بغداد - جواد الحطاب -عرفت فترة الثلاثينيات والأربعينيات وما بعدها فناً متفرداً يسمى "المونولوج"، وكان يطلق على مؤديه لقب "المونولوجست"، وقد اشتهر في مصر مثلاً الفنان إسماعيل ياسين وشكوكو وآخرون.
أما في العراق فقد برع فيه ووضع قواعده فنان ذاع صيته في جميع أرجاء البلاد اسمه عزيز علي، الذي ولد عام 1911 وتوفي - منسياً - في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن حاز من الشهرة والألقاب ما حاز ودخل بسبب مونولوجاته السجون، كما عانى الإبعاد والمحاصرة، لكونها تناهض المستعمرين وتفضح فساد الحكومة، وتطالب بالتغيير السياسي والاجتماعي.
ولم يقتصر انتقاده حدود العراق فقط، فحين تأسست الجامعة العربية لم يعول كثيراً على قيامها بسبب الرعاية الأجنبية لأغلب الحكومات، لأن التأسيس بدأ بسبع دول وسرعان ما تناسلت هذه السبع إلى 22 دولة، وبدلاً من الاتحاد بدأت الفرقة، فسلط عليها سيف انتقاده، مطالباً الشعوب العربية بالنهضة ومحاربة المستعمرين، وبهذا كان عزيز علي أول فنان عراقي وعربي يطالب بـ"الربيع العربي" والانتفاضة على الحكومات التي لا تمثل تطلعات شعوبها.
فنان الشعب "الثائر"
يقول عنه المفكر حسن العلوي في كتابه الموسوم "اللحن الساخر": "إن الفنان عزيز علي كان يافعاً عندما تأسست الدولة العراقية الحديثة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في بدايات العقد الثاني من القرن الماضي، ولذلك فإنه اطلع على مخاض التأسيس، ورافق نموها وتطورها، وعاصر آلام الشعب جراءها وآماله منها، وراح يجسد تلك الصور والأحاسيس في مونولوجاته، فكان دقيقاً في التشخيص ومتشدداً في الحل حتى وصف بـ"الثائر"، لكنه نأى بنفسه أن يعبر عن أي تيار سياسي أو يتبنى موقفاً حزبياً، بل كان انحيازه إلى الفقراء والضعفاء، وهؤلاء كانوا يشكلون الغالبية العظمى من الشعب العراقي، بل معظم الشعوب، لأن العالم كله كان يمر عبر ممر ضيق بين الحربين العالميتين الأولى والثانية".
لم يصل "فنان الشعب" إلى مكانته تلك إلا بثقافته العالية، فقد كان يتقن عدة لغات في آن واحد مثل الإنجليزية والألمانية والروسية، فضلاً عن لغتي وطنه الأم العربية والكردية، وهو ما مكّنه من التعبير عن مشاعر الطبقات الكادحة والمتطلعة إلى الحرية والعيش الكريم.
مونولوجات.. وشوارع فارغة
في عام 1936 افتتحت الإذاعة العراقية، وكان مقرها عبارة عن غرفة صغيرة في سراي الحكومة، وكل معداتها جهاز إرسال فقط، وعبر هذا الجهاز كان الفنان عزيز علي ينشد قصائده التي كان يكتبها بنفسه ويسميها "مقالات" لمباشرتها وشعبيتها.
يقول السيد حامد البزركان (مواليد 1931): "في الساعة الثامنة والنصف من كل يوم أربعاء تفرغ الشوارع تقريباً، وكنا نتحلق حول جهاز الراديو لنستمع إلى عزيز علي، لتصبح أغنياته فيما بعد ما يشبه "المنشور السري"، لكونها تتعرض للاستعمار ولسياسات الحكومة، ويوم منع من دخول الإذاعة ثارت ضجة كبيرة بين الأوساط الشعبية".
عزيز علي نفسه يروي هذه الحكاية فيقول: "بعد ثورة 1958 حدثني د. مصطفى جواد بأنه كان عند رئيس الوزراء نوري باشا السعيد في أحد الأيام ومصادفة أدار مؤشر الإذاعة فسمع مقالك – الفن - وتابعه بكامله وعندما انتهيت قال لي - شوف هذا ابن الـ.... دا يشتمني".
حضور في الفضائيات وغياب في الذكرى
وتعد مواهبه المتعددة في التأليف والتلحين والإنشاد، وتناوله لهموم الناس هي من جعلته مسموعاً إلى الآن، حيث لا تخلو إذاعة من الإذاعات العاملة في العراق من بث أغانيه، كما تحرص الفضائيات العراقية على بثها، لأنها كأنما كتبت لزمننا الحاضر وليس لأواسط القرن الماضي.
ومما يؤسف له أن ذكراه المئوية قد مرت قبل أشهر من دون أن يلتفت إليها أحد، وربما هو قدر المبدعين الكبار في بلداننا العربية.
1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع