يهود العراق، ذكريات وشجون،الحلقة ٢٠ أمير اللواء الركن منير عباس حلمي وصديقه داود نسيم خلاصجي
قلت أن العراق قدري الذي لا فكاك لي منه. رويت في الحلقات السابقة ذكرياتي عن عكدنا وعن عقيد الركن حامي الذمار، فإذا الأقدار تتيح لي من يكمل سيرة حياة بطل البتاويين عقيد الركن، فقد "يأتيك بالخبر اليقين من لم تزود". واليوم تسلمت رسالة من لندن، من السيد داود نسيم خلاصجي، وهو من أسرة بغدادية عريقة ومشهورة بثروتها وجاهها، جار قديم لنا من بتاويين أيام زمان، ورحم الله ما كان، فهو جار من نفس عكدنا في بستان مامو، وليس ككل الجيران فقد كانت داره ولماذا لا نقول قصره الذي كانت واجهته تنفتح على شارع ونهايته تمتد إلى شارع آخر، وهو القصر الوحيد الذي كان ينافس قصر بيت سامي بخاش من حيث السعة والفخامة في أول شارعنا والمطل على الشارع المؤدي من باب الشرقي إلى الكرادة قبل أن تتفرع إلى "عل الجوّة وعل برّه".
يقول السيد داود خلاصجي في رسالته بأنه قرأ في "أيلاف" ما كتبته عن عقيد الركن الطيار منير عباس فهمي وإنه كان صديقا حميما للعقيد الذي أصبح أمير لواء ركن بعد نزوحنا من العراق، وعندها تذكرت قول أم منشي حاي التي دعت له بالخير واليمن والبركة مع أم الياهو، وقالت أم منشي: "إنشاء الله، ألله يعوضلو ويطعينو مرادو ويغاضينو المنير، ليش؟ لأنو يحبم اليهود ويساعدم!" (انشاء الله سيعوض الله منيرا خيرا، ويحقق آماله ويرضيه، لماذا؟ لأنه يحب اليهود ويساعدهم)، وخير برهان على ما أقول هو الرسالة التالية التي وصلتني من شخصية جليلة معروفة سابقا في العراق في جميع الأوساط التجارية والاجتماعية، انقلها للقراء الكرام بحذافيرها وهي خير دليل على صدق ما أكتب وأقول:
لندن، في 15/6/ 2007
حضرة السيد الفاضل شموئيل موريه المحترم،
تحياتي وأرجو لكم كل خير
لم يسبق لي المعرفة مع حضرتكم ولكني مطلع على الدوام على كتابتكم ومقالاتكم. حيث قبل يومين اطلعت على مقالتكم القيمة وهي (يهود العراق في حماية عقيد الركن منير حلمي) وعليه أحب إعلامكم بان هذا الضابط هو من أعز أصدقائي ولقد تعرفت عليه في حفلة حكومية سنة 1942 وكان برتبة مقدم ركن، وفي سنة 1946 أصبح عقيد ركن وفي سنة 1950 أصبح زعيم ركن، وكان يسكن مجاورا لشارعنا في البتاويين في بستان مامو حيث دارنا يقع على شارعين ويليه شارع منير وكنا نتزاور عائليا مع زوجته ووالدته المسنة، وهو أبو مشرق وعنده 3 أولاد مع 3 بنات، وأحد أولاده وإحدى بناته دكاترة، والأخ منير من مواليد 1909 وتوفي سنة 1981، ومن حسن الصدف أي في يوم الخميس المصادف 1-12- 1955 وهو ليلة زواجي حيث أقيمت حفلة الزواج في نادي المنصور وكان الأخ منير وزوجته مدعوين في الحفلة وإذا بنداء تلفوني له من قبل أولاده يعلمونه فيه بان راديو بغداد أذاع الآن خبر :
وزير الداخلية سعيد قزاز و غازي الداغستاني
ترفيع كل من منير عباس حلمي وغازي الداغستاني وعبيد عبد الله المضايفي مرافق الملك فيصل الثاني، الى رتبة أمير لواء ركن أي جينيرال، وعندما رجع من المخابرة قبلني وقال لي يا أخي وعزيزي داود الليلة زواجك خير عليّ. وحينما غادرت العراق يوم الأربعاء 18-12-1974 الى لندن مباشرة حضر معي الى المطار مع عدد كبير من المودعين وأخذ يبكي وبكاني معه لأنه علم بأني سوف لم أعد الى العراق بعد، مع العلم بأن صداقتنا دامت أكثر من 30 عاما، وهذا ما حبيت الإطلاع عليه. ختاما تقبلوا مني وافر التحية والاحترام،
المخلص، داود نسيم خلاصجي".
سررت بهذه الرسالة التي وصلتني "من الله" في الوقت المناسب. وتذكرت أيام زمان وسماعنا لجالغي بغداد وأغاني المطربات وإيقاع الراقصات في حفلات زواج عقدت في دارهم الواسعة وفي تلك الأيام كان أصحاب الجالغي "لا ينامون ولا ينيمون" لألحانهم المطربة:
الليلـه الـدنيـا زهـت وأحنـا أبفرح يا ناس
والكـعدة ويـاكم حلت يـالله نـديـر الكاس
كما ذكرتني هذه الرسالة الكريمة بأخلاق بعض كبار ضباط العراق في العهد الملكي الهاشمي، نبل وإخلاص وشهامة وتواضع وحب العراق والعراقيين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، دون تفرقة في الدين والعنصر والمذهب، فجئني اليوم بمثلهم، رحمهم الله ورحم عظامهم، ما كان أعظمهم.
أما جارنا داود نسيم خلاصجي حفظه الله، فهو شاهد من أهلها، كتب لي بدافع من حبه للعراق ولصديقه أمير اللواء الذي بكى وأبكاه عند وداعه، لعلمه بأنه سوف لا يعود الى العراق، وكتب رسالته الي بدافع من إخلاصه لأصدقائه ومسقط رأسه. فهل تعود أيام زمان وهل سيعود السلام الى مدينة السلام ووادي الرافدين؟ ماذا جرى للعراق اليوم؟ ألا يكفي ما يقتل من أبنائه المتمسكين بترابه كل يوم فصاروا يخربون بيوت الله، فلا يراعون حرمة المساجد ويفجرون مفاخر الفن المعماري في العراق عراق صبايا؟ عندما كان المسلم يضرب اليهودي في العراق كان المضروب يسأل بانكسار: "اشسويت لك؟ فيرد عليه المعتدي: "كيف أنت أيهودي!" أتراهم يقولون اليوم للمسجد: "فجرناك، كيف انت شيعي أو سني؟" وماذا يقول الله في عليائه وهو يرى ما يفعله أحفاد أبطال من شيدوا أعظم حضارة في القرون الوسطى بنت عليها أوروبا حضارتها الحديثة؟ وهل نحن نمر اليوم بأشراط الساعة؟ يا رب سترك!
قلت إن العراق قدري، ولذلك تراني أكتب هذه الذكريات عن مسؤولية تجاه الحقيقة والتاريخ وتجاه ضميري ومستقبل العراق وجرحه الديني والمذهبي والطائفي والعنصري النازف، شفى الله الجراح وآلف بين قلوب العراقيين، يا رب، رحمة بمسقط رأسي الذي حبوته بكل خيرات الدنيا فدمرها تدميرا، يا رب رحمة بشعب العراق، إنك السميع المجيب!.
للراغبين الأطلاع على الحلقةالسابقة:
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/20460-2015-12-02-20-44-37.html
904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع