بغداد في ذكرى مرور ١٢٩٦ عاماً على تشييدها
بعد أن توفي ابو عبد الله السفاح اول من جلس على سرير الخلافة العباسية في الانبار التي إتخذها عاصمة له بعد الكوفة وذلك سنة 136 هـ تولى الخلافة من بعده اخوه الاكبر ابو جعفر المنصور وهو الذي ثبّت قواعد الدولة العباسية ،طبعا كان صاحب الدعوة العباسية اخوهم الاكبر ا( ابراهيم الامام) الذي اعتقله آخر خلفاء بني أمية ( مروان بن محمد) الذي اخبروه بنشاط الامام في الدعوة لاقامة الدولة العباسية والاطاحة بالدولة الاموية.
وقد علم مروان بن محمد ببداية الدعوة العباسية في خراسان من واليها يومذاك ( نصربن سيار) الذي بعث برسالة الى آخر خلفاء بني امية بقصيدة ينبه فيها بظهور الدعوة العباسية في خرسان بقيادة ابراهيم الامام وبكيله ابو مسلم الخراساني وذلك من خلال ابيات من الشعر عنوانه(أأيقاظ أمية أم نيامُ) جاء فيها:
أرى خلل الرماد وميض نار
واخشى ان يكون لها ضرام
فإن لم يطفيها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
وان النار بالعودين تذكرى
وان الحرب اولها كلام.
وقلتُ من التعجب ليت شعري
أأيقاض أمية أم نيامُ
فإن يقظت فذاك بقاء ملكٍ
وإن رقدت فإني لا ألامُ
فإن يكُ اصبحوا وثووا نياماً
فقل قوموا فقد حان القيام
فغري عن رحالكِ ثم قولي
على الاسلام والعرب السلامُ
في عام 1938 اي في عهد ملك العراق غازي الاول بن الملك فيصل الاول وفد مصري بينهم الشاعر المصري الكبير علي الجارم ( 1881- 1949) الذي كتب قصيدة عصماء بعنوان ( بغداد) جاء فيها:
بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليدِ وهو وصف استحضر تاريخ حضارة بغداد ومجدها ومفاخرها وغناها عبد الغني السيد ( 1912-1962).
وجاء في القصيدة:
بغداد يا بلد الرشيدِ ومنارة المجد التليدِ
يا بسمة لمّا تزل زهراء في ثغر الخلودِ
يا موطن الحب المقيم ومضرب المثل الشرودِ
ياسطر مجد للعروبة خُطّ في لوح الوجودِ
ياراية الاسلام والاسلام خفاق البنودِ
يا بنت دجلة قد ظمئت لرشف مبسمك البرودً
يا زهرة الصحراء ردي بهجة الدنيا وزيدي
يا جنة الاحلام طال بقونا عهد الرقود
يا بهرة المُلك الفسيح وصخرة المُلكِ الوطيدِ
يا زورةً تحيي المنى والفن يا بيت القصيدِ
نبت القريض على ضفافكِ بين أفنان الورودِ
سرقَ التدلل من عنانٍ والتفنن من وحيدِ
يشدو كأن لهاته شُدت على أوتار عودِ
بغداد أين البحتري وأين أين إبن الوليدِ
ومجالس الشعراء في بيت أبن يحيى والرشيدِ
اين القيان الضاحكات يمسن في وشي الُرودِ
الساحرات الفتنات النُجلُ من هيف وغيدِ
الساهرات مع النجوم الآنفات من الهُجُدِ
مَن كل بيضاء الطلى مهضومة الكشحين رودِ
يخطرن حتى تعجب الاغصان من لين القدودِ
يعبئن بالايام والايام أعبث من وليدِ
خبا الجمالُ لهنّ كنزاً بين سالفة وجيدِ
كم جاش جيشكِ بالفوارس من اساورةٍ وصيدِ
للنصر في أعلامهم صلة بأبناء الغمودِ
مُلكٌ إذا صورته عجز الخيالُ عن الصعودِ
وجهود جبارين تصغر دونها ثم الجهود
الرسل تتلو الرسلَ من بيض صقالبةٍ وسودِ
ساروا لقصر الخلد يعشي طرفهم وهج الحديدِ
الجو يسطع بالضبا والارض تزخر بالجنودِ
حتى اذا رجعوا بدا بجباههم أثر السجودِ
الفلسفاتُ عرفتها والعلمُ طفلٌ في المهودِ
والغرب ينظر في خمودٍ ومنهل للمستفيدِ
والجاحظ المَرحُ اللعوب يغوص للدرِ الفريدِ
بغداد يا وطن الاديب وأيكة الشعر الغريدِ
جددتُ أحلامي وكنتُ صحوتُ نت عهد عهيدِ
جمح الخيال فما إطمأن ولا إستقر الى خُلُودِ
جاز القرون النئبات وفك أسرار العقودِ
ذكر العهود فأنّ للذكرى وحنّ الى العهودِ
وهتاجه الطيف البعيد فجنّ للطيف البعيد
وصبا الى ظل العروبة في حمى الملك العتيدِ
يا أمة العرب اركضي ملْ العنان ولا تهيدي
سودي فآمال المنى والعبقرية أن تسودي
هذا أوان العدو لا الابطاء والمشي الوئيدِ
المجدُ أن تتوثبي واذا وثبتِ فلا تحيدي
وتحلقي فوق النجوم بلا شبيه أو نديدِ
واذا شدا الكون المفاخر كنتِ عنوان النشيدِ
لا تخطئي حد العلا ما للمعالي من حدود
من يصد النمر الوثوب يعفُ عن صيد الفهودِ
هذي طلائع نهضةٍ ذهبت بآثار الركودِ
بغداد أشرق نجمها وبدا بها سعد السعودِ
سلكت الى المجد القديم مَحَجّة النهج السديدِ
وزهت بأقمار الهدى وسطت بأظفار الاسودِ
بغداد إنّا وفد مصرَ نفيض بالشوق الاكيدِ
جئنا نحيي العِلمَ والاداب في العدد العديدِ
مرآكِ عيدٌ للمنى فزنا به في يوم عيدِ
أهلوكِ أهلونا وابناء العشيرة والجدود
بين القلوب تشوّقٌ كتشوق الصب العميد
حتى يكاد يحبُ نخلكِ نخلُ اهلي في رشيدِ
شطت منازلنا وما إحتاج الفؤاد الى بريدِ
الرافدان تمازجا في الحب بالنيل السعيدِ
وتعانق الظلان ظلٌ الطاق والهرم المشيدِ
جئناكِ نستبق الاخطا أنضاء أوديةٍ وبيدِ
طالت بنا الصحراء حتى خلتها ابد الابيدِ
يتخلص المرمى المديد بها مرمى مديدِ
كتخلص الحسناء من وعدٍ طوته الى وعودِ
بحر بلا شطين يزخر بالتنايف والنجودِ
وسفينتي نرنّ بها ما في فؤادي من وقودِ
جئنا الى الغازي سليل العرب والحسب المجيدِ
نختال بين هباته في ظل احسان وجود
احيا المنى بالعزم والتدبير والسعي الحميدِ
وغدت به سوح العروبة منهلاً عذب الورودِ
الشاعر العراقي الراحل مصطفى جمال الدين
القى قصيدة عن بغداد لمناسبة العيد الالفي لها إستعرض فيها صور ( العصر الذهبي) لمدينة بغداد في الحكم والسياسة والعلم والادب والفن وغيرها. جاء فيها:
بغداد .. ما إشتبكت عليك الاعصرُ
بغداد ..ما اشتبكت عليك الاعصر
الا ذوت ووريق عُمرك أخضر
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمس
ودجت عليك ووجه ليلك مقمرُ
وقست عليك الحادثات فراعها
أن إحتمالك من أذاها أكبر
حتى إذا جُنّت سياط عذابها
راحت مواقعها الكريمة تسخرُ
فكأن كِبرك اذ يسومك ( تيمرُ) – المقصود به ( تيمورلنك المغولي الذي خرب بغداد .
عنتاً دلالكِ إذ يضمك جعفرُ- والمقصود به جعفر البرمكي
لله أنتِ ..فأي سرٌ خالدٌ
أن تسمني وغذاء روك يضمرُ
أن تشبعي جوعاً وصدرك ناهد
او تُظلمي أفُقفاً وفكرك نيرُ
بغداد بالسحر المُندى بالشذى
الفواح من حلل الصبا يتقطرُ
بالشاطيء المسحور يحضنه الدجى
فيكاد من حُرق الهوى يتنورُ
وبراقدٍ والخلد بعض جنانه
والسحبُ مِلك يديه أنى تمطرِ
واذا تهدج بـ ( الرصافة) صوته
جفلت بمصر على صداه الاقصر
والحور بين يديه ترتجل الهوى
غزلاً به حتى الستائر تسكرُ
يرقى لعينيه السهادُ لحُرةٍ
في الروم تهتف بإسمه وتُحذرُ- اشارة الى المرأة التي هتفت ( وامعتصماه) فاغاثها المعتصم وانزل بالبيزنطيين هزيمة نكراء بعد إحتلاله عمورية.
فيرد كأس الحب عن شفة بها
شوق الى كأس الحمية أسمر
ويساهم ( المستنصرية) طرفة
في حيث تأتلق الحروف مُسمّرُ
تعبت عيون النجم وهوكأمسيه
حدبٌ على صقل المواهب يسهر
ظمآن والكأس المفاضة دونه
لو كان يخدع بالسراب ويمكرُ
يشوي على اللهب المُقدسِ روحه
ليقوت جيلاً حوله يتضورُ
ويضيع في غمر الدجى ويراعه
إحدى عطاياه الصباح المسفِرُ
ما ضرّ ضرّ عاطشة القلوب إذا إرتوت
بالعود من لفح التقشف يقطرُ
وكفاه مهزولاً تعيش بقلبه
إممٌ وتسمنُ من حشاه أعصرُ
تأتيه أجساد فيصنع روحها
والطين -لولاه - الكثير الاوفرُ
بغداد بالذكرى الحبيبة بالصدى المرنان من خلف الاعاصر يهدرُ
قصي فنحن وراء (ألـفيكِ) ليلةٌ
أخرى يطول بها الحديث ويقصرُ
ودعي الخيال َ فـ ( شهرياركِ) سمعهُ
للان من صخب الحوادث موقرُ
وتحدثي فجلال عـيدكَ لايرى
أن تصمتي وقرى سواك تثرثرُ
عن عصرك الذهبي ما طال المدى
إلا وناصعُ وجهِهِ المتصدرُ
تعيى بحليتها العصور وشوطهُ
ابداً على نشر
الحواجز يطفرُ
ما اخضرّ مِن تِلاع الثقافة منكبٌ
إلا ومنك
ش رُواؤه يستمطرُ
وستفخر الاجيال بعدكِ أنها
كانت على بقيا بساطك تَسمرُ
سيتظل قينةُ ( دار سابورٍ) بيننا
عذب الخُمارِ وإن أجِدّ المعصرُ
والى غدٍ وبممتن دجلة سامرٌ
مما يَنثُ ( الاصمعي) مُعطّرُ
بغداد واستقصي الحوادثَ واكشفي غبشاً يطوف بصبحها فيغيّرُ
وحذارِ أن تثقي برأي مؤرخ
للسيف لا لضميره ما يسطر
وتساءلي عن (مُعرِضٍ) يجلو دجاك وقائد
يروي به ضمأ الفتوح فتزهرُ
ومهندس يبني الصروحَ وشاعرٍ
بنشأه يسرج ليلها ويعطّرُ
ولزارع في الحقل يدفن عُمره
فتُمدّ منه غِراسهُ وتعمرُ
ومعلم لم يدر شاربُ كأسه
ماذا يقطّع من حشاه ويعصرُ
بغداد أولاءِ الذين تحملوا
أعباءمجدك في الخلود واوقروا
فاذا تصفحناك سفر كرائم
لم نلق الا صورة تتكررُ
لخليفة ووزيره ولحاجب
وأميره .. ولمن بهم يتأطرُ
بغداد آن لكِ الاوان لتُرجعي
ما إبتز مِنكِ الحتاكموةن وزوروا
بغداد آن لكِ الاوان لتحطبي
خشباً بآلاء الشعوب تنضّرُ
بغداد لم يعد الزمان كأمسيه
فكراً تباع وخاطراً يستأجرُ
وهنا امر مروان بن محمد بإعتقال ابراهيم الامام
والامام هو الذي اختار اخوه الاصغر عبدالله السفاح بدلاً من ابو جعفر المنصور الاخ الاكبر للسفاح وذلك لأن المنصور كان من المؤيدين لزيد ابن الامام علي زين العابدين.
وابو جعفر المنصور هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، ولِدَ في شهر ذي الحجة سنة خمس وتسعين . وبويع له بالخلافة في شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة . وتوفي في شهر ذي الحجة ايضاً سنة ثماني وخمسين ومائة .إذن عمره ثلاث وستون ومدة خلافته إثنتان وعشرون سنة. كان وقوراً كامل العقل جيد المشاركة في العلم والادب فقيه النفس فصيحاً بليغاً مدبراً لامور مملكته ، وكان محباً للعدل ، وقد سمع عنه يقول ( ما احوجني أن يكون على بابي اربعة انفار)
قاضٍ لا تأخذه في الحق أو في الله لومة لائم.
وصاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي.
وصاحب خراج لا يظلم الرعية . ثم عض على اصبعه وتأوه، فقيل ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال ( صاحب بريد يكتب اليّ خبر هؤلاء بصدق)
نمت في عصره العلوم فقد عاصر كثيراً من الائمة الاجلاء منهم الامام ابو حنيفة والامام مالك بن أنس ؟، وكثر تدوين علماء المسلمين في العلوم كالحديث والتفسير ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ واحوال الناس ، وكان الائمة في عصر ابو جعفر المنصور يعلمون العلوم من حفظهم ، وهو اول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاعجمية الى العربية .
كان اعلم الناس بضبط احوال الممالك وترتيب القواعد . توطدت اركان المملكة له وعظمت هيبته بين النفوس ولولا بأسه وشدته لما دانت الامصار اليه بعيدها وقريبها واصبحت خلافته موطدة الاركان قوية البنيان، وكان حازما لا يعرف اللهو وكان من احسن الناس خلقا ، قال سلام الابرش : كنتُ اخدم المنصور فكان يرقع ثوبه ويلبس القميص الخشن.
وكان شجاعاً صارماً مقداماً لايرهب الموت . قال يزيد بن عمربن هبيرة ( ما رأيتُ رجلاً في حرب او سلم امكر ولا انكر ولا اشد تيقظاً من المنصور . حاصرني تسعة شهور ومعي فرسان العرب فجهدنا الجهد الجهيد فلم ننل من عسكره شيئاً وحوصرتُ وما في رأسي شعرة بيضاء وانقضى الحصار وليس فيها سوداء).
وكان رجلاً حازما يعطي في موضع العطاء ويمنع في موضع المنع. وقد ترك ابو جعفر المنصور الانبار وجعل عاصمته الهاشمية بقرب الكوفة لهذه الغاية ثم كره سكناها بعد حدوث فتنة( الراوندية) فيها فارسل جماعة وأمرهم بإرتياد موضع فإختاروا له مدينته التي تسمى مدينة المنصور وهي بغداد، فحضر اليها بعد أن مكث فيها ليلاً ونهاراً حتى استطابه المكان وبنى به المدينة . وكان بناؤها سنة 149 هـ وجعلها عاصمة لمملكته المترامية الاطراف وقد إتسع مقامها وصارت مؤلاً للعلم والعلماء ومهد الحضارة العالمية، وقد زاد نفوسها على المليونين وجعلها شبه دائرة وقصره في مركزها ليكون قربه من جميع الناس واحداً.
وصلت بغداد في عهد هارون الرشيد قمة مجدها ومنتهى فخارها .. أما من حيث العمارة فقد فاقت كل حاضرة عرفت في عهدها، بُنيت فيها القصور الفخمة وتأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم امكنتها وتشييد بنيانها وصارت قصور الجانب الشرقي بالرصافة تماثل قصور الجانب الغربي في الكرخ. وكان في الشرق قصور البرامكة وما أنشأوه هناك من الاسواق والجوامع والحمامات.
وفي الجانب الغربي كانت قصور الخلافة التي تبهر الناظرين إتساعاً وجمالا وأمتدت الابنيةإمتداداً عظيماً حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الاربعين على جانبي دجلة . وإمتد العمران فيها ، وكان تجار البلدان القاصية يقدمون اليها براً وبحراً من الهند والصين ومن الشام والجزيرة، والطرق آمنة والسبل مطمئنة . وكان الرشيد ووزراؤه حريصين كل الحرص على ذلك.
أما ثروة الدولة فكاان مما يرد على الخليفة ببغداد ما يتبقى من خراج الاقاليم الاسلامية بعد أن تقضي حاجتها من الاموال. ما قدّره بعض المؤرخين بنحو ( 400) مليون درهم ودخل كله بيت مال الخليفة يصرف منه مرتبات الوزراء والمساعدين له والباقي يتصرف فيه حسب ما يرى.
وكانت تلك الثروة العظيمة تتداولها الايدي فتروج بها التجارة وتكثر وسائل المدنية ،أما العلم فإن بغداد صارت قبلة لطلاب العلم من جميع الامصار الاسلامية ، وكان المنصور أول من عني بترجمة الكتب عن طريق طبيبه ( جورجي بن جبرائيل) كما ترجم له (إبن المقفع) كتاب( كليلة ودمنة) اما في عهد المأمون فقد نشطت حركة الترجمة لأن ترجمة الكتب لم يكن لها حظاً كبيراً في الدولة الاموية حيث ارسل المأمون الى البلدان جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق ويوحنا بن مأسويه فاخذوا مما وجدوه وإختارواه باذن من ملك الروم وحملوه الى المأمون.
653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع