ماتياس إينار في 'شرق' مفعم بالحكايات

               

              الراوي في 'بوصلة' يُمارس عزفه في لحظة السّرد المطوّل


الكاتب الفرنسي لا يكتب ليحكي الشّرق بل ليُصلّح شيئا من صورة الشّرق التي اهتزت بسبب عقود من الكتابات المستسلمة للتعليب وللعب على غرائز قارئ غربي كسول.

العرب سعيد خطيبي*:انتظرت الرّواية الفرنسية طويلا لتجد كاتبا فرنسيا من الدّاخل، يكتب عن الشّرق بعيدا عن كليشيهات ما يُطلق عليه ﺒ"أدب البطاقات البريدية"، فقد حرّرها ماتياس إينار (1972) من الابتذال ومن اجترار حكايات مكرّرة أثقلتها، وصالح القارئ مع "شهوة" إعادة اكتشاف ما وراء الحدود الجنوبية.


منذ حوالي نصف قرن، انساقت الرّواية الفرنسية نحو السّوق التّجارية، وصارت بضاعة أولا ونصا ثانيا، وتحوّلات مؤسسات النّشر إلى "كارتلات" صغيرة، تصطف رؤوسها على طول جادّة "الحيّ اللاتيني"، وكسب النّاشرون الرّهان بتحقيق مساحات انتشار، في الدّاخل، وتصدير "بضاعتهم" إلى الخارج، والخاسر الأكبر في هذه العملية، التي فرضها المناخ الاقتصادي الجيّد للبلد، هو الكاتب، حيث فشلت مخطوطات كثيرة جيّدة، في إيجاد طريق لها نحو دور النّشر الأساسية المنغلقة على ذاتها، وأضاع القارئ على نفسه فرصة الاطلاع عليها.

في ظلّ هذا المشهد الاحتكاري، برزت دار النشّر "آكت سيد"، التي اتخذت خطّا يختلف عن المخضرمين (مثل غاليمار وغراسي)، واهتمت بالجنوب وبكتّاب من الجنوب، وبنصوص من خارج البلد، وضمن كاتالوغ الدّار نفسها سنجد أسماء شابّة مهمّة، على غرار جيروم فيراري (غونكور 2012) وماتياس إينار وغيرهم.

هي المرّة الأولى التي نُصادف فيها كاتبا فرنسي المنشأ يتقن العربية، يكتب بروح شاعر ممسوس بعفاريت أزقّة الشّرق العتيق، يجعل من أشخاص عاديين أبطالا، يغطس في الهامش، الذي لا ينتبه إليه "العربي" كثيرا ويخرج منه بحكايات نشعر من قراءتها، للوهلة الأولى، أن كاتبها ليس إلا عربيا متخفيا خلف اسم فرنسي، فماتياس إينار ليس من الكُتّاب الذين تغريهم الحميميات الشرقية، والعلاقات المضطربة بين الأفراد، وليس من أنصار "الفرجة الأدبية" التي تبحث عن تضخيم أرقام المبيعات لا أكثر، بل هو يكتب أولا عن شرق منسجم مع فوضاه، وغير مبالٍ بالتراتبية الإثنية التي أسقطها عليه مثقفو ما بعد التّنوير.

في روايته "شارع اللصوص" (2012)، التي عاد فيها إلى موضوعاته الأثيرة، عن الفضاء العربي، قدّم الكاتب مقاربة للحياة في جنوب المتوسط، بشكل لم يتعوّد عليه القارئ، الذي يدخل من أبواب السرد إلى الحارات الجانبية من مدينة طنجة، في لحظة الانفجار الشّبابي، في السّاحات العربية، التي كانت تصل أخبارها إلى المدينة المغربية المُهادنة، عبر شاشات التلفزيونات، وعلى ألسنة الفضوليين في المقاهي وفي أرصفة الشّوارع.

بطل الرواية "لخضر"، مراهق مولع بالقصص البوليسية، سيُطرد من "العائلة" بعد اكتشاف علاقته الحميمة مع ابنة عمّه مريم، ليسقط في حياة تيه وعدم استقرار، يتابع ما يحدث من ربيع عربي وأزمة مالية في أوروبا ولا يستطيع تحديد موقف له مما يجري، ولا يفكّر، في ظلّ التحوّلات الجمعية، سوى في خلاص شخصيّ له، ويُخالط، في لحظة عوز، جماعة متديّنة، تمتهن بيع الكتب، للتغطية على نشاطات سياسية لها، سيصطدم مع توجهاتهم، ويختلف معهم في الرّأي، فقد كانت أقصى أحلامه أن يقرأ كتابا جيّدا ويُعاكس فتاة جميلة في الشّارع، ويشرب قنينة بيرة. قبل أن يتعرّف على شابة أسبانية، جاءت إلى المغرب لتعلّم العربية، يتعلّق بها، ثم يلتحق بها في "شارع اللصوص" ببرشلونة.

في هذه الرّواية استخدم ماتياس إينار بعض أدواته الشّخصية لشرح الحالة العربية المضطربة مطلع الربيع العربي، وظّفت شخصية طالبة أسبانية تتعلم العربية، وتعيش في برشلونة (حيث هو يقيم ويُدرّس العربية)، وأعاد قراءة المشهد العام، انطلاقا من تقارير صحافية، من تجارب شخصية، في المغرب، ليصوّر، بشكل روائي، حياة الشّباب المثخنة بالأوهام والخسارات، والحالمة بطريق يقودها إلى شمال المتوسط. شباب أضاع وجهته ولا يحلم سوى بشيء لا يمتلك لغة لتسميته هو: الحرية؛ الحرية الكاملة، وليس حريّة مجزأة.

هذا العام، أصدر ماتياس إينار رواية "بوصلة"، التي فازت أخيرا بجائزة غونكور، واستعان بموسيقي نمساوي هو فرانز ريت، الذي بات يعدّ أيامه الأخيرة، ويتذكّر بسخاء جولاته الطّويلة في الشّرق الأوسط، هكذا يفتح ذاكراته لسارة، ويسرح في سرد حياة محشوّة بالقصص وبالمرويات وبالشخصيات، التي تختلط بالواقع والمُتخيّل.

الشّرق كان، في القرنين الماضيين، مادة أولية لشعراء أوروبيين، ملهما لنصوص وردية، ثم صار، بين يدي ماتياس إينار، نافذة يطلّ منها على الأوروبي نفسه، هذا الأوروبي الذي لم يتحرّر من البعد الشّرقي في شخصيته، ويعبر الرّاوي بذاكراته سنوات التّجوال المفتوح في مثلث سوريا والعراق وإيران، يحكيها في لحظة كان جسده يحتضر في فيينا وقلبه يعود إلى صباه في الشّرق، ولا يبدو للقارئ، من قراءة أولية، أن الرواية جاءت لمتعة النصّ، أو للتسلية، بل هي عمل بحثي عميق في حفره لبورتريهات الشخصيات ولعوالمها، فالكاتب لم يستسهل المهمة التي ورط نفسه فيها، بل وضع لها، على ما يبدو، خطّة عمل مرتبة، لا شيء يظهر فيها مصادفة أو من أجل ترصيع النصّ لا أكثر، كل مقطع يحيل على ما بعده، كأن الراوي في "بوصلة" يُمارس عزفه أيضا في لحظة السّرد المطوّل، هي ما يشبه "أنطولوجيا الشّرق من وجهة نظر الغرب" بحسب تعبير أحد النّقاد. حتى أن هناك من ذهب بعيدا نحو مقارنة رواية "بوصلة" ﺒ"ألف ليلة وليلة" وهي مقاربة مبالغ فيها نوعا ما، وهذا ليس إنقاصا من قيمة عمل إينار.

قراءة ماتياس إينار، خصوصا في روايتيه الأخيرتين، تستوجب انتباها للتفصيلات الصّغيرة، ففي العناصر الصّغيرة تكمن واحدة من نقاط قوة الكاتب نفسه، فهو لا يكتب ليحكي الشّرق، أو ليعيد تصديره للمكتبات، بل يكتب ليُصلّح شيئا من صورة الشّرق التي اهتزت بسبب عقود من الكتابات المستسلمة للتعليب وللعب على غرائز قارئ غربي كسول.

*كاتب من الجزائر

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1018 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع