استحضار صورة الأم القديمة التي لم تمت
تعتبر جائزة "القارات الخمس" من أهم الجوائز الأدبية الفرنسية، وتبلغ قيمتها المادية عشرة آلاف أورو، تمنح سنويا للكتاب الناطقين بالفرنسية من مختلف الجنسيات. وقد منحت هذه الجائزة المرموقة في دورتها الأخيرة للكاتبة التونسية فوزية الزواري.
العرب/ حسونة المصباحي:فازت الكاتبة التونسية فوزية الزواري التي تقيم في باريس منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بجائزة "القارات الخمس" عن روايتها "جسد أمي".
تحكي الزواري، في روايتها "جسد أمي"، عن علاقتها بوالدتها التي رحلت عن الدنيا في عام 2007. كما تروي فيها ذكريات طفولتها في بلدة الدهماني التابعة لمحافظة الكاف المتاخمة للحدود التونسية-الجزائرية.
وفوزية الزواري هي أصغر أخواتها الخمس اللاتي حرمن من التعليم. أما هي فقد تمكنت من إنقاذ نفسها من الأمية لتحصل قبل سنّ العشرين على شهادة الباكلوريا. بعدها تابعت دراستها العليا في قسم الآداب الفرنسية بجامعة السوربون.
مشاعر وذكريات
تقول لجنة تحكيم جائزة القارات الخمس "إن اختيارهم وقع على "جسد أمي" لأنهم أعجبوا بالأسلوب الزاخر بالمشاعر والذكريات والأحاسيس. وأن الكاتبة فوزية الزواري تفوقت في إشراك القارئ في مسعاها من أجل الحديث عن امرأة واحدة، وهي أمها التي تحتضر والتي لم تستطع أن تفهمها دائما”.
كما أشارت اللجنة إلى أن الرواية، الصادرة هذا العام عن دار “غاليمار” الباريسية، لا تدع مجالا للرياء الأخلاقي، وترصد أحداثا درامية بنفس القدر من السخرية بأسلوب شاعري.
وقد أصدرت فوزية الزاوري ثلاث روايات. كما أنجزت العديد من الدراسات حول قضايا ثقافية واجتماعية متصلة بمشكلات المرأة التونسية، وبالإسلام.
وقد احتفت جل الصحف والمجلات الفرنسيّة الرفيعة برواية "جسد أمي"، وحاورت مؤلفتها، ونوهت بلغتها الفرنسية "الناعمة والطرية". وأشارت جريدة “لوموند” في ملحقها الثقافي الأسبوعي إلى أن فوزية الزواري لم تكتف بوصف علاقتها العاطفية بوالدتها في زمن الطفولة القاسية، بل قدمت شهادة بديعة عن العلاقات الاجتماعية في الفترات التي أعقبت استقلال تونس عام 1956.
لماذا أمي
في المقدمة التي خصصها للرواية، أشار الكاتب الجزائري المعروف بوعلام صلصال إلى أن فوزية الزواري قدمت للقراء “قصة عائلية خارقة، شكسبيريّة (نسبة إلى شكسبير) في حبكتها، وفي اتساعها، وفي أسلوبها”.
في مطلع الرواية تقول فوزية الزواري إنها ظلت على مدى خمسة أعوام عاجزة عن الكتابة عن والدتها. وفي كلّ مرة تحاول فيها أن تفعل ذلك، تفرّ منها الكلمات، لتجد نفسها منتصبة أمام جثمان أمها قبل أن تحمل إلى المقبرة فيعتريها الخوف، وتصاب بالجمود. وعليها عندئذ أن تختبر قدرتها على الكتابة عن مواضيع أخرى لكي تعود إليها الكلمات من جديد.
من الأسباب الأخرى التي كانت تعيقها عن الكتابة عن أمها، هو أنها كانت تعتقد أن اللغة الفرنسية قد تكون عاجزة عن نقل الصورة الحقيقية لأم بدوية يزين وجهها الوشم، أمّ كانت ترى أن اللغة الفرنسية هي لغة العدو الذي احتل وطنها، وقتل أبناءه الذين واجهوه وتمرّدوا عليه. وكيف يمكن والأمر على هذا الحال، أن تكتب فوزية الزواري عن أمها بغير لغة هذه الأخيرة؟ لكن في النهاية، ومضت الإشراقة.
وها هي تنطلق في الكتابة لتجد نفسها عاجزة عن التوقف، وها هي الذكريات تتهاطل، وها هي صورة الأم تزداد وضوحا وإلحاحا. فكأنها عادت من العالم الآخر لتحرض ابنتها “الباريسيّة” على مواصلة الكتابة. حدث ذلك في بداية عام 2011 الذي شهد سقوط نظام بن علي. وعندما كان التونسيون يتظاهرون في الشوارع، ويحرقون كل ما يرمز إلى النظام المنهار، كانت فوزية الزواري منكبة على كتابة قصة والدتها واجدة في ذلك متعة كبيرة.
وفي مطلع روايتها، تكتب فوزية الزواري أيضا بأن والدتها كانت مختلفة عن أمهات اليوم “الثرثارات، الذّلقات اللسان، الموصولات بالإنترنت. ولم تكن تتحدث إلاّ إلى “الريح حين تهب، وإلى العصفور الذي يصلي”. وقد عاشت حياتها من دون أن ترى البحر، أو تأكل ولو سمكة واحدة.
وتضيف الزواري قائلة “لكن كيف أتجاسر على أن أحاكم التي وهبتني الحياة، مثلما يفعل البعض من الكتاب. صحيح أن أمي كانت تضربني عندما كنت صغيرة. وقد أوشكت على حرماني من الدراسة، لتلقي بي في حبس الأمية. وعلى جسدي ألصقت ذنب انطلاقي إلى الخارج في حين أن نساء بلادي لا يتجاوزن الحدود. وعندما ألمس جسدي، أكتشف أنه لايزال مسكونا بمخاوفها. لكن ليس بإمكاني أن ألومها على ذلك. فكما لو أن هناك قدرات عند العرب تحتّم عليهم أن يغفروا للأمهات”.
وفي فقرة أخرى من الرواية، تكتب فوزية الزواري قائلة “لم تكن (تعني أمّها) ترفض الواقع. كانت بكل بساطة تترك الباب مفتوحا لـ’العجيب والغريب’ الذي يتّخذ مكانا له في حياتها اليوميّة ويوقّعها على هواه”.
وبالنسبة إلى هذه البدوية الأمية لم يكن هناك ما يحيّرها، ويشغل بالها، “فالله متحكم في المصائر، وبيده الخير والشر يصيب بهما من يشاء من عباده. ولا أحد قادرا على التمرد عليه. فإن تجرّأ على ذلك، أصابه غضبه فتتحول حياته إلى جحيم”. وعندما شرعت في الكتابة، اكتشفت فوزية الزواري أن حياة والدتها لم تكن فقيرة وخالية من الإثارة كما كانت تتوهم، بل كانت غنيّة وعميقة، ومفعمة بما يجعل الكتابة عنها متعة بحد ذاتها.
وفي النهاية تشعر فوزية الزواري أن أمها لم تمت. والآن هي قادرة على أن تستحضر صورتها القديمة، وتنفض عنها الغبار، بل هي قادرة على أن تتكلم معها لتعتذر لها عن أخطا
1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع