د. همام عبدالخالق يكشف بعض أسرار البرنامج النووي العراقي
تفاصيل المفاوضات الصعبة مع الخبراء الفرنسيين لبناء مفاعل تموز النووي
كيف انقذت جارية الرشيد وزير النفط من غضب صدام حسين؟
الجزء الاول
أبو البرنامج النووي العراقي يكشف وقائع مما مضى.. همام عبد الخالق: جارية الرشيد أنقذت وزير النفط من أمر صدام مغادرة جلسة مجلس الوزراء
-الصحاف يعرض فضائل عامر رشيد العبيدي أمام صدام
-أيام في موقع بديل قبل الإعتقال بقوة أمريكية
-مفاوضات مع النيجر وعمليات تنقيب لإكتشاف مناجم الخام
-عكاشات وأبو صخير مصدرا الحصول على اليورانيوم العراقي
الجزء الاول: احمد عبد المجيد
مضى نحو 15 عاماً على آخر لقاء جمعني مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق د. همام عبد الخالق. وتقود المصادفات، الصحفي مثلي احياناً، الى فرص غير مدرجة على اجندته، وهو ما حدث معي، قبل ايام، وانا أزور الشارقة لحضور معرضها الدولي للكتاب. كانت المصادفة سارة بالنسبة لي عندما اقترح عليّ زميل مغترب زيارة الدكتور عبد الخالق للأطمئنان على صحته. وكانت اللياقة تقتضي مني طلب الأذن منه مباشرة، لاسيما وانه يعاني من وعكة صحية فاتصلت به من هاتف زميلي وعرضت أمنيتي فرحب من دون تردد. وقلت هي فرصة مزدوجة اني أرد اليه فضلين ظلا راسخين في اعماقي، وكانا وراء تغيير مسار مجمل أحوالي.
الفضل الأول ان الدكتور عبد الخالق ،اطال الله في عمره،أسهم في انصافي ،عندما قدمت لدراسة الماجستير ضمن قناة المتميزين، ولم يظهر اسمي بسبب تلاعب وجدته متحيزا لصالح زميلين آخرين، فقدمت اليه استرحاماً فتابعه وأنصفني. لقد كان قبولي في الدراسات العليا عام 1994 انعطافه لم أدرك اهميتها إلا بعد نحو عقد من الزمان. وأما فضله الثاني الذي لن أنساه أيضاً فهو سرعة استجابته لطلب قدمته بنقل خدماتي الوظيفية من وزارة الثقافة والاعلام الى وزارة التعليم العالي التي كان يتولاها للمرة الثانية، بعد نحو خمس سنوات من استيزاره لحقيبة الثقافة والاعلام للمدة من 1997 لغاية 2001.
وكنت قد انهيت دراسة الدكتوراه في قسم الاعلام بكلية الآداب بجامعة بغداد عام 2000، وزاولت التدريس محاضراً ، في السنة الاولى لتخرجي قبل ان اطلب اليه قبول نقلي الى التعليم، وتلك حكاية طويلة رافقتها ظروف صعبة ضاغطة كنت أمر بها. وكانت الوزارة يومها قد استحدثت كلية الاعلام للمرة الأولى وألحقتها بالجامعة الأم.
كان الدكتور عبد الخالق يعاني آثار انفلونزا شديدة، لكن طبيعته العراقية المرحبة والكريمة دفعته الى الضغط على اوجاعه وقبول استقبالنا في شقته المتواضعة التي يسكنها في الطابق العاشر، وذلك انسجاما مع تقاليد زيارات المجاملة. نعم هي متوارية وضيقة ، لكن روح الثقافة والعلم التي يتحلى بها جعلتها فسيحة بحجم امارة .ولم افاجأ بالاستقبال الودي والحار الذي لمسناه منه. قدم القهوة الينا بنفسه . رفض قيامنا من أجل مساعدته. وبدا في غاية السعادة وهو يستقبل أثنين من تلاميذه وزملائه السابقين ، كما بدا كريما وهو يضع امامنا الحلوى، ومرتديا الدشداشة وفوقها العباءة النجفية.
لعلها واحدة من الاشياء التي رغب بحملها في حقائبه وهو يودع العراق في اخر ليلة، غداة اطلاق سراحه من سجن المطار الذي كان يعرف امريكيا باسم ( كوبر).
وكان طبيعيا ان يتلقى مني السؤال : كيف تمت عملية اعتقاله بعد 9 نيسان 2033؟ وماهي الملابسات التي رافقت ذلك؟ وقال (كنا ، انا والدكتور فهد الشكرة وزير التربية يومها في موقع بديل. كنا في منزل لازمناه ، اياما عدة ، قبل ان اجد نفسي مضطرا الى رفض الانتظار في هذا الموقع .
قلت سأذهب الى منزلي مهما كلفني ذلك. وكنت عرفت ان اسمي ضمن قائمة المطلوبين من القوات الامريكية. قلت ليأتوا الى منزلي ويعتقلونني .كنت موقنا ،تماما، انني بريء ولم أمارس او افعل شيئا يضر بمصلحة وطني، ولذلك اثرت ترك الموقع البديل ورفض عرض قدم لي من اقاربي بمغادرة العراق سرا.
وفعلا وصلت منزلي ، ولم تمر ساعات حتى دهمت قوة عسكرية مدججة بأنواع من الاسلحة المنزل وتم الاعتقال).
واضاف :(امضيت في الاعتقال ثلاث سنوات. واحمد الله انني لم أر او اصادف عراقيا واحدا في المعتقل ضمن الملاك الاداري. كانوا جميعا من الامريكيين، لأنني اكره رؤية عراقي يمارس دور سجان ضدي و أمثالي من أبناء جلدته.
لقد خدم كل واحد منا وطنه عقودا. وكنا مثالا للنزاهة واحترام الخدمة العامة ، كما انني أشقى اذ أرى عراقيا في هذا المكان. انني أعتبر الجميع مواطنين. أليسوا هم يحملون هوية بلادي؟).
وفيما كان زميلي الذي رافقته في الزيارة يحاول شحذ ذاكرة الدكتور عبد الخالق عن ايام الدراسة الاعدادية ، وابرز زملاء رحلته في منطقة الاعظمية كنت استعيد تفاصيل حادثة شهدها اجتماع لمجلس الوزراء كان الرئيس السابق صدام حسين يرأس الجلسة. وتدل واقعة من ايام الدراسة المستوى المتقدم لتفكير الدكتور عبد الخالق وجدية التعامل مع طلبات اساتذته.
ففي احد الايام عزم معاون مدير المدرسة الثانوية ، تفريق مجموعة مؤلفة من ثلاثة طلبة كان هو من بينهم. وبرغم توسلاتهم بإعادة لم شملهم في شعبة واحدة ، إلا ان المعاون اشترط طلبا تعجيزيا لتنفيذ رغبتهم هو جلب فتوى من مفتي بغداد حصرا.
ومن اجل هذه الغاية ذهب الثلاثة الى جامع العساف في الاعظمية، الذي كان المفتي الراحل يؤمه. فصلوا الجماعة خلفه وتحدثوا اليه ، فما كان من المفتي إلا كتابة ورقة تناشد المعاون اعادة المجموعة الى الشعبة التي يرغبون بها. وقال (لازلت أتذكر كيف جلس الرجل وقد كان طاعنا في السن ، على مدرج المسجد وكتب بخط واضح وجميل. أنني نادم على عدم الاحتفاظ بهذه الوثيقة).
وقال (كانت مفاجأة غير متوقعة من المعاون الذي لم يتصور قيام طلبة بهذه الاعمار بمهمة صعبة من قبيل انتزاع رجاء او مناشدة المفتي).
أما الحادثة التي رأيت التحقق منها من الدكتور عبد الخالق فتتعلق بأمر الرئيس السابق لوزير النفط عامر رشيد العبيدي مغادرة جلسة منعقدة لمجلس الوزراء، وملخصها ان احتكاكا جرى بين العبيدي ووزير الداخلية السابق محمد زمام عبد الرزاق بشأن مسألة تخص مهمات الوزارتين.
وبرغم ان الحادثة وقعت خلال مسافة الطريق، التي قطعتها حافلات صغيرة خاصة تنقل الوزراء الى موقع الاجتماع ، وكان على الاغلب في تكريت، إلا ان الوزير عبد الرزاق اشتكى امام صدام من أسلوب (تطاول) العبيدي عليه من غير مسوغ، وهو عضو في القيادة القطرية لحزب البعث.
ولم يحطنا الدكتور همام بالتفاصيل السالفة التي ذكرها لي محافظ البنك المركزي السابق المرحوم عصام رشيد حويش ، الذي كان حاضرا أيضا، بل بدأ الحديث من حيث اطلق صدام أمره، والطلب الى العبيدي مغادرة جلسة مجلس الوزراء وعد نفسه خارج المنصب في تلك اللحظة.
وكان المبدأ ان العبيدي بدا حادا وافتقد القدرة على ايضاح ملابسات الحادث. وقال يبدو ان مشكلة حصلت بين الاثنين. وقبيل فض الجلسة وانتهاء جدول الاعمال، طلب محمد زمام الكلام وتحدث عن قيام العبيدي بالتطاول عليه.
وكان ممكنا ساعتها ان يرد العبيدي بإيضاح الحقيقة بهدوء أو طلب الاعتذار مما قد يفسر انه تطاول على عضو القيادة، لقد كان متوترا وفقد القدرة على الامساك بالهدوء. فما كان من الرئيس إلا الطلب من العبيدي مغادرة الاجتماع ومن الحماية ايصاله فورا الى الجهة التي يرتأيها).
وفعلا غادر العبيدي المكان. بعد ارتداء غطاء الرأس (البيرية) واداء التحية العسكرية ، في تلك اللحظة ساد الجلسة صمت رهيب، وكأن الطير على رؤوس نحو 40 مسؤولا رفيعا ، بين وزير ومن هم بدرجتهم،
وجاءت المفاجأة من الدكتور عبد الخالق وقال : (رفعت يدي وطلبت الأذن بالحديث فمنحني الرئيس الفرصة . وقلت لدي واقعة من التاريخ. وعلى الفور انتبه الرئيس. واستذكرت ما قرأته في بطون الكتب عن الخليفة العباسي هارون الرشيد).
واضاف : (قلت كان للرشيد جارية مقربة اليه، جميلة وذكية، لكنها ضعيفة البنية. وبينما كانت ترفع ابريقا ثقيلا مصنوعا من النحاس عادة، سقط من يديها على قدم الرشيد ، فصرخ بوجهها غاضبا من الألم لكنها بادرته بتلاوة الآية الكريمة (والكاظمين الغيظ) . فقال الرشيد كظمنا.
واستكملت الجارية: (والعافين عن الناس) ، فرد الرشيد لقد عفونا ، واستطردت الجارية بذكر بقية الآية الكريمة ، (والله يحب المحسنين). فقال لها الرشيد انت حرة)، وواصل الدكتور همام بقية الواقعة وقال :(قلت يا سيدي انك من أصل ذلك السلف العظيم . وأرجوك ان تعفو عن زميلنا الفريق عامر رشيد ، لأنه وزير ناجح وانا أدرك مبلغ محبتك له.
وهنا وللتاريخ اذكر – يقول الدكتور همام – ان الاخ ابو زياد، محمد سعيد الصحاف، رفع يديه طالبا الحديث وشرع، بعد ان أذن له الرئيس،باستعراض مأثر الفريق عامر وتعداد مناقبه في العمل والحياة).
واضاف الدكتور همام (ان الرئيس ظل يتأمل الحضور وفض الاجتماع لكن دعا المرحوم طارق عزيز الى اصطحابه. وفهمنا بعد حين ان الرئيس عفا عن الفريق عامر وعد الموضوع منتهيا.
وفعلا مارس واجباته في وزارة النفط في اليوم التالي. وخارج الاجتماع سألني بعض زملائي ومنهم وزير العدل منذر الشاوي : كيف حضرت في ذهنك هذه الواقعة؟).
وعلقت، من جهتي، على الفور (ان الله عندما يقدم المساعدة يهيئ أصحاب الخير الى الحضور). وهزّ الدكتور همام رأسه موافقا.
وتوحي تفاصيل هذه الواقعة ، من بين امور عدة، ان عضو القيادة محمد زمام لم يكن يتوقع قيام اثنين من زملائه الوزراء التكنوقراط، بالتجرؤ على الانتصاف لغريمه، ومناشدة الرئيس العفو عنه، فيما يملك العبيدي حضورا مريحا دفع زملاءه للانتصاف له والدفاع عنه امام الرئيس. كما يفهم من الواقعة ان صدام كان يستعين بطارق عزيز وطه ياسين رمضان، في اتخاذ قرارات صعبة بالنسبة له من قبيل العودة عن اعفاء الوزراء من مناصبهم او توجيه اللوم والتقريع لهم اذا استوجب الأمر ذلك، ويفهم ثالثا وأيضا، ان الاجتماعات التي يرأسها صدام تشهد، احيانا، صراعا خفيا، حينما تحين المناسبة او يتوجب الموقف طرح القضايا والملفات الساخنة، بين الحمائم التي يتزعمها عزيز والصقور التي يقودها رمضان.
ويمضي الدكتور همام معظم ساعات يومه بالمطالعة والتأليف وبرغم عزوفه عن متابعة معظم اخبار العراق، فانه حرص على توثيق بعض المحطات البارزة في قطاعي التعليم العالي والبحث العلمي والطاقة الذرية التي تابع ورافق برنامجها الى درجة اني اعده أبا لهذا البرنامج الذي وصل الى مرحلة متقدمة اقلقت اسرائيل وتسببت بتداعيات لا حصر لها في الوضع العراقي بالنسبة للإدارة الامريكية.
وعلى صعيد التعليم أنجز الدكتور همام اربعة كتب بتعاون مشترك، الاول استراتيجيات التعليم التقني – تحديات التعليم التقني العربي ورؤى المستقبل، والثاني استراتيجية التعليم العالي في العراق في اطار سياسات العلم والتكنولوجيا.
أما الثالث فقد صدرعن المنظمة العربية للتنمية الادارية التابعة للجامعة العربية بعنوان استراتيجية الجودة والاعتماد الاكاديمي في ظل سياسات العلم والتكنولوجيا.
والرابع بعنوان الادارة الاستراتيجية للجامعات – مداخل فلسفية وتطبيقات ميدانية.
وعلى صعيد البرنامج النووي فانه اصدر كتاب استراتيجية البرنامج النووي في العراق في اطار سياسات العلم والتكنولوجيا، والثاني التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل في العراق – دور لجان التفتيش وفرقها في تدمير العراق والتمهيد لاحتلاله.
وفي هذا الأخير وجد الدكتور همام نفسه منقادا لكشف العديد من الحقائق المرة، التي لم تكن تفاصيلها واضحة او ان مؤلفين اخرين، قد عرضوها ناقصة أو تغافلوا عنها.
وقال لي: (ان ما دفعني الى كتابة رؤيتي في هذا الموضوع هو حرصي على الحقيقة ورغبتي في تأكيد علمية وسلمية البرنامج النووي العراقي الذي تمتد جذوره الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي).
ونهض صوب خزانة ملحقة بصالة الاستقبال وعاد حاملا نسخا من الكتب المذكورة. وقال هاك.
وأحسست كما لوانه اراد ابلاغي رسالة مؤداها (ان ما تبحث عنه ستجده فيها).
وها انا اقتبس منها بعض الاسرار، التي ظلت في ذمة التاريخ حتى قيض للدكتور همام وفريق عمله كشفها بالأدلة وشواهد الاثبات.
{ وكان عليّ اولا ان اتحرى عن مكان انتاج اليورانيوم. واسأل كيف تسنى للعراق الحصول على هذا الخام الثمين؟
يقول الدكتور همام في كتابه الأول:
(ان العراق بلد غني بالثروات المعدنية، وقد أجري له في السبعينيات أول مسح جيولوجي وتحرّ معدني جاد وشامل استخدم فيه أحدث التكنولوجيات في حينها. ولم يعتمد العراق في هذا الصدد على شركات اجنبية فقط، بل كان الجيولوجيون العراقيون في طليعة من أدى هذه المهمة، إذ جابت الفرق الجيولوجية العراقية أرض البلاد من شماله الى جنوبه.
وأشارت الدراسات والمسوحات، التي أجرتها لجنة الطاقة الذرية العراقية مع مؤسسة المسح الجيولوجي والتنقيب المعدني في منتصف السبعينيات، إلى وجود خامات اليورانيوم بنسب قليلة ، لكن ذات جدوى اقتصادية، في صخور الفوسفات الموجودة في منطقة عكاشات في الصحراء الغربية.
ووقّعت وزارة الصناعة والمعادن مع شركة بلجيكية عقدا لإنتاج مركّبات الفوسفات للأسمدة، ثم وقّعت عقدا اخر لاستخلاص خامات اليورانيوم. وكانت منظمة الطاقة الذرية العراقية قبل ذلك تسعى إلى تأمين كمية كافية من خامات اليورانيوم لتمكن الباحثين من إجراء تجارب تحضير مركّبات اليورانيوم الداخلة في صناعة الوقود النووي لمفاعلات المحطات، ودراسة خواصها. وتعاقدت لهذا الغرض مع دولة النيجر، واستوردت كمية بقيت دون استخدام ، بعد أن بدأت منشأة عكاشات بإنتاج خام اليورانيوم عن طريق استخلاصه من الصخور الفوسفاتية، وبعد أن اكتملت مختبرات تصنيع الوقود.
كما أسفرت عمليات التنقيب الجيولوجي والتحرّي المعدني التي قامت بها وزارة الصناعة والمعادن عن اكتشاف منجم لخامات اليورانيوم في منطقة أبو صخير في محافظة النجف. والمنجم هو من النوع المفتوح، ويمكن كشط سطحه العلوي ليبدأ حفر وجمع الخامات.
وقد بدأت لجنة الطاقة الذرية ووزارة الصناعة معا لتطوير المنجم تمهيدا لاستغلاله لكن بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم 687 لسنة 1991، وما تبعه من تعديلات بموجب القرار الرقم 707 لسنة 1991، قامت فرق التفتيش بإغلاق المنجم في فترة لاحقة بأن سدت مدخله بالخرسانة، الأمر الذي حال دون استغلاله حتى الان.
- لكن كيف تم تجاوز الرقابة الاسرائيلية في ذلك؟
ويقول الدكتور همام : (ليس قلق إسرائيل وليد توقيع اتفاقية التعاون النووي بين العراق وفرنسا، بل هو أبعد من ذلك بكثير، فإسرائيل أسيرة عقيدتها التوراتية بأساطيرها وتعصبها ونزعتها التدميرية. ويتجلى هذا القلق من العراق بأعلى أشكاله في ما أورده الكاتب الإسرائيلي شلومو نكديمون، الذي ألف كتابه الشهير تموز في اللهب، وتناول فيه عملية قصف إسرائيل لمفاعل 17 تموز).
ويضيف ( لم يكن النشاط العلمي للعقل العراقي خافيا على إسرائيل ، بل كانت تترقبه وتراقبه وتتابع خطواته، فهي تعلم علم اليقين أن مأزق إسرائيل التاريخي سيكون عندما تبدأ الأمة بالتقدم علميا وحضاريا، وتصبح في المستوى الذي تتنافس فيه مع العالم المتقدم.. يتفاعل علماؤها، ويتبادلون بموجبه العلم والمعرفة مع علماء العالم ومثقفيه في ارقى حلقات العلم والتكنولوجيا.. يكون فيه علماء الامة اعلاما تحصد جوائز علمية عالمية جنبا الى جنب مع علماء مبرزين اخرين. وعند ذاك لن تصبح إسرائيل (تلك الجزيرة الديمقراطية المتحضرة المسالمة) المحاطة بعالم همجي متخلف، سكانه أناس متحجرون متوحشون قتلة لا يفقهون من العلم والمعرفة شيئا.
وكانت إسرائيل تبذل قصارى جهدها كي تئد أي نشاط علمي معرفي عربي اذا ما استشفت جديته وصحة مساره، بما يفضي الى تقدم الامة وبلوغها مرحلة الرقي عالميا. هكذا فهمت القيادة في العراق جانبا من الصراع ضد الصهيونية وكيانها إسرائيل، وتصرفت بموجب ذلك الفهم.
ومنذ اللحظة الأولى للاتفاق العراقي – الفرنسي، وبدء المفاوضات الفنية والتعاقدية بشأن مشروع المفاعل، بدأت إسرائيل سعيها لافشال الاتفاق فهي اعتبرته واعتبرت الاتفاق العراقي – الإيطالي إيذانا بمرحلة جديدة لاستراتيجية تهدف الى وضع سعي الامة لامتلاك ناصية العلم نحو حافات العلم والتكنولوجيا والابداع فيهما، على مسار جديد يوصلها حتما الى المأزق التاريخي، لذلك لم تأل جهدا لعرقلته ووقفه وتدميره.
بدأت إسرائيل بعد توقيع الاتفاق العراقي – الفرنسي بحملة إعلامية مكثفة لتوهم بها ان لهذا المفاعل القدرة على انتاج كمية من البلوتونيوم تكفي لصنع قنبلة ذرية.. وهو امر غير معقول لان فرنسا دولة موقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ومن الدول الضامنة لهذه المعاهدة، فضلا عن انها واحدة من خمس دول دائمة العضوية في مجلس الامن ومسؤولة عن السلام والامن الدوليين).
الجزء الثاني والاخير
يمضي ابو البرنامج النووي العراقي الدكتور همام عبد الخالق في رحلة عرض جهود العلماء العراقيين الذين رافقوه في البرنامج من اجل استثمار اليورانيوم لأغراض مدنية فيتعقب الخلفيات ويكشف خفايا المباحثات بين العراق ودول معينة كفرنسا ونيجيريا للحصول على مكونات اقامة مفاعل نووي قوبل بكثير من التآمر الدولي لاسيما الاسرائيلي. ويقدم كذلك خفايا سرية واخرى علنية تناولها الاعلام الدولي.
هنا الجزء الثاني والاخير من الحديث الذي رغب بوصفه بالـ (لاصحفي) ولكنه ينطوي على اثارة صحفية في كل الاحوال.
واصلت السؤال: ترى هل اكتفت إسرائيل بذلك؟ اعني هل اكتفت بحملات دعائية ضد الاتفاق العراقي الفرنسي؟
قال الدكتور عبد الخالق: عندما اصبح قلب المفاعل، الذي سيحوي بداخله الوقود لاحقا، جاهزا للشحن في ميناء تولون الفرنسي، تسلل عملاء الموساد الى الميناء ونفذوا عملية تفجير، فأصيب قلب المفاعل بأضرار. وعرضت فرنسا صنع قلب مفاعل جديد، لكن كل الفحوصات دلت على إمكانية إصلاحه، فتم الاتفاق على الإصلاح، لان صنع قلب جديد يستغرق وقتا أطول كثيرا. وقد دلت الوقائع كافة على وجود تواطؤ من جانب افراد او مجموعات فرنسية مع الموساد، ربما كان بعضها في مفاصل امنية في الدولة الفرنسية؛ اذ لم يكن ممكنا دون هذا التواطؤ ان يصل عملاء الموساد الى مكان خزن القلب وتفجيره.
وقد اثار التفجير الرعب لدى بعض المختصين الفرنسيين، وجاءت فرصة للبعض الاخر لإثارة موضوع ارتفاع نسبة تخصيب الوقود الذي سيجهز به المفاعل، فمارست تلك الأوساط وغيرها، وهي متعددة الاتجاهات والنيات والمشارب، الضغوط لتغيير نسبة الوقود من 90 بالمئة الى 20 بالمئة، واقترح الجانب الفرنسي هذا التغيير، داعما حجته بان الاتجاه العالمي كان في حينه سائرا نحو استبدال الوقود العالي التخصيب في مفاعلات البحوث بوقود منخفض التخصيب. ولن يكون للاستبدال تأثير في مواصفات المفاعل وخواصه. وتحجج الفرنسيون بان هذا التغيير يسحب البساط العلمي من تحت الحملة الدعائية المعادية، التي تدعي ان الوقود العالي التخصيب سوف يستخدمه العراق لأغراض انجاز سلاح نووي.
وبهدف ترغيب العراق، اقترح الجانب الفرنسي ان يشارك العراق في بحوث التخصيب الكيميائي. هذا في الوقت الذي لم يكن لدى العراق من الناحية العلمية او الفنية أي اعتراض على وقود منخفض التخصيب؛ فقد كان مفاعل 14 تموز الروسي المنشأ قد عمل فترة طويلة قبل تطويره بتشكيلة وقود بنسبة 10 بالمئة، وأخرى بنسبة 36 بالمئة من اليورانيوم المخصب، ولما تعاقد العراق مع الجانب السوفياتي، قبل انهياره، على تطوير هذا المفاعل، استخدم الروس وقودا بتخصيب نسبته 80 بالمئة، كما هو الحال في المفاعلات الروسية التي طورت. ثم ان العراق لم يطلب حصرا مفاعلا بوقود عالي التخصيب، بل طلب مواصفات لمفاعل بحوث، والفرنسيون هم الذين عرضوا مفاعل وقود بوقود عالي التخصيب، بموجب برنامجهم التصنيعي والحسابات النيوترونية، ولم يعترض العراق.
من الناحية العلمية، تنعكس نسبة التخصيب على كمية الوقود المطلوبة لتشغيل المفاعل، وعلى توزيع ذلك الوقود في قلب المفاعل، وعلى السيل النيوتروني الناتج والمطلوب لأغراض التجارب. ان أي نسبة تخصيب تحقق سيلا نيوترونيا يفي بأغراض التجارب مقبولة ولا اعتراض عليها.
لكن الجانب العراقي بين للجانب الفرنسي ان هذا التغيير رضوخ لإسرائيل واستجابة لضغوطات داخلية، ولا يحتمل أي تعليلات علمية مخافة استخدام الوقود لأغراض غير الغرض الذي صنع من اجله، وهو تشغيل المفاعل.
مع ذلك، استجاب العراق، وطلب دراسة الحسابات المفاعلية والسيل النيوتروني، ووضع الحلول التي تكفل تشغيل المفاعل واجراء التجارب. لقد ابدى العراق مرونة عالية حرصا منه على الإبقاء على شفافية البرنامج وعلى إنجاح فكرة المركز العالمي للبحوث النووية المتقدمة).
الإرهاب الصهيوني يلاحق الخبراء والعلماء
وكشف الدكتور همام عن وقائع أخرى: (عمدت إسرائيل الى ترهيب الخبراء والعاملين الفرنسيين في المشروع، حيث قامت بتفجير بيت خبير فرنسي في باريس، وأصيب الخبير بجروح بالغة. كما استهدفت إسرائيل الاتفاقية العراقية – الإيطالية أيضا، عندما فجرت مقر شركة سنياتكنت الإيطالية المكلفة بمشروع مختبرات الوقود البارد والقاعة التكنولوجية ومنشآت انتاج النظائر المشعة، كما حاولت تفجير دار مدير فرع الشركة في مدينة ميلانو الإيطالية، حيث تعرض المدير لإصابات لم تكن شديدة الخطورة).
ثم سألت الدكتور همام:
وماذا عن الاغتيالات التي شملت خبراء عربا متعاونين ونظراء لهم من العراقيين؟
شرح الدكتور همام ذلك بالقول:
(في ضوء ذلك، تشكل فريق من العلماء في العراق من عراقيين ومن جنسيات عربية أخرى، كان على رأسهم العالم المصري المرحوم يحيى المشدّ، لإجراء الحسابات المفاعلية والنيوترونية وكيفية توزيع الوقود في قلب المفاعل، وما هي القضبان المهدئة التي ينبغي اضافتها او التقليل منها، وأين توزع القضبان العاكسة والقضبان للنيوترونات وكيف.. وكيف؟
لقد بدأ العلماء العراقيون عملا خطيرا لن تتساهل إسرائيل ازاءه؛ اذ شرعوا في اجراء الحسابات التي تقود الى تصميم مفاعل، وانشاء ما يسمى مكتبة الحسابات المفاعلية والنيوترونية، وطلبوا من الفرنسيين بالمقابل ان يكشفوا حساباتهم لأغراض المقارنة والتدقيق. وكانت مجموعة العقول العراقية قد توصلت فعلا الى امتلاك القدرة على اجراء تلك الحسابات المعقدة التي تعتبر جزءا مهما من المعرفة الفنية التي لا تعطى لدولة نامية، بل لا تعطى لأية دولة أخرى. وقد تصورت إسرائيل انها اذا اغتالت رئيس المجموعة ينتهي الامر ويصفو لها الجو، وهكذا اغتيل المرحوم الدكتور المشد، المُحبّ للامة والباذل كل جهده من اجل رفعتها علميا، العربي الذي فتح له العراق ذراعيه وفتح هو للعراق قلبه وعقله وتمت عملية الاغتيال في باريس، وحبكت بشكل رخيص قصة المومس إمعاناً في تشوية صورة ذلك الرجل المؤمن، وفي تشويه سمعة العرب وتصويرهم أناسا متوحشين ليس لهم من هم غير اشباع شهواتهم الجنسية.. قصة على غرار أفلام الكاوبوي الامريكية والهنود الحمر، وغيرها من القصص التافهة والمقززة.
ولم يكن مقتل د. المشد ممكنا دون تواطؤ جهات واطراف فرنسية أيضا قامت بنقل المعلومات الى إسرائيل أولا بأول، وسهلت عملية الاغتيال. واستمر العمل في بناء المفاعل، ونظرا الى طبيعة منطقة التويثة التي بني فيها، وهي طبيعة جيولوجية وهيدرولوجية، فقد كانت اعمال صب الاساسات وبناء حوض المفاعل تواجه مشكلات جمة.
وأضاف الدكتور عبد الخالق:
ان منطقة التويثة تقع عند التقاء نهر ديالى بنهر دجلة، وتسمى منطقة حوض نهر ديالى وتشير الصور الجوية والصور الفضائية الى انها منطقة تمتد فيها المياه الجوفية وتتداخل مع النهر، لتشكل بحيرة تحت سطح الأرض، أي كان من الواجب بناء المفاعل فوق بحيرة، وتحيط به بحيرة فوق ارض طينية رخوة، مما اقتضى تجفيف المنطقة وسحب مياهها بعيدا، فتشققت بنايات. وكان مطلوبا في كل مرة إعادة الحسابات، وتعزيز الاساسات، واضافة عوازل. واستمرت اعمال الصب في موسم الصيف، وقد خصص معمل لانتاج قوالب الثلج من اجل إضافة الماء البارد الى الخرسانة المسلحة لتبريدها وابقائها مبردة. وقد تطلب ذلك جهدا لوجستيا عالميا ومتواصلا ليل نهار.
تجاوز العقل العراقي الخطوط الحمراء!
فضلا عن ذلك، كان المهندسون العراقيون حريصون على انجاز اعمال الصب وفق المواصفات العالمية المطلوبة لمثل هذا المنشأ. وقد احتدم النقاش كثيرا، وكانت ملاحظات المهندسين العراقيين تنهال كالسيل العارم، الامر الذي ابهر العاملين الفرنسيين. لقد كانت آراء وملاحظات المهندسين العراقيين تُخَطّئ حتى حسابات الجانب الفرنسي. وعلى سبيل المثال، ظهرت بعض الشقوق الشعرية في جدار حوض المفاعل، واثبت مهندس شاب لم تمض فترة طويلة على تخرجه في الجامعة، ملاحظاته التي أوقف بموجبها العمل. واضطر الفرنسيون الى استخدام فريق بحوث متخصص بعلوم مواد البناء وحاول الفريق جاهدا اقناع المهندسين العراقيين بعدم خطورة هذه الشقوق الشعرية وبأن في الإمكان معالجتها بسهولة، لكن المهندسين العراقيين اصروا على رأيهم العلمي، وبرهنوا على صوابه، وتراجع الفريق الفرنسي، واقر بصحة الرأي الهندسي للعقل العراقي. وكان ذلك امرا خطيرا بالنسبة الى إسرائيل. اذ اصبح لدى العقل العراقي المعرفة والقدرة الفنية ليس فقط على اجراء حسابات مفاعلية وتصميم مفاعل، وانما أيضا على القيام بأعمال الهندسة المدنية لإنشاء مفاعل، فتجاوز هذا العقل الخطوط الحمر.
الكردي المستقل عاشق العراق:
ومرة أخرى توهمت إسرائيل ان اغتيالها رئيس المجموعة سيريحها فاغتالت المهندس الاستشاري المرحوم عبد الرحمن رسول واغتيل المهندس كاكا عبد الرحمن (أبو كاميران)، الكردي عاشق العراق المستقل غير المنتمي الى حزب البعث، وكان رغم استقلاليته قد استقدم في سنة 1980 ليعمل في الطاقة الذرية، حاله حال كثيرين من المستقلين استقطبتهم الإدارة العلمية للمنظمة، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي او الديني او المذهبي او القومي، او خلفيتهم السياسية او أي اعتبار اخر، سوى مستواه العلمي وامانته العلمية وحبه للوطن والأمة. ولم يكن اغتيال المهندس عبد الرحمن رسول ممكنا في باريس دون تواطؤ افراد فرنسيين، ودون معرفة التفاصيل الفنية للأعمال اليومية. مرة أخرى يظهر تواطؤ على مختلف المستويات، من اعلاها الى ادناها.
ولم يتوقف الجهد الهندسي للعقل العراقي برغم فداحة خسارة المهندس عبد الرحمن، ولم تتوقف المنظومة الهندسية، بل استمرت في العمل وابدعت. وتطلبت البحوث الفيزيائية التي تضمنتها الخطة الاستراتيجية، وكان مخططا القيام بجزء كبير منها في المفاعل، توافر منظومات هندسية معقدة ومتقدمة تكنولوجيا، كالمطياف الكتلي، لأغراض القياس والتشخيص. وليست هذه المنظومات الهندسية من النوع الذي قد تستطيع مجموعات هندسية ذات خبرة كافية في التصميم الهندسي ان تنجزها، بل كانت تحتاج الى بحث وتطوير والى فهم لفيزياء البحوث، أي الى التمكن وامتلاك المعرفة الفنية الكامنة في البحث الفيزيائي. وفي هذا النوع من التعشيق بين الفيزياء والهندسة، تتولد المعرفة وتنتج أجهزة ومنظومات هندسية جديدة.
لقد تشكلت مع بداية تنفيذ الخطة الاستراتيجية مجموعة تتولى اجراء بحوث تفضي إلى المعرفة الفنية للأجهزة والمنظومات الهندسية. وكان على رأس المجموعة د. المهندس سلمان رشيد سلمان، الذي لم يكن حزبيا ، بل كان جلّ همه العلم … العلم ولا شيء غيره. كان يستغرق الساعات تلو الساعات في بحثه وقراءاته .. نسي حتى موعد عقد قرانه، تاركا الجميع، عروسه.. ضيوفه.. حتى رنّ الهاتف ليذكّروه بالموعد . خرج مسرعا .. دهس شرطيا في الطريق، ثم نقله بسيارته لمعالجته.
كان عمل هذه المجموعة سيضع العراق في مصافّ الدول المنتجة للأجهزة العلمية المتقدمة. ينافس بها الدول، ويضعها في خدمة الأمة.. أمر لا يجوز للأمة امتلاكه، حسب المخطط الإسرائيلي، ومرة اخرى رأت إسرائيل أنه لابد من اغتيال الرأس، فاغتيل سلمان في جنيف، في مركز البحوث الأوروبي (سيرن) في أثناء زيارة عملية له.
وتصورت إسرائيل أنها ارتاحت، وأصبح تطوير الأجهزة المتقدمة خبرا بعد عين، لكن المجموعة واصلت عملها مع فقدانها عزيزا ورفيق درب.. واصلت عملها باندفاع وهمة عالية ووفاءّ له، ولأن العمل يجب أن لا يتوقف بغياب فرد ما دامت المجموعة مستمرة في العمل كمنظومة لا كأفراد.
ولم يأت اغتيال كل من د. يحيى الشد، والمهندس عبد الرحمن رسول و د.سلمان رشيد عشوائيا أو اغتناما لفرص حضورهم ووجودهم خارج العراق، بل كان اغتيالا مخططا لأشخاصهم بالذات، مستهدفا شل قدرة العراق العملية فالمشدّ كان رأس المجموعة العلمية المكلفة بالحسابات المفاعلية، وبالتالي المجموعة التي تضع التصاميم الفيزيائية والهندسية لبناء المفاعل. والمهندس عبد الرحمن رسول كان رأس المجموعة الهندسية المكلفة بتصميم وتنفيذ أعمال الهندسة المدنية ، و د. سليمان رشيد كان مسؤول المجموعة المكلفة بتعشيق الفيزياء بالهندسة لتوليد تكنولوجيا منظومات الفحص والقياس و إنتاج الأجهزة. وبذلك يتكامل خط علمي تكنولوجي لتصميم مفاعل وبنائه وتجهيز منظوماته. هذا ما كانت إسرائيل تراقبه وتتابع نمو قدراته، ولم يرق لها ذلك فخططت ونفذت، ومع ذلك لم يتوقف العراق عن سعيه العلمي).
سألت الدكتور همام : لكن مع ذلك تم تدمير مفاعل تموز بحادث الطائرات الاسرائيلية المعروف في حزيران عام 1981. ماذا عن ذلك؟
تدمير مفاعل تموز حزيران 1981:
لم يبق أمام إسرائيل سوى القيام بفعل يرضخ الجانب الفرنسي والاخرين ويرغمه على وقف العمل ووقف التعاون مع العراق، فعل يرهب ويقدم الحجة، وهكذا حصل. الذي حصل يوم 7/6/1981 قصفت إسرائيل المفاعل فهرع الجميع إلى مكان الحادث، كان المشهد مأساويا حزينا، امتزجت فيه مشاعر الغضب والحزن… وقف المدير الفرنسي للمشروع وعلى محياه ابتسامة حاول جاهدا أن يخفيها وهو يردد بإنكليزيته الممزوجة باللكنة الفرنسية: كم هو مؤسف، كم هو مؤسف.
ساد الهيجان في العالم هذا يستنكر وذاك يندد ويصدر بيانا وفي النهاية، انسحب الجميع راضخين لما أرادته إسرائيل. وكان قصف المفاعل الحجة للتوقف عن العمل في مشروع المفاعل وتصفيته لاحقا .. ومع أن العراق قدم مقترحات عدة ليس بينها إنشاء مفاعل، وإنما منظومات بحثية اخرى ،فقد فضل الجانب الفرنسي الابتعاد عن أي مجال للتعاون العلمي الجاد في التكنولوحيات والعلوم المتقدمة.
على الصعيد العلمي ، أصدرت الأمم المتحدة عدة قرارات ابتداء من قرار مجلس الأمن الرقم 487 المؤرخ في 19 حزيران يونيو 1981، الذي اتخذ بالإجماع، وشجب فيه قيام إسرائيل بالهجوم على المفاعل وتدميره، وألزم اسرائيل بدفع تعويضات للعراق لكن اسرائيل تجاهلت القرار مثلما تجاهلت غيره).
ويعد الحراك العراقي على الدول العربية لشرح الموقف عملية دبلوماسية تنطوي على اهمية تاريخية فما الذي جرى بالنسبة للمملكة العربية السعودية؟
يقول الدكتور همام: (تباينت ردود الفعل العربية والعالمية على العدوان الاسرائيلي وقد اعرب العرب - بلدانا وحكومات ومؤسسات وأحزابا ومنظمات- ، عن استنكارهم للعدوان الصهيوني، واعتبروه عدوانا على العرب أجمعين. وكان من تلك المواقف موقف متميز هو موقف المملكة العربية السعودية، اذا أعلن ملك السعودية الراحل خالد بن عبد العزيز عبر وسائل الاعلام المفتوحة استنكار بلده للعدوان وادانته له. لكنه لم يكتف بهذا الموقف الاعلامي، بل أردفه بإعلان تعهد بلده بتحمل تكاليف إعادة بناء المفاعل تعبيرا عن اصراره على حق العرب في امتلاك تكنولوجيات متقدمة وعدم قبوله حرمانهم منها.
لكن سرعان ما تطورت الاحداث ، وانتقل الملك خالد بن عبد العزيز الى جوار ربه في 2/6/1982، وخلفه أخوه فهد بن عبد العزيز.
وكتب الرئيس الراحل صدام حسين رسالة وجهها الى الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، مذكرا بما اعلنه سلفه الملك خالد، وما تعهد به، واستفسر عما اذا كانت العربية السعودية مازالت على هذا العهد؟. وحمل الرسالة مبعوث رئاسي ليسلمها الى الملك فهد ومعها هدية رمزية كانت عبارة عن عبوة زجاجية صغيرة محكمة الغلق بداخلها غرامات قليلة من خامات اليورانيوم العراقي (الكعكة الصفراء) المستخلص من خامات الفوسفات في منجم عكاشات، تعبيرا عن ثروة الامة وما تختزنه ارضها المعطاء، وعن حق أبنائها في استثمار هذه الثروة. التقى المبعوث الملك فهد ، وقدم له الرسالة والهدية التي تقبلها بسرور وغبطة مستفسرا عن موقع تلك الخامات في العراق بشكلها، كناتج عرضي من الفوسفات او كخامات من الصخور؟ ثم قدم له المبعوث شرحا مفصلا عن البرنامج النووي العراقي وما استهدفه من امتلاك للعلم والتكنولوجيا وبناء صرح علمي عربي يلتقي فيه علماء الامة مع علماء العالم. وشرح له باختصار ما حصل للمفاعل من تدمير، واراء المختصين العراقيين في امكانية اعادة بناء المفاعل، وتوقعهم بشأن التزام الجانب الفرنسي . كما اوضح للملك ما توصلت اليه بحوث ودراسات العلماء في العراق لبناء البرنامج النووي للبحوث العلمية دون الحاجة الى مفاعل نووي يفي بالغرض، الذي هو بناء قاعدة علمية عربية متقدمة وامتلاك للعلوم والتكنولوجيا في حافاتها الامامية. وأكد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز مجددا التزام بلده بالعهد الذي قطعه الملك خالد ، مبدياً الحماسة والمشاعر كما ابداها سلفه، لكن بسبب تنصل الجانب الفرنسي من اعلان استعداده لإعادة بناء المفاعل بشكل خاص ومن التعاون النووي مع العراق بشكل عام ، لم يعط هذا العهد فرصة للتنفيذ).
أمير الحلو يرحمه الله!!!...
أستأذنت مضيفنا بالمغادرة، وبرغم الوعكة الصحية فقد أصَرّ الدكتور همام على مرافقتنا الى المصعد الكهربائي، وقبل ان يضغط على زر الاستقدام قال: انني زرت فندق كوبثرون الذي تقيمون فيه، آثر اتصال جاءني من الاستاذ أمير الحلو. ذهبت للسلام عليه.
وقاطعته: يرحمه الله. ودهمته المفاجأة وصرخ: أمات، متى؟ وقلت: قبل بضعة أشهر.
ورأيت سحابة حزن تغطي معالم وجهه وعبر عن الأسف لرحيله.
وتمنيت لو أني لم ابلغه بهذا النبأ. فقد كان الحلو احد أبرز المديرين العامين الذين رافقوا الدكتور همام ابان توليه قيادة وزارة الثقافة والاعلام. كما كان واحداً من آخر اثنين من المسؤولين الاعلاميين الذين ظهروا في خلفية المؤتمر الصحفي الشهير لمحمد سعيد الصحاف عشية 9 نيسان 2003 وتوعد فيه (العلوج) الامريكان اذا تجرأوا ودنسوا اسوار بغداد، فيما كانت طلائع الدبابات الامريكية تعبر جسر الجمهورية فوق دجلة مخترقة شارع السعدون للوصول الى ساحة الفردوس، حيث جرت وقائع السيناريو الذي نقلته فضائية فوكس الامريكية، وحيث بدأت تداعيات ما أعقب الاحــتلال. وذلك لا صله له بالمقابلة مع أبي البرنامج النووي العراقي، بل يمثل حكاية طويلة من حكايات الوجع العراقي.
إنتهت المقابلة تمنياتنا للدكتور همام بالسلامة والشفاء ومزيداً من العطاء الفكري والعلمي.
المصدر: صحيفة الزمان
854 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع