه قبل سنوات وشيد في مكانه عدد من المحلات
زادت رقعة السوق الطاعنة بالحوادث والسنين ، شارع آخر يأخذك جنوبا
الى القسم البلدي وخان المزروعي ومقهى ام السباع وسوق السمك وعز
الدين ومحال بقالين وخضارين وعطارين لا تحصى ، ويأخذك شمالا الى
سوق القصابين المسقف وعباس الجامجي وسوق العقيل بحوانيته وازقته
المسقفة وهوائه الاقل سخونة من هواء فضاءات السوق الآخر في نهارات
الصيف البصري اللاهب أخرى لا تحصى ولا تعد ! تعبر ضوضاء هذا
الشارع لتدخل الى ضوضاء اخرى في قلب السوق القديم فيواجهك درب
ضيق تصطف على جانبيه محلات اقدم العطارين . سوق العطارين هذا
احرقت نصف حوانيته المتهالكة وسقطت على رؤوس اصحابها في لحظة
واحدة بصاروخين ايرانيين وتجتاز سوق العطارين لتدخل سوقا ثالثا ينتهي
بك في سوق الجمعة !
790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع