الخبز 'محرك الثورات' متى اشتدت أزماته اهتز استقرار الحكومات

         

العرب/القاهرة- أزمة الأمن الغذائي التي بدت بوادرها في التشكل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة الصراعات والفوضى التي تعصف ببلدان عربية كثيرة، بانت أحلك تجلياتها مع أزمة الخبز الأخيرة التي تسببت فيها عوامل عدة أهمها تداعيات انتفاضات ما سمي بـ”الربيع العربي” الذي كان الخبز في شعاراتها منوطا بقيمتي الحرية والكرامة بل هو مسبق عليهما، وفق دراسة صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة.

لم تنته الموجات المتتابعة للأزمات المعيشية الناجمة عن إخفاق عدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في استيعاب الاحتياجات الأساسية لمواطنيها وتلبيتها؛ إذ تصاعدت حدّةُ التداعيات السياسية الناجمة عن "أزمات الخبز" في عددٍ من هذه الدول نتيجة الاختلال بين تزايد الطلب وتراجع العرض، وتصاعد ضغوط تدفقات اللاجئين على السلع الأساسية، واتجاه بعض الدول إلى إعادة هيكلة دعم الخبز لتقليص عجز الموازنات العامة، وإضراب بعض الوحدات المنتِجة للخبز بسبب تصاعد تكلفة الإنتاج، مما قد يهدد بتفجر موجات احتجاجية جديدة تنجم عن تلك الأزمات الحياتية غير السياسية، لا سيما في حال تقاطعها مع أبعاد أخرى تزيد من حدة الاحتجاجات في دول عدة بالمنطقة.

ماهي الأنماط الضاغطة؟

تشير دراسة المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، إلى أنّ أزمات الأمن الغذائي تجدّدت في دول عديدة بالمنطقة في ظل تردي الأوضاع التنموية، واستنزاف الموارد الاقتصادية عقب “الثورات” العربية؛ إلاّ أنّ أزمات الخبز تظل الأكثر خطورة بالنظر إلى كونه يعدّ سلعة حيوية للفئات الأفقر في المجتمعات العربية، وهو ما يزيد من أثر تصاعد معدلات الفقر والبطالة وتقلص القوة الشرائية ونقص الخدمات الأساسية، وفي هذا الإطار شهدت دول المنطقة أنماطًا ضاغطة متعددة لأزمات الخبز، أهمها ما يلي:
* نقص الإمدادات: حيث أدى تصاعدُ الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة إلى أزمة إنسانية متصاعدة نتيجة نُدرة المعروض من الخبز، بحيث بات لا يلبي الحد الأدنى من احتياجات قاطني القطاع، وهو ما يرتبط بنفاد مخزون القطاع من القمح، وانقطاع إمدادات الوقود، وتوقف محطات توليد الكهرباء اللازمة لتشغيل المخابز، وهو ما دفع بيير كراهينبول رئيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) إلى التحذير، في 18 أغسطس 2014، من أزمة إنسانية غير مسبوقة يُعاني منها 1.8 مليون مواطن في غزة، مع تضاؤل إمدادات الغذاء الواردة على القطاع. كما شهدت الجزائر، منذ الصائفة الفائتة، نقصًا حادًّا في المعروض من الخبز بسبب إغلاق منافذ بيعه في المدن الكبرى؛ حيث أشار يوسف قلفاط، رئيس اتحاد الخبازين في الجزائر، إلى أن إنتاج الخبز قد تراجع بنسبة 60 بالمئة.

* ارتفاع الأسعار: فقد شهد اليمن، على سبيل المثال، ارتفاعًا حادًّا في أسعار الخبز بنسب تتراوح بين 30 بالمئة و50 بالمئة عقب قرارات الحكومة القاضية برفع أسعار الوقود بنسبة 100 بالمئة، وتطبيق برامج تقشفية لتقليص الإنفاق الحكومي، وهو ما أدى إلى تفجر موجات احتجاجية مدعومة من الحوثيّين في المدن اليمنية الكبري للمطالبة بإسقاط الحكومة، أدت إلى حالة الاحتقان والفوضى التي نشهدها اليوم.

وفي ذات السياق، أعلنت الحكومة السورية عن زيادة أسعار الخبز بنسبة 66 بالمئة في منتصف يوليو الفائت، نتيجة تراجع الواردات من القمح في ظل احتدام الحرب الأهلية في سوريا.

بينما شهدت مناطق الموصل ونينوى والأنبار في العراق، في منتصف شهر أغسطس الماضي، ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الخبز بسبب احتدام الصراع بين الجيش العراقي وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، خاصةً عقب إغلاق المنافذ المؤدية إلى الموصل.

* إعادة هيكلة الدعم: اتجهت بعض دول المنطقة إلى تطبيق سياسات ترشيد الدعم من خلال استبدال الدعم العيني بنظيره النقدي، ودعم المنتج النهائي بدلا من مكونات الإنتاج الأساسية. ففي الأردن طالب رئيس الوزراء عبدالله النسور، في 6 أغسطس الفائت، مجلس النواب بدعم قرار حكومي مرتقب يقضي بإلغاء الدعم عن الخبز، واستبداله بدعم نقدي مباشر يقدم للمواطنين عبر بطاقة خاصة، مما سيوفر ما يقارب الـ 270 مليون دينار، وهو ما أثار انتقادات واسعة النطاق لدى المواطنين، باعتبار أنّ هذا القرار يعدّ مقدمة لتقليص الدعم الحكومي للخبز.

بينما واجهت الحكومة المصرية إشكاليات معقدة خلال تطبيق منظومة الخبز الجديدة التي تستهدف القضاء على تسريب نسبة تزيد على 60 بالمئة من الدقيق المدعم، إذ تراجع المعروض من الخبز في بعض المناطق بمحافظات القاهرة والإسكندرية، في الصائفة الفائتة، بسبب رفض بعض المخابز تطبيق منظومة الخبز بدعوى ارتفاع تكلفة الإنتاج عقب رفع أسعار الوقود، وتأخر وزارة التموين في دفع مستحقاتها المالية، وهو ما أدى إلى تجدد التزاحم والمشاجرات أمام منافذ توزيع الخبز وتنظيم تظاهرات محدودة النطاق للتنديد بعدم توافره.
* استنزاف المخزون: أدّى تدفق اللاجئين على بعض دول المنطقة إلى استنزاف مخزون السلع الإستراتيجية لديها، حيث أكد نقيب ملاك المخابز الأردني عبدالإله الحموي، أنّ استهلاك الخبز منذ بداية العام الحالي قد تصاعد بنسبة 15 بالمئة بسبب تدفقات اللاجئين السوريين، وهو ما يتوازى مع ما تؤكده إحصاءات برنامج الغذاء العالمي عن استهلاك اللاجئين بمخيم الزعتري في الأردن لحوالي 250 ألف رغيف خبز يوميًّا، ومع تدفق اللاجئين عبر الحدود الليبية- التونسية انتقلت أزمةُ نقص الخبز إلى تونس، خاصة إلى مدينة جربة الحدودية التي شهدت تراجعًا حادًّا في المعروض من الخبز في منتصفشهر أغسطس الماضي.

أي تموقع للعرب على مؤشر الأمن الغذائي؟

في سياق آخر، أوضحت الدراسة الصادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، أنّ أزمات الخبز المتفاقمة لا تنفصل عن تردي أوضاع الأمن الغذائي في مختلف دول المنطقة؛ حيث تكشف إحصاءات المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي الصادرة في يناير 2014 أن الفجوة الغذائية في العالم العربي، وهي الفارق بين قيمة إنتاج الغذاء وقيمة الاستهلاك، تُقدر بحوالي 50 مليار دولار، بينما تُؤكد إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الصادرة في مطلع يوليو 2014، أن نصيبَ إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من القمح قد تصاعد ليصل إلى حوالي 49 مليون طن عام 2014 مقارنة بحوالي 47.1 مليون طن عام 2013، مما يجعل المنطقة تستهلك ما لا يقل عن 6 بالمئة من الإنتاج العالمي للقمح.
وتصدرت مصرُ قائمة مستوردي القمح خلال عام 2014 بشرائها لحوالي 6.6 ملايين طن، بزيادة قدرها 20 بالمئة عن العام الماضي، بينما بلغت واردات العراق 2.8 مليون طن، في حين استوردت اليمن حوالي 2.7 مليون طن، والمغرب ما يقارب 2 مليون طن، وسوريا حوالي 1.7 مليون طن، وهو ما يعني أن أغلب الدول العربية تُعاني من معضلة الاعتماد على استيراد القمح من الخارج، مما يجعلها عرضةً لتجدد أزمات نقص المعروض من الخبز نتيجة التغير المستمر في أسعار توريد القمح، وتآكل الاحتياطات النقدية اللازمة للاستيراد عقب الثورات العربية.

وفي السياق ذاته، أكدت إحصاءات مؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2014 الصادر في نهاية يوليو 2014 عن مجلة “إيكونومست”، معاناةَ عددٍ كبيرٍ من دول المنطقة من تهديدات متصاعدة لأمنها الغذائي بأبعاده الثلاثة المتعلقة بتوافر الإمدادات الغذائية، وامتلاك المواطنين للقدرات النقدية للحصول عليها، وتمتع المواد الغذائية بالجودة، وركز المؤشر على تراجع مستويات الأمن الغذائي في عدد من الدول العربية، مثل: مالي، السودان، سوريا، اليمن، مصر، تونس، والأردن.

وعلى الرغم من أنّ المؤشر لم يضمّن دولا مثل ليبيا والصومال وموريتانيا وجنوب السودان والعراق في القائمة بسبب عدم توافر البيانات، إلاّ أنّ الدراسة تفيد بأنّه لم يتغاض عن تأكيد تصاعد تهديدات الأمن الغذائي في تلك الدول مع تفجر الصراعات الأهلية، وتصاعد دور الميليشيات المسلحة، وتآكل قدرة تلك الدول على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.

ماهي الأسباب الرئيسية لهذه الأزمات؟

يعود تصاعد أزمات الخبز في الدول العربية، حسب دراسة المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، إلى عدة أسباب رئيسية تتمثل في:

* ضغوط المنتجين: حيث أنّ اعتماد عدد كبير من دول المنطقة على القطاع الخاص لإنتاج الخبز وتوزيعه أدّى إلى تكوين المنتجين لكيانات احتكارية ضاغطة على الحكومات، خاصة في مواجهة سياسات تحرير أسعار الإنتاج، والتحول من الدعم العيني باتجاه الدعم النقدي؛ حيث أدى امتناع المخابز في القاهرة والإسكندرية وبعض المحافظات المصرية عن إنتاج الخبز، في مطلع أغسطس الماضي، احتجاجًا على تأخر مستحقاتها، إلى تجدد أزمات نقص الغذاء، ويتماثل ذلك مع الإضراب العام للمخابز الذي نظمته الجامعة الوطنية لأرباب المخابز في الدار البيضاء بالمغرب، في منتصف مارس 2014، للضغط على حكومة عبدالإله بن كيران لرفع أسعار الخبز لتعويض الارتفاع في تكاليف الإنتاج عقب رفع الدعم عن الوقود.

* سطوة الميليشيات: سيطر مقاتلو تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على مناطق واسعة من المحافظات الأكثر إنتاجًا للقمح في العراق، وهو ما دفع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى التحذير، من هذه السيطرة على ما يزيد عن 40 بالمئة من إمدادات القمح في العراق، خاصةً في ظل عدم اكتفاء التنظيم بالهيمنة على مناطق زراعة القمح في نينوي والأنبار والموصل، واتجاهه للاستيلاء على صوامع تخزين القمح وبيعه في السوق المحلية.
في المقابل لم تتمكن الحكومة العراقية من تأمين سوى 20 بالمئة من الاحتياجات المحلية من القمح، كما توقف المزارعون عن العمل في المناطق التي يسيطر عليها “داعش” بسبب عدم قدرتهم على الحصول على البذور والأسمدة اللازمة، وتحول الأراضي الزراعية إلى ساحات للمواجهات العسكرية بين “داعش” والجيش العراقي، مما يُهدد بفقدان العراق لقدرته على سد الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمواطنين.

* الصراعات الأهلية: إذ يرتبط التصاعد في أسعار الخبز وتراجع العرض في بعض الدول العربية باحتدام الصراعات الأهلية التي باتت تعوق الزراعة وإنتاج القمح؛ حيث أدى تفجر المواجهات العسكرية بين “داعش” وقوات البشمركة الكردية والجيش العراقي حول سد الموصل إلى تراجع إمدادات المياه اللازمة للزراعة، وهو ما تسبب في تراجع إنتاج القمح، بينما أدى الصراع بين الميليشيات المسلحة في محيط مطار طرابلس في ليبيا الذي باتت تسيطر عليه ميليشيات “فجر ليبيا” إلى إعاقة تدفق واردات القمح، مع تآكل سيطرة الحكومة الليبية على أغلب أقاليم الدولة.

* السياسات التقشفية: أدى اتّجاه دول عربية عديدة إلى تقليص الإنفاق الحكومي بهدف مواجهة تردي الأوضاع الاقتصادية ونضوب الاحتياطات النقدية، إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها الخبز، حيث تسبب رفع اليمن للدعم عن المنتجات البترولية في صعود أسعار الخبز بنسب تتراوح بين 20 بالمئة و30 بالمئة، ومن المتوقع أن يؤدي اتجاه الحكومة الأردنية نحو تحرير أسعار الخبز وتقليص الدعم الحكومي لموجة احتجاجات مماثلة لتلك التي تفجرت عقب تقليص دعم الطاقة في منتصف نوفمبر 2012.

ماهي الحلول المطروحة؟

في ختامها تخلص دراسة المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، إلى أنّ أزمات الخبز على الرغم من أنها تعدّ أزمات حياتية تتعلق بتردي الأوضاع التنموية في دول المنطقة، إلاّ أن تداعياتها السياسية تمثل تهديدًا للاستقرار الهش في هذه الدول، في ظل تفجر موجات جديدة للحراك الاحتجاجي تنديدا بنقص إمدادات الخبز، أو ارتفاع أسعاره، مما يجعل إعادة إنتاج نموذج “الثورات العربية” غير مستبعد، خاصةً أن "الخبز" كان قد تصدر شعارات تلك “الثورات” التي قوضت دعائم بقاء نظم الحكم في كلّ من تونس ومصر واليمن.

ومن ثمة يتوجب على حكومات الدول العربية مراعاة الأبعاد الاجتماعية خلال إصلاح منظومات دعم الخبز خاصة، عبر تخفيف الأعباء عن الشرائح المجتمعية الأكثر فقرًا، وتطبيق سياسات تعويضية لمحدودي الدخل، بالتوازي مع الرقابة على الأسواق، ومنع الممارسات الاحتكارية، والرفع المتعمد للأسعار من جانب منتجي الخبز، مع تبني سياسات تحفيزية لزراعة القمح، وإصلاح الممارسات الاستهلاكية للمجتمعات العربية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1095 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع