رسالة من يوسف عبدالجبار شنشل إرحموا عزيز قوم!
أنا الدكتور يوسف عبد الجبار شنشل نجل الفريق الأول الركن عبد الجبار شنشل، رئيس أركان الجيش العراقي الذي قاتل في حرب 1973، ومن بعدها قاتل الفرس في 'قادسية صدام' لوقف المدّ الفارسي إلى العراق.
أبعث لكم هذه الرسالة ليعرف العالم ما آل له وضع الأشراف الذين قاتلوا الفرس.
الفريق شنشل اليوم يبلغ من العمر 88 سنة، وقد تعرض إلى جلطة دماغية قبل أشهر. هو اليوم في عمان يقيم عند ابنته، التي تتكفل برعايته بشكل تام، وذلك منذ احتلال العراق عام 2003.
لقد تم اخراجه من الخدمة العسكرية بعد أكثر من 65 عاماً خدمة فعلية من دون أن يتم تخصيص أي تعويض أو راتب تقاعدي، أما عن داره التي كان يسكن بها فقد تمت مصادرتها من قبل أحد أبرز شيوخ الصحوات المدعو الشيخ علي الشيخ حاتم عنوة وبدون أي وجه حق وبدون دفع أي ايجار واما منزله الثاني في مدينة الموصل في حي البعث فقد تم التجاوز عليه من قبل احد الاشخاص المتنفذين في الحكومة اليوم!
الفريق شنشل اليوم رجل كبير ومريض يعيش على ما تبقى من مدخراته المتواضعة جدآ والتي لا تكاد تصل لتسديد تكاليف علاجه. لا يحصل على أي راتب تقاعدي عن كل هذه السنين التي خدم فيها العراق وأمته العربية وقاتل طيلة حياته من أجل قضايا العرب المصيرية.
أكتب هذه الأسطر حتى تصل هذه الصورة المأساوية لكل العراقيين والعرب، حتى يتعرفوا على نوع الطبقة التي تحكم اليوم في بلاد الرافدين، هذه المجموعة التي تحارب كل شريف خدم ودافع عن العراق..
قبل سنوات زاره السيد طارق الهاشمي وتفقد أحواله
عبد الجبار شنشل ضابط عراقي سابق. امتدت مدة خدمتة إلى ستون عاما ابتدأها من رتبة ملازم حتى وصل إلى رتبة الفريق اول ركن عبد الجبار شنشل فريق أول ركن. أصبح رئيسا لاركان الجيش ثم وزيرا للدفاع ثم وزير الدولة للشؤون العسكرية. من مواليد محافظة نينوى مدينة الموصل.
شارك في كافة الحروب التي خاضهاالعراق. في حرب العرب عام 1948 وحرب 1967 مع إسرائيل وحرب 1973 مع إسرائيل وحرب 1980 مع إيران وحرب 1991 مع دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . بالإضافة إلى تأليفه عدة كتب تناولت التدريب والقيادة والسيطرة.
عرف الفريق الاول الركن عبد الجبار شنشل بالعصامية والنزاهة والانضباط والصراحة طيلة أكثر من ستة عقود أمضاها في الخدمة العسكرية، جنديا مقاتلا في الثكنات والمعسكرات، لم يسجل عليه أنه تهاون في واجباته، او تخلى عن مسؤولياته،أو نافق في علاقاته، وأجمل ما فيه تلك اللكنة الموصلية في كلامه التي ظلت ملازمة له مع انه لم يعش في الموصل غير خمس عمره، خصوصا سنوات النشأة والصبا، وقضى سبعين عاما في بغداد وبقية المحافظات بحيث بات خبيرا في الجغرافيا العراقية وهو القائد العسكري البارز..
من كثرة تنقلاته واقاماته في المدن والبلدات والقرى والجبال والوديان والبوادي والاهوار، يعرفها بالتفاصيل بالاسم والمساحة والمسافة والعلامات، وكثيرا ما كنا نلجأ اليه في عملنا الصحافي والاعلامي نسأله ونستفسر منه عن مكان او حدث، خلال سنوات الحرب الايرانية على العراق، فكان يجيب ويوجّه وينصح، قبل ان يتدارك ويبدأ هو السؤال بجد ولوم: 'أشنوا ما تعرف.. بقى هاي شغلي سهلة' !
من قرأ رسالة نجله الدكتور يوسف المنشورة في 'القدس العربي' قبل أيام وفيها عرض الحالة الصحية لوالده القائد الكبير، لا بد ولاحظ عبارة (يعيش على مدخراته المتواضعة وتسديد تكاليف علاجه) وهذه حقيقة مؤلمة، طبعا لم يشأ الابن ان يفصح عن حقيقة محزنة أخرى عن أبيه، تتمثل في ان شقيقته الدكتورة أيسر التي ترعاه في العاصمة الاردنية منذ خمس سنوات، اضطرت وهي مرغمة على اخراجه من المستشفى الذي يرقد فيه واعادته الى شقتها الصغيرة في حي ضاحية الرشيد، لانها لا تقوى على دفع نفقات المستشفى اليومية والمكلفة..
وتصوروا رجلا قضى في الوظيفة أكثر من خمسة وستين عاما متواصلا، تعرض خلالها الى الموت عشرات المرات دفاعا عن بلاده وامته وشغل مهام ومواقع قيادية متدرجا من آمر فصيل الى وزير للدفاع باقتدار، ومن رتبة ملازم ثان الى فريق أول باستحقاق، لا يستطيع ان يدفع تكاليف أدوية وطبابة ورقود في المستشفى، وهو الذي كان بمقدوره وبسهولة ان يفتتح أرصدة وحسابات لا حصر لها ويضع فيها الملايين بل المليارات من الدولارات والجنيهات والروبلات والفرنكات الفرنسية والماركات الالمانية قبل ان تتحول الى اليورو، والينات اليابانية وغيرها من العملات الدولية الاخرى، ولكنه انسان فاضل وجليل لم يمد يدا الى الحرام طوال عمره، قانع براتبه الشهري، قابل بحياته البسيطة وسط اسرته ومؤسسته ومجتمعه، وهو الحريص الى حد الصوفية في الابتعاد عن المباهج والرفاه والمغريات، نزيه بشكل لا يصدق، يتجنب كل شيء قد يثير اللغط وسوء الحديث والكلام، واليكم هذه الحكاية وشهودها أحياء يرزقون، للدلالة على عفته ونبله وصدقه مع نفسه والاخرين.
في عام 1976 سافر وفد عراقي رسمي كبير الى موسكو برئاسة الدكتور عزة مصطفى عضو مجلس قيادة الثورة ووزير العمل والشؤون الاجتماعية في حينه وعضوية عدد من الوزراء والمسؤولين من بينهم رئيس أركان الجيش الفريق عبد الجبار شنشل الذي تولى رئاسة الجانب العراقي في المباحثات العسكرية مع المسؤولين السوفييت، وكان شديدا وحريصا في المفاوضات التي تناولت قضايا تدريبية وشراء أسلحة ومعدات بلغت قيمتها بما يعادل اربعة عشر مليون دولار، وحان موعد التوقيع على محضر الاتفاق، وحضر رئيسا واعضاء الوفدين العسكريين العراقي والسوفييتي..ولكن سرت همهمة لدى الجانب العراقي وتأخر موعد التوقيع وسط غضب واضح على وجوه الجنرالات السوفييت، وتبين في نهاية الامر ان الفريق شنشل يمتنع عن التوقيع على محضر الاتفاق ويبرر امتناعه بان المبلغ عال جدا وبالملايين، ولا يصح التوقيع عليه من قبله، وحدثت مشكلة لم يحسمها غير اطلالة الدكتور عزة مصطفى على المجتمعين وقام بالتوقيع على الاتفاقية العسكرية الثنائية، وتنفس الفريق شنشل الصعداء وسمع وهو يقول: هسي تمام وهيك الصح.. وتردد في حينه ان الدكتور مصطفى عند عودته الى بغداد حدّث الرئيس أحمد حسن البكر- رحمه الله ـ بالقصة وكيف استاء المسؤولون السوفييت من امتناع رئيس اركان الجيش العراقي عن توقيع الاتفاقية العسكرية التي فاوض عليها وكان اعتقادهم انه غير راض عن كلفتها المالية، فضحك البكر وقال للوزير مصطفى: يا دكتور لازم كنت تعرف ان ابا مثنى - يقصد الفريق عبد الجبار- حنبلي ويصير سامي الشيخلي (بطل العراق والعرب في ركضة المئة متر) عند شغلة الفلوس!
الفريق عبد الجبار شنشل رغم صرامته وحزمه المشهودين به، بسيط في تعامله مع الضباط والجنود والمراتب حتى وهو رئيس اركان ووزير، كان يتفقد المواقع الامامية والحجابات على جبهة الحرب مع ايران بنفسه دون ان ينزع رتبته والانواط والاوسمة عن صدره، وعندما حاول الفريق المرحوم ثابت سلطان قائد الفيلق الرابع ذات مرة ان يمنعه من زيارة موقع عسكري أمامي كان مشتبكا مع العدو، وقف شنشل وهو يرتعد من الغضب وصاح بالفريق ثابت: 'ابق في غرفة العمليات وعالج الموقف وانا رايح عند أولادي' ونهض وسار بخطوات ثابتة نحو سيارته وسط تساقط كثيف من القنابل والقذائف المعادية ولحق به الفريق ثابت وقاد بنفسه عجلة الفريق شنشل الى الموقع الامامي الذي استبشر ضباطه وجنوده بمقدم رئيس الاركان وقائد الفيلق وصالوا على الايرانيين في صولة فرسان ودحروهم..
وعندما سمع الرئيس الراحل صدام حسين بالحكاية ضحك طويلا وقال: 'منو يقدر يمنع ابو مثنى بهيج شغلات وحالات، والله صدام حسين ما يقدر يمنعه.. الفريق ثابت يقدر، لا يابه لا'؟
والحقيقة التي يجب ان تثبت للتاريخ ان قادة وضباط الجيش العراقي الاصيل من رؤساء وزملاء وتلامذة الفريق شنشل كلهم أصحاب غيرة وطنية وقومية وأهل كفاءة وخبرة ويتمتعون بحس انساني وصلابة وشجاعة غير هيابين من الحق ولا يخشون الشدائد والمحن مهما كبرت واتسعت، وفلسفتهم في الدنيا، الحياة بشرف والموت بالشهادة، وبالتأكيد فان أقسى ما يمر به الفريق شنشل الان انه يعيش بعيدا عن وطنه وقد يموت غدا أو بعد على سريره المتواضع في شقة ابنته او في مستشفى رمادي البناء ويستعرض شريطا طويلا من مسيرة حافلة بالعطاء والتضحيات وهذا هو فخره وشرفه وعزه ،على عكس من جاء مؤخرا ووضع الرتب المزيفة على كتفيه ونياشين العار على صدره وهو منبطح امام جندي صغير من المارينز.
الفريق عبد الجبار شنشل كان يمكن ان يعيش في قصور فخمة وفيللات باذخة ووسط الخدم والحشم والسيارات والمرافقين كما يعيش اؤلئك الذين لحوم أكتافهم من النظام السابق في عواصم عربية واوروبية، وهم منشغلون في صفقاتهم ومقاولاتهم وبعضها يا للخزي مع الاحتلال وأعوانه، ولكنه عبد الجبار شنشل وهذا وحده يكفي، لم يفتح فمه في طلب مساعدة هو بأمس الحاجة اليها، ولم يسأل ولم يعتب ولم يخفض رأسا او هامة لاحد، هو هو بوجهه الحاد القسمات والتجاعيد المحفورة بعمق رغم شلل نصفي ضرب جسده نتيجة جلطة دماغية، ايمانه عميق بان عراقه سيعود كما كان أبيا وسيدا، وهو على يقين بان الجيش الذي كان فيه جنديا كما يردد دائما سيعود مهيبا وقويا مهما استخدم الغزاة وخدمهم من وسائل واجراءات حل والغاء .
فالجيش الذي خرج منه جعفر العسكري وطه الهاشمي وصائب صالح الجبوري وصلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب ورفيق عارف وعمر علي ونجيب الربيعي وناظم الطبقجلي وعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وناجي طالب ومحسن حسين الحبيب وداوود سرسم وعارف عبد الرزاق ورجب عبد المجيد وابراهيم فيصل الانصاري وصبحي عبد الحميد وفيصل شرهان العرس وعدنان خيرالله ونزار الخزرجي وسلطان هاشم وعلاء الجنابي وعبدالواحد شنان آل رباط وياسين المعيني وهشام صباح الفخري وحميد شعبان وعبد الجبار شنشل ومئات القادة الاشاوس والاف الضباط النشامى منهم من راح شهيدا ومنهم من ينتظر، لن يذل ولن ينتهي ، وهكذا هم الرجال يبقون صناديد حتى في حالات ابعادهم القسرية عن حاضنتهم وثكناتهم وشيخوختهم..
أما ذلك القزم الدنيء الذي اغتصب دارة الفريق عبد الجبار شنشل في حي الجادرية وسكن فيها عنوة مع غلمانه وسوء أصدقائه، فان مصيرا أسودا ينتظره كما ينتظر زميله الايراني غاصب بيوت الفرقاء سلطان هاشم وعبد الواحد آل رباط وحسين رشيد وغيرهم من قادة جيش العراق الباسل..
عبد الجبار شنشل.. تحية اكبار واعتزاز وانت تحيا وتعيش وتموت.
اللهم أحفظ العراق والعراقيين ووحدهم يارب العالمين
874 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع