لابد لنا من فجر سيرة ذاتية في النضال القومي الاشتراكي / ح٣

     

لابد لنا من فجر سيرة ذاتية في النضال القومي الاشتراكي / ح٣

  

  

               تأليف الدكتور - ضرغام الدباغ

  

ثانياً /مرحلة تبلورات

من غرائب الصدف أنني رأيت القائد عبد الكريم قاسم مرتين في الأيام القليلة بين خروجي من الاعتقال واندلاع ثورة رمضان، كنت مدعو إلى الغداء عند صديق في الكرخ/ المأمون، ولاحظنا أن احتفالاً يقام في الجوار، علمنا أنه يوم افتتاح دور للضباط، وفي تلك اللحظات جاءت سيارة الزعيم (وكان هذا لقبه الرسمي) ولا بد من الإقرار أنه كان شجاعاً، يسير بدون حماية كثيفة وأنه كان متواضعاً، سار بين الناس وكعادته في أتم الأناقة العسكرية وكان يضع رتبته (فريق ركن) التي نالها باستحقاقه قبل أيام فقط دون أن يمنح نفسه قدماً ولو لبضعة أشهر،

              

وكان نظامياً في قيافته العسكرية، فيرتدي نطاق الخدمة النسيجي، وكذلك مسدس الخدمة النظامي رغم كبر حجمه(ويبلي نصف)، ويضع علامة الوحدة التي كان يقودها(اللواء التاسع عشر/ مشاة). ورأيته عن قرب شديد، ربما لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة أمتار. والمرة الثانية قبل يومين من الثورة، وكان خارجاً من مجلس السيادة في الكسره، وكان يركب سيارته المصفحة الحديثة (كاديلاك) وكانت ذات لون خاكي، ويضيء مصباح السيارة الداخلي أثناء مسيرها.

في الصباح الباكر ليوم 8/ شباط/1963، ويوافق يوم الرابع عشر من رمضان، استيقظنا وكل بغداد، بل العراق بأسره، على أصوات أنفجارات صواريخ وقنابل وقصف جوي، وبسرعة أدركنا أن العمليات تدور بصفة رئيسية على وحول وزارة الدفاع، بل هي حركة عسكرية !! وبعد دقائق ابتدأت إذاعة بغداد تذيع البيانات الأولى..!

       

وفي نفس الوقت شوهدت سيارات مدنية وأفراد يرتدون الملابس المدنية ويضعون على الساعد الأيسر علامة خضراء مكتوب عليها الحرفان(ح ـ ق )، أي حرس قومي. فأنطلقت من بيتنا في نجيب باشا، إلى النادي الأولمبي الرياضي القريب الذي يطل على ساحة عنتر، وكان هذا النادي قد تحول إلى أحدى مقرات الثورة... نعم صرنا نطلق عليها ثورة، بعد أن تأكدنا أن الحزب يقود الثورة... بل أن أحدى البيانات الأولى وكان ينص على تأسيس منظمة الحرس القومي، ويعين قيادة عامة، ويحدد أسماء الضباط فيها، تضم أسم الصديق أحمد العزاوي.

     

في النادي الأولمبي الذي كان يعج بالمئات من البعثيين وجماهير الشعب المؤيدة للثورة، شاهدت الرفيق تايه عبد الكريم يقف بباب النادي، ثم قام الرفاق هناك بتوزيع الزمر والمجاميع لتنفيذ المهام الحزبية. فتشكلت مفرزة من ثلاثة أشخاص بقيادة الرفيق محمد عبد الطائي وأنا ورفيق آخر لم أعد أذكر أسمه للأسف وكنا نعرف بعضنا من ثانوية الأعظمية، وكانت مهمة المفرزة التمركز في مدخل حي القاهرة قرب المجمع العلمي العراقي، وكان الرفيق محمد يحمل بندقية أنكليزية (لي أنفيلد 303) وربما خمسة عشر أطلاقة فقط، فيما أخذت أنا حربة البندقية، ورفيقنا الثالث كان خالي الوفاض، ولكنه على أية حال وجود مسلح يعرض وجود الثورة في ذلك المكان، ورغم أن حركة السابلة كانت ضعيفة، إذ كان الناس ينظرون إلينا بفضول، ويتطلعون إلى الجو والطائرات المقاتلة النفاثة تجوب سماء بغداد وتقصف أهدافاً، وعلمنا فيما بعد أن الطائرات قصفت أيضاً القاعدة الجوية في معسكر الرشيد بالإضافة إلى القصف المتواصل لوزارة الدفاع.

كان بالقرب من مكان تمركزنا منزل سيدة قريبة إحدى الشخصيات المهمة ومن أعوان عبد الكريم قاسم(شقيقة جلال الاوقاتي)، وكان هنا شبان يجمعون تواقيع التأييد للثورة حاولوا دخول ذلك الدار فمنعناهم الرفيق محمد عبد وأنا، بل تعاملنا مع تلك العائلة بكل احترام، ولا شك أنهم كانوا يمرون في أزمة ولم يكن وقت مماحكة واستفزاز.

كان الموقف يتطور لصالح الثورة بسرعة، حيث علمنا أن الدبابات تحاصر وزارة الدفاع، وأن عبد الكريم قاسم داخل مباني الوزارة، وأدركنا أن المسألة مجرد وقت والمقاومة تتضائل، مقابل قوى الثورة التي تتعزز، وكان واضحاً لي وإن لم أكن بمرتبة قيادية، أو في سن تتيح لي التجربة الثرية استجلاء الغوامض، إلا أنني أدركت ظهيرة اليوم الأول للثورة أن الثورة قد نجحت، وأن المقاومة التي يبديها عبد الكريم قاسم(وكان قد ابتدأ بالتفاوض مع الثوار)، والمقاومة لم تكن تعني له سوى التوصل إلى إنقاذ حياته أو تسليم مشرف، أو تلك المقاومة التي نادى بها وقادها الحزب الشيوعي، سوف لن تؤدي إلى شيء باستثناء تراكم في الخسائر، وموقفاً سياسياً سيكون عبئاً على الذين اتخذوه حالياً وفي المستقبل، ومن الأمور التي سنعرفها في المستقبل، أن قيادة الثورة كانت تضم، عناصر عسكرية أساساً ومدنية بنسبة أقل، وكانت مقاومة الحزب الشيوعي في بيانات أصدرتها قيادة الحزب المركزية(اللجنة المركزية ـ المكتب السياسي) ونداء سكرتيره العام ينطوي على خط ذا اتجاهين:

الأول / وهو الأهم برأيي، أن نظام عبد الكريم قاسم لم يكن يستحق أن يجازف الحزب الشيوعي ويقذف نفسه وجماهيره وتأريخه ومستقبله في أتون معركة إنقاذه، أليس في هذا مبالغة ؟ وهل يقبل على نفسه تحمل وزر كل ما فعله قاسم ؟ وبوسعنا اليوم الحوار برأس بارد، فأحداث الوطن، مصيره ومستقبله أكبر من الزوايا الصغيرة، وعلينا أن لا نحشر أنفسنا فيها، ربما أن وطنية عبد الكريم قاسم حقيقة، وبدقة أنه لم يكن ذو ارتباطات مشبوهة، ولكنه ولأن الحكم كان بالنسبة له الهدف الأول، والأخير تقريباً، وكان ديكتاتوراً، مارس لعبة التوازنات المحلية داخلياً، ولعبة التوازنات الخارجية، فموقفه من مصر كان خشية من النفوذ الناصري والقومي، وذلك كان كافياً لترضى عنه القوى الغربية الرئيسية (بريطانيا ـ أميركا)، وتقارير السفارة البريطانية في بغداد خير دليل على ذلك، ومارس لعبة التوازنات الداخلية والخارجية على نحو مكشوف ومضر، ولم يكن ليعف نفسه من دماء الناس .

ولكن في إطار تسجيل الوقائع بدقة، لابد من ذكر حقيقة أن عبد الكريم قاسم عمل بكل قواه على شق الحزب الشيوعي العراق، وكذلك على شق الحزب الوطني الديمقراطي، وأنه كان أول المهنئين بإنفصال الجمهورية العربية المتحدة المشبوه الذي غذته دوائر مشبوهة. أما بالنسبة للغرب فقد كان يقرأ الموقف، بطريقة مختلفة، فعبد الكريم قاسم لم يكن شيوعياً، وأنه لن يسلم الشيوعيين حكم العراق، فإذن وجود قاسماً في السلطة أفضل من أن يقع العراق بيد القوميين، فالقوميون يستفزون الغرب في قضايا رئيسية: ـ

* ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني.
* ضمان استمرار فعالياتهم النفطية، وكان عبد الناصر قد فتح باب السيطرة على الثروات الوطنية من خلال تأميم قناة السويس.
* بطرح شعارات الوحدة وتصفية مواقع النفوذ الأجنبية.

وعبد الكريم قاسم وإن خطا خطوة جيدة بإصدار القانون رقم 80 الخاص بالعمليات النفطية، خارج مدى عمل الشركات الغربية، إلا أنه كان بعيد عن قرار تأميم النفط. ولا أحاول بهذا ألقاء ظلال من الشك على وطنيته، ولكنه كان الخيار الأفضل للغرب، أفضل من القوميين أولاً وأفضل من الشيوعيين. ومع أن التوصل لمثل هذه التحليلات لم يكن أمراً عسيراً، إذ كان عبد الكريم قد ابتدأ بملاحقة الشيوعيين، أو بالأحرى تحجيم أنشطتهم، نعم كانوا ضرورة في سياسته الداخلية، ولكن بهدف واحد، وهو مواجهة البعثيين ومعسكرهم القومي، مع تصاعد لسياسته في التصدي لهم واعتقال عناصر منهم وأحياناً قيادية ! من جهة وتواصل لقاءاتهم به على مستوى القيادة ! وقد توفرت معطيات تدل على محاولة انقلاب عسكري قام بها ضباط شيوعيون، أستطاع عبد الكريم قاسم إحباطه في مراحله الأخيرة التنفيذية.

ولكن الشيوعيين استمروا على قناعة بأن عبد الكريم سوف يحتاجهم يوماً، ولربما اعتقدوا للوهلة الأولى أن الثورة فجر يوم 8 / شباط هي تلك المناسبة لإثبات ولائهم وضرورتهم لعبد الكريم قاسم، فاتخذوا ذلك القرار السريع الخاطئ فور قيام الثورة ودون التأكد من هويتها ونواياها بدقة، ومراجعة فرص التعامل معها، ودون إدراكهم بلا جدوى المقاومة، فأصدروا البيانات وبتوقيع السكرتير العام، فغدا من العسير التراجع عن هذا البيان بعد ساعات قاتلوا فيها أو بعد يوم، فكان قراراً أعتقد أنه خطأ سياسياً / عسكرياً.

وفق الحسابات السياسية / العسكرية التكتيكية، كان واضحاً أن حكم عبد الكريم قاسم(وهو حكم فردي) قد أنتهي، وبعد ساعات من اندلاع الثورة، وحتى ظهيرة 8 شباط كان ذلك قد غدا واضحاً، والثوار يمثلون فئات واسعة من الشعب، ومن الخطأ أتخاذ هذا الموقف المتسرع. ومع الوقت كان وقت المبادرات وتصحيح المواقف يمضي بسرعة، للأسف خسرنا ضحايا عزيزة. وهكذا أضيفت صفحة أخرى من سوء التفاهم المميت، بل وأني أعتبر أن سوء التفاهم وعدم إمكانية الأحزاب التاريخية المعبرة فعلاً عن آمال الشعب العراقي وأخص بها بالذكر الحزبيين: البعث العربي الاشتراكي والشيوعي العراقي هي أحدى الأخطاء الكبيرة ذات العواقب الوخيمة المستمرة منذ 1958 وحتى وقتنا الحالي، وكان من الممكن أن لا تنشب هذه الصراعات الغير مبررة، وهناك الكثير من الخيارات والاحتمالات، وجميعها أفضل من الذي حدث، واعتقد أن الظروف مواتية لمناقشة هادئة هادفة والتخلي عن ذكريات الماضي واللقاء على أساس الثوابت وإلا فأننا سنستمر نزرع الرياح ونحصد العواصف، ومن المؤسف أن تقود المواقف لاحقاً لأن يصبح الشيوعيون أعواناً للمحتلين الأمريكان الإمبرياليين، وأدلاء ومساعدين لهم، ولم يقبضوا ثمن تعاونهم سوى مزيد من التراجع، ولم ينقذ الموقف (جزئياً) إلا بعض الشيوعيين العراقيين المخلصين للعراق، فأنقذوا أسم الحزب من مهاوي الردى.

بات عبد الكريم قاسم ليلته الأولى في وزارة الدفاع، وكان قد ابتدأ بالتخلي دقيقة بعد أخرى عن آماله في استعادة السيطرة على الموقف، فبدأ بالتفاوض، ولكن الثوار أدركوا أنهم أحكموا قبضتهم على البلاد، لذلك لم يقبلوا بأقل من الاستسلام غير المشروط. وفي ظهيرة يوم 9 شباط كان عبد الكريم قاسم قد أعدم بعد محاكمة قصيرة،

   

وعرض التلفزيون صوراً له بعد مقتله مع عدد من الضباط من أعوانه المقربين، ولكن المقاومة استمرت مع ذلك، كان عبد الكريم قد مضى، والساحة تطرح مستجدات كبيرة ومهمة، أهم من 8/ شباط وما حدث، ولكن الصراع أستمر، لا بل افتتحت صفحات جديدة سيدون فيها التاريخ مآسي لا معنى لها، أفعال وردود أفعال تدل على عصبية وتشنج وعداوات وثأر، مثلها لا تجد إلا في الشرق، وفي الاحتكام إلى الهوى وليس لإدلة عقلية. وللأسف مازالت هذه الطاحونة تدور وتدور وتحصد أرواح ومكتسبات وفرص.

                   

كنت قد عدت إلى كلية الشرطة بعد يوم من الثورة، وانتظمت طالباً في الصف المتوسط (الثاني)، وكان نظام قاسم قد ذهب مع الريح وأصبح من الماضي، وانفتح ستار المسرح السياسي على أحداث ومفردات جديدة، وبدأنا نعيد بناء التنظيم الحزبي بسرعة شديدة(كتنظيم شرطة)، وحقاً خلال فترة قصيرة للغاية كنا قد استعدنا قوانا الحزبية، فالرفاق الذين كانوا قد خاضوا تجارب السجن أصبحوا ركائز التنظيم الجديد، ثم اكتشفنا عدد لا بأس به من الرفاق البعثيين في الدورة التي تلينا(الدورة 19) منهم: رشيد النقيب، عامر السراج، فرج رحيم، أسد سعد وغيرهم، كما أنضم العديد من الطلاب إلى الحزب، وقد أصبح الكسب الحزبي سهلاً، وكانت الغاية حشد أكبر عدد من العناصر وراء شعارات الحزب، مع إدراكنا أن بعض هؤلاء كان يفكر بمصالحه الشخصية أكثر مما يفكر بمصالح العراق والأمة العربية، ولكننا كنا نأمل أن عدداً من هؤلاء سيترسخ في الحزب، وفعلاً تحقق ما توقعناه، فقد تسرب البعض مع احتدام المعارك، ولكن آخرون اختاروا طريق الحزب للنضال حاضراً ومستقبلاً.

كان الواجب النضالي للبعثيين قد ضم فقرة رئيسية جديدة: الحفاظ على الثورة وتطوير مكاسبها ومواجهة أعدائها. ولكن الحزب كان يشهد امتحانا كبيراً يجري على نار ساخنة، فالحزب ومبادئه الأساسية والتطبيقات العملية وأهدافه قد غدا وجهاً لوجه أمام الجماهير والواقع الموضوعي الصعب، والإسراف في الثقة والتفاؤل وإطلاق الوعود لم يعد يكفي، وقد ثبت للقيادة أن أي تقدم مهما كان ضئيلاً أنما هو عملية صعبة ومعقدة ومحفوفة بالمخاطر والتحديات كما أن المحتوى الاجتماعي الذي لم يكن موضع تركيز شديد في المرحلة السابقة، وفي اهتمامات البعثيين قيادات وأفراد إلا على نحو بسيط، تحول إلى أمر بالغ الأهمية بسبب ضرورة اتخاذ الحزب مواقف واضحة حيال العديد من القضايا الاجتماعية / الاقتصادية. ومبكراً طرحت هذه الموضوعات نفسها على الاجتماعات الحزبية بصفة عامة، بل وقد شمل ذلك حتى جهاز الأنصار، وربما المؤيدين في الحزب، وكان جهاز الأنصار يلعب دوراً مهماً في الحياة الحزبية، وكان الرفاق الأنصار يقودون منظمات كبيرة، ويشاركون في عضوية قيادة مكاتب حزبية مهمة.

وكان على الحزب أن يكون واضحاً حيال الفئات العليا من البورجوازية وكذلك من بقايا الإقطاع، فيما كان الحزب وجهاً لوجه مع جهازه الحزبي أمام الجماهير التي تطالب بمنجزات، ونحن بأمس الحاجة إلى تبلور جديد في الموقف السياسي داخلياً وخارجياً، ففي الداخل وجدت الفئات العليا من البورجوازية والأرستقراطية في البعث، وفي التوجهات العريضة فيه (وكان الخط الثوري قد بدأ يطرح نفسه)، مخاطر جدية على مصالحها، فبدأت تكون هي الأخرى معسكرها للدفاع عن مصالحها، وهذه سنة السياسة والحياة. والحزب كان يواجه أرث العداء مع الحزب الشيوعي وكان يومها يتمتع بنفوذ سياسي / ثقافي في المجتمع العراقي، كما كانت الفئات والجماهير ذات التوجه الديني لا تجد في البعث حزبها. بل وحتى الفئات القومية شاءت أن تنافس الحزب، أبحاراً على الموجة الناصرية، وبرأي الشخصي أن الحزب وجد في حمل مطارق النضال في المعارضة أهون من مسؤولية الحكم.

أما على الصعيد الخارجي، فقد كان الحزب، والدولة بالطبع، تواجه عداء الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وكانت يومها ما تزال الستالينية لم تختفي، والزعيم السوفيتي خروتشوف أعتبر أن تصفية الحزب الشيوعي في العراق مؤثراً على العلاقة مع الدولة السوفيتية، فبدأت بشن الهجمات الإعلامية والدعائية. أما الغرب فلم يكن مسروراً بنظام قومي يتقرب علناً مع القيادة الناصرية، بل ومضى إلى محاولات جدية لإقامة وحدة ثلاثية، وحتى عندما ساءت العلاقات ضمن الوحدة الثلاثية إلا أنها تواصلت مع سورية، بل وأنجزت الخطوة الأهم المتمثلة بالوحدة العسكرية وإقامة قيادة العمليات العسكرية غربي الفرات، ونحن نعلم أن الغرب يمكن أن يقبل أي اتجاه سياسي أو اجتماعي، ولكن دون المساس بأمن الكيان الصهيوني، وقد لاحظنا ذلك عبر مراحل عديدة وصولاً إلى القتال دفاعاً عن الكيان الصهيوني، وفي مطالعة لوثائق وزارة الخارجية البريطانية خير مؤشر عن رأي الدوائر الغربية بحزب البعث العربي الاشتراكي.

قد يعتبر الغرب وصول حزب شيوعي في الشرق الأوسط للحكم مشكلة، ولكنها مشكلة يمكن السيطرة عليها بل والتعاون معها، إذ سيدخلون في إطار المواقف الاستراتيجية ضمن التوازن بين معسكر الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الإمبريالي، فمواقف الأحزاب الشيوعية ليست بالضرورة وفق المصالح الوطنية أو القومية، كما أنهم لا يكنون العداء لإسرائيل، بل يعتبرون الحزب الشيوعي الإسرائيلي حزباً شقيقاً ...! ولا يمكن اعتبار الشيوعيون العراقيون وغيرهم وفق الحسابات والعاطفة الدينية، وهذا أمر محمود أيضاً لدى الغرب. ولكن القبول بنظام قومي كان سيصطدم بالغرب إن عاجلاً أو آجلاً، وهو ما حدث أكثر من مرة قديماً وحديثاً.

                 

لذلك من الغريب، أن نسمع بين فترة وأخرى من ينسب تصريحاً ملفقاً غريباً للرفيق على صالح السعدي، من أن البعث وصل للسلطة في قطار أمريكي، فالغرب كان يعتبر البعث الأكثر راديكالية من بين القوى العربية، وهناك حشد كبير من الوثائق البريطانية والأمريكية تعبر عن رأي الغرب، وفي السنوات اللاحقة كنت فيها قريبا من الرفيق السعدي، سواء على مستوى العمل الحزبي والسياسي أو على مستوى العلاقة الشخصية، وقد ضمتنا جلسات شخصية كثيرة في العراق كما في خارج العراق تحدثنا فيها عن ثورة رمضان بتفصيل شديد وبالطبع كانت آرائنا متشابهة، ولا تبتعد عن ما تناولناه على صفحات هذا العمل، نعم كانت هناك أخطاء في العمل، وكانت صفوفنا تضم عناصر غير منضبطة، ويمينية، كانت هنا عفوية تشوب توجهاتنا، كان هناك عدداً من العناصر الذين اعتبرناهم (برأينا الذي تبلور ضمن توجهات يسار الحزب) ضمن معوقات انطلاقة جديدة للحزب، لكن لم تكن هذه الفرية من بينها، وهذه فرية كبيرة منسوبة للرفيق السعدي، أو تحويراً لكلام أدلى به، دون دليل مادي أين كان هذا القطار ومن أين أقلع وكيف حط ..! ولماذا لم يدافع الأمريكان عن قطارهم ؟ وأكثر ما هو غريب، أن يستخدم هذه الفرية من عمل بلا كلل ولا لم يوفر جهداً ووقتاً في العمل مع الأمريكان والإنكليز وجاءوا بطائراتهم ودباباتهم، وأدلاء للمحتلين ومع كل ما هو ليس بعراقي أو عربي ولعلهم يريدون بذلك القول: كلنا في الهوى سوا !! ولكن هيهات الشعب يعلم ويعرف وهو خير العارفين !!

بدا وكأن على الحزب أن يكون أكثر وضوحاً حيال قضايا ومسائل منها، الموقف من الفئات الاجتماعية، فالمعركة التي خاضها الحزب ضد عبد الكريم قاسم وكانت معركة ضد الديكتاتورية العسكرية، لقائد يتخذ مواقفه لاعتبارات مزاجية، وفق حدود فهمه الشخصي ويستخدم التوازنات بين الفئات السياسية، وجدت الشعوبية من خلال ذلك مناخاً مناسباً فنشطت وكان لها بؤراً وخلايا، كل ذلك كان قد انتهى والبلاد تمر بمرحلة انتقال إلى عهد جديد، ولابد من توجهات سياسية ونظرية، لذلك فأن هذه التساؤلات بل لنقل المهمات الجديدة، لذلك فإن هذه التساؤلات ابتدأت في القيادات تثير التحسس والهواجس، ما لبث أن تحول إلى تيار.

وبعد بضعة أشهر فحسب، ربما لا تتجاوز الخمسة شهور، تصاعد في الحزب طرح مفاده أن هناك مستفيد رجعي من العداء والغلو فيه بين البعث والشيوعيين، وما لبث هذا الاتجاه ماض في تجذره يطرح المواقف داخل القيادة نزولاً إلى المنظمات القاعدية، اتجاه يرى الوقوف بحزم ضد معسكر الرجعية المحلية وأطرافها العلنية والمستترة، واتجاه يطرح أن هناك أفكاراً وافدة للحزب، تطرح قضية الصراع مع الحزب الشيوعي وكأنها قضية مصيرية، وكانت قوى محلية تتحالف معه بهذا الاتجاه الذي بدأ الحزبيون يطلقون عليه باليمين. ومضت عملية الاستقطاب هذه إلى مزيد من التبلور بمرور الوقت وتفاقم الأحداث داخلياً وخارجياً، وبدرجة ما كانت تدور أحداث مماثلة في تنظيمات القطر السوري الذي كان قد أستلم السلطة بعد 8 آذار من نفس العام، ولكن بإيقاع أقل حدة.

وفي وضوح متزايد عبر عن نفسه في أحداث المؤتمر القومي السادس (عقد في دمشق أيلول/ 1963) وفي القرارات الصادرة عنه. وفي التقرير النظري الصادر عنه، ليسفر بوضوح نسبي عن يسار في المؤتمر القومي والقيادة القومية، وفي القيادتان القطرية العراقية والسورية وأضافت التوترات الشخصية ومفردات الأحداث اليومية وما تخلقه في ظروف كهذه من حساسيات فتختلط العوامل الموضوعية بالذاتية.

ومن المؤكد أن معسكر اليسار كان يضم عناصر تعتبر الأكثر وعياً وثقافة، وأكثر ميلاً إلى الأخذ بطرائق التفكير العلمي أكثر من ردود الفعل العفوية. فكما ذكرنا في الفصل الأول أن جذر اليسار في الحزب قديم، وها هو يبرعم ثانية في ظروف تاريخية وأكثر ملائمة من ذي قبل بسبب من نضج الفكر الاشتراكي في العراق، نجد أن الجهاز الحزبي في غالبيته قد تحمس لطروحات يسار الحزب، وإذا أردنا أن نوجز ذلك بكلمة فنقول: أن الحزب أكتشف ضرورة تعميق أفكاره الاجتماعية واتخاذ المواقف الأكثر دقة إلى جانب الكادحين والشغيلة، فيما كان يمين الحزب يروج مفاهيم سطحية عن القومية الاشتراكية، وواقعياً كان يعقد أواصر العلاقة مع الرجعية من خارج الحزب، ومع ضباط عسكريين مغامرين، يضايقهم العمل المخطط المبرمج وفق التقاليد الحزبية، ويعز عليهم رؤية ممثلي الجماهير يمارسون ولو المستويات الدنيا من السلطة، وكانت هذه تدفعهم إلى اصطدام محتم آت، وكانت قرارات المؤتمر القومي السادس للحزب وتقريره النظري عاملاً جديداً أفزع تلك العناصر التي رأت في تلك القرارات والتقارير خطوة كبيرة على طريق تعميق الفكر الاشتراكي، بصفة خاصة تلك الفقرة الواضحة والصريحة التي تنص على أن الفكر الاشتراكي العلمي هو المصدر الرئيسي في فكر الحزب.

وبعد ستة أشهر على استلام الحزب للسلطة في 8 / شباط / 1963، كان الصراع يتحول فعلاَ إلى صراع (يسار) بقيادة عناصر مهمة في القيادة القطرية: على صالح السعدي، حمدي عبد المجيد، محسن الشيخ راضي، هاني الفكيكي. و(يمين) كان يمثله: طالب حسين الشبيب وآخرون مغامرون.

وأضع الرفيق حازم جواد في مكانة خاصة، فهو لم يكن مع المتآمرين، ولكنه كان يرقب نتائج أعمالهم، وحازم بعثي مخلص، كان وما يزال. ثم تسللت حمى التكتل إلى القواعد الحزبية، ابتدأ خافتاً ولكنه يتنامى بوتيرة متصاعدة، سيطر اليسار على معظم القواعد الحزبية في العراق، بصفة خاصة فرع بغداد، وكذلك على قيادة الحرس القومي، مقابل تخطيط أكثر دقة من اليمين الذي لم يكترث كثيراً للشرعية الحزبية أو الأخلاقية السياسية. وحيال هيمنة اليسار على الشارع والنقابات، كان اليمين يجري اتصالات حاسمة توصل بموجبها إلى تفاهم مع اليمين خارج الحزب، بصفة خاصة مع عسكريين حزبيين وغير حزبيين، مشهود لهم بالتهور والميل إلى الهيمنة وازدراء الرأي العام والجماهير.

وقد أدرك قادة اليمين الحزبي والعناصر المتحالفة معه من خارج الحزب(أحصرها بشخصيتين رئيسيتين: عبد السلام عارف وطالب شبيب)، أن المسألة هي مسألة وقت، وأن العواصف ورياح التقدم واحتمالاته سوف تطيح بهم إلى خارج القدرة على العمل السياسي، فلم تعوزهم الجرأة في التحرك السريع لإجهاض هذا الاحتمال المحدق، فيما كان قادة اليسار ما يزالون يتمترسون خلف الشرعية والمؤتمرات.

كان عملنا الحزبي وفعالياتنا تتضمن فقرة رئيسية سبق لي أن ذكرتها، وهي الحفاظ على الثورة وتطويرها، وهذه عبارة بدأت تطرح في الثقافة الحزبية، وكنا في منظمة الحزب بكلية الشرطة، قد بدأنا مبكراً بمطالعة الأدب اليساري الثوري، ومنذ شهر تموز وآب، كنا قد اتخذنا موقفنا مع الحزب في تطلعاته الثورية، ليكون حقاً حزب الجماهير من العمال والفلاحين والمثقفين والعسكريين الثوريين(هكذا)، وكان فرع بغداد وعناصره القيادية، تقود هذا التيار وتجري الاتصالات مع منظمات الحزب في بغداد والمحافظات.

المؤتمر القطري التكميلي كان حاسماً في تفجير الصراع، وقد عقد بتاريخ 1963/ 11 / 11 في القصر الجمهوري، وكان اليمن إذ أدرك أن هزيمته محققة، وأعتبر المؤتمر السادس وتقاريره كارثة، (على خط الحزب الأصيل)، و(خروج) على الجذور.الخ، لذلك أعدوا العدة بمخطط يفتقر إلى الأخلاق الحزبية وسلوك المناضلين، إذ أحاطت سرية من الانضباط العسكري مبنى المجلس الوطني الذي انعقد فيه المؤتمر، وكانوا قد أعدوا 36 ضابطاً (تقريباً) من الحزبيين أو من المقربين للحزب، اقتحموا قاعة المؤتمر وأحاطت بالمجتمعين وجردت بعضهم من سلاحه. فيما كان أعضاء المؤتمر يناقشون موضوعات اعتيادية دون حدوث ما يكدر انضباط المؤتمر، أو ما يستدعي هذا الاقتحام أو يبرره سوى المخطط الذي كان قد أعد سلفاً. وكان على رأس المجموعة، الرائد محمد حسين المهداوي. ومعه : العقيد سعيد صليبي، المقدم فهد جواد الميرة، الرائد علي عريم، الرائد جميل صبري البياتي، الرائد صلاح الطبقجلي، النقيب زكريا السامرائي.

أبعدت العناصر الرئيسية من المؤتمر والقيادة، وجرى تسفيرها إلى أسبانيا. وفي ظل هذه الأجواء، عزلت القيادة السابقة وانتخبت قيادة قطرية جديدة، وأذيع هذا النبأ على الحزب والجماهير، وكان ذلك علامة البدء إلى انتقال الصراع إلى مستوى جديد، وبعد يوم واحد، في 13/ تشرين الثاني، جرت أحداث (انتفاضة) قام بها اليسار معبراً عن نفسه من خلال فرع بغداد والحرس القومي، وبعض العناصر في القوة الجوية، في محاولة لأستعادة السيطرة على الموقف، أستدعت هذه الأحداث تدخل القيادة القومية التي أرسلت وفداً إلى بغداد يضم الأستاذ ميشيل عفلق الأمين العام للحزب الذي أبدى انحيازا إلى العناصر اليمينية، تولى الوفد تفتيت صلابة الموقف الحزبي العام بدواعي (الحرص على الحزب) و(وحدة الحزب) و(الشرعية) وتوجهات عاطفية، حرمت فرع بغداد الذي كان يقود الانتفاضة من جني ثمار تحركها، وكان اليمين قد عمل بصورة دقيقة مع العسكريين، فيما لم يكن مع اليسار من القادة العسكريين سوى القائد العميد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت، قائد الفرقة المدرعة في بغداد وقد تولى وفد القيادة القومية من منعه عن الحركة حرصاً على عدم الاقتتال.

لكن رموز اليمين غير الحزبي، كانت تنتظر مثل هذه البادرة لتستغلها وتتصرف وتحسم الموقف نهائياً، وقد تم ذلك في 11/18 بانقلاب عسكري قاده عبد السلام عارف، أزاح فيه حكم الحزب، وكان هذا الأمر واضحاً منذ الوهلة الأولى، وإن احتفظت بعض رموز اليمين البعثي بشيء من النفوذ ومواقع حكومية غير فعالة مقابل الصفقات السرية، وكان على هذه الرموز أن تقدم على تنازلات مهينة وتصريحات ومواقف مخجلة من أجل أن تحوز على رضا اليمين غير الحزبي الذي غدا الآن في الموقع الأول، فكان أن دمغوا أنفسهم تاريخياً بما هو مخجل، أجهدوا أنفسهم كثيراً من أجل تحويرها وإصلاح ذلك الخطأ الكبير الذي أحدث شرخاً في أوضاعهم، بل واضطروا حتى للكذب الأسود. ولكن لسوء الحظ أن سياسيوا هذا العصر يمارسون الكذب في العمل السياسي مثلما يمارس التاجر الغش، على أنها محض شطاره.

صبيحة حدوث الانقلاب الذي قاده عبد السلام عارف رئيس الجمهورية 18/ تشرين الثاني / 1964 (وكان البعثيون قد جاءوا به من بيته في ثورة رمضان، ليكون رئيساً للجمهورية)، كنت أقود سرية من تلاميذ كلية الشرطة لحراسة المقر العام (مديرية الشرطة العامة)، وبعد ساعات، ثلاثة أو أربعة، أتضح أن الموقف قد حسم تقريباً، وأن جيوب المقاومة يائسة. وسرعان ما اظهر الانقلابيون الحزم والقسوة في تحقيق أهدافهم، فالبيان رقم 13 خول قادة المناطق تنفيذ حكم الإعدام ميدانياً بكل مقاوم، ونفذ هذا الأمر على الأقل في مدينة الموصل عندما أعدم الشهيد الرفيق ممتاز قصيرة وفي بغداد والديوانية.

اعتقل في الكلية، كل من يعرف عنه بأنه حزبي، وواجهنا سطوة زملاء كنا وإياهم حتى قبل ساعات زملاء ورفقة حياة دراسية، وقد يأسف المرء لمثل هذه المشاهد التي تدل على لذة الهيمنة والسيطرة التي قد تخرج الإنسان الضعيف من طوره الطبيعي إلى حالة الهياج يقترب فيها من فقدان السيطرة على الذات. هناك الكثير من الكوامن في نفس الإنسان، وما لم يكن مسلحاً بوعي عال، أو ضمن ضوابط تنظيم صارم، فقد تدفع النوازع المرء إلى مسارب غير حميدة.

                 

اتخذت السلطات في إدارة الكلية مواقف متشددة من الطلاب البعثيين، وحيث كنا لما نزل بعد تلاميذ في الكلية على وشك التخرج، وقد أمضينا الفترة بين 18 تشرين الثاني وموعد تخرجنا في 1964/1/1، في الموقف، وبدا أن الإدارة حائرة بأمرنا، حيث كانت متأكدة من انتمائنا للحزب، على الأقل للبعض منا، أخيراً بعد ضغوط وتهديدات، تخرجنا برتبة ملازمين في الشرطة، وتم تعييننا جميعاً في قوات الحدود(عدى عشرة منا في الأمن العامة)، وتم تنسيبنا فوراً إلى دورة معلمي الأسلحة والحروب الجبلية والقتال العنيف في مدرسة المشاة، ولما كانت الأسلحة (أسلحة المشاة الأساسية) أمراً قد تدربنا عليه بصورة كافية، تم التركيز على التدريب العنيف والحروب الجبلية، وكان آمر دورتنا النقيب عبد الواحد جاسم من خيرة الضباط المعلمين في الجيش العراقي، وخريج أكاديمية سانت هيرست البريطانية، أفضل من يقوم بهذه المهمة.

وقبيل انتهاء الدورة ببضعة أيام نادى على النقيب آمر الدورة طالباً مني إنهاء التدريب وارتداء الملابس الخارجية والمثول أمام آمر مدرسة المشاة العقيد ناصر الكسار، الذي كان رائعاً في تصرفه القيادي وعاملني بكل لطف واحترام، وحاول بعبارات أبوية تخفيف وطأة الموقف تعبر عن الاحترام، وأنا الضابط الصغير الرتبة الذي لما يبلغ العشرين من عمره بعد (أنا من مواليد 1944/7/6)، وكذلك كان الضابط المكلف بإلقاء القبض علي محرجاً في موقفه. وسرعان ما تنفس الصعداء عندما سلمني إلى مديرية شرطة الفضل، نقلت بعدها إلى مديرية شرطة بغداد (السراي)، ومكثت هناك حتى المساء، وكان بوسعي الفرار، ولكني لم أكن قد فعلت ما يستحق الفرار، وكنت وهذا هو الأهم قد ابتدأت المباشرة بالتنظيم الحزبي، وبتصميم عال.

بعد سويعات حسم أمر اعتقالي، ونقلت بعد المغيب (وكنا في شهر رمضان) إلى مديرية شرطة الكرخ، حيث كان الطابق الخامس قد خصص بأكمله كمعتقل، ووجدت هناك عشرات الضباط (ربما 40) منهم الرفاق: الرائد جمال كمال الدين الطائي، المقدم محمود الحلو، النقيب ذياب حميد، النقيب قحطان العزاوي، الملازم أول عزيز السامرائي، الملازم أول ضياء العلكاوي، الملازم أول عبد اللطيف النقيب، الملازم أول سعيد حسون الجبوري، الملازم أول غازي على الحسون، الملازم أول عبد الواحد حسن، الملازم أول عبد الستار، الملازم صباح عرب، الملازم طالب حمودي، الملازم مثنى الجبوري، الملازم غازي عطار باشي، الملازم قيس الخشالي، وغيرهم. وكان ذلك في يوم 9/ شباط /1964، وكان الحزب قد أصدر لأول مرة نشرة حزبية بهذه المناسبة، واليسار يهيمن على منظمات الحزب بقيادة منظمة تسمى(لجنة تنظيم القطر)، وهذه التسمية هي في الواقع لمنظمة قيادية كانت ترتبط بالقيادة القطرية وتدير منظمات الحزب وفروعه في المحافظات.

بعد حركة تشرين في 18 / تشرين / 1963 التي أطلق عليها في الأدبيات الحزبية (ردة تشرين)، في أواخر عام 1963، عقد مؤتمر دعي إليه (36) رفيقاً من كوادر الحزب المتقدمة، أنتخب على أثره ما أطلق عليه بلجنة تنظيم القطر، لم أعد أذكر أبرز العناصر الذي دعيت إليه، إلا أن الرفيق أحمد العزاوي والرفيق حسن العامري كانا أبرز الحاضرين، وكان المؤتمر يكرس مسألتان مهمتان:

الأولى: أنها المنظمة القيادية المنبثقة فعلاً من منظمات الحزب في القطر، وهي بذلك كانت تحوز على الشرعية النضالية إضافة إلى الشرعية التمثيلية، ولم تكن هناك قيادة سواها في الساحة.

الثانية: أن هذه المنظمة اتخذت قراراً بإعادة التنظيم على مستوى القطر بكافة تشكيلاته، ولكن مع استبعاد العناصر التي تورطت إما بالمساهمة الفعلية، أو بالتأييد للفعاليات الغير شرعية التي مورست من المؤتمر القطري التكميلي في 1963/ 11 / 11 وحتى حركة 11/ 18 وما بعدها من تآمر أو المساهمة بالتآمر ضد الحزب.

إذن بهذه الملامح كانت لجنة تنظيم القطر تمثل يسار الحزب، وفي البداية أستحوذت على معظم التنظيم، والأطراف الأخرى كانت لما تزل بعد متوارية عن الأنظار، وتلوثه وتآمره ساخناً، وكانت رموزه اليمين مكروهة ومعزولة، لذلك كان نشاط لجنة تنظيم القطر كاسحاً رغم الظروف العمل البالغة التعقيد وعراقيل لا حصر لها، أولها وجود ألاف الحزبيين في المعتقلات، وضعف الموارد المالية، وكون العناصر الحزبية كانت قد كشفت عن نفسها خلال فترة الشهور التسعة شباط / تشرين الثاني /1963 وكان العديد من الرفاق قد بادروا حتى قبل أتصال القيادة بهم إلى أعادة تشكيل حلقات وخلايا بمبادرات منهم، كما فعلنا نحن في كلية الشرطة وكنا لما نزل بعد في المعتقل!! فكان الحزبيون يشعرون أنهم تعرضوا إلى خيانة وغدر، وإن تجربة الحزب انطوت على أخطاء كبيرة قام بها اليمين، وأخرى جرى تضخيمها من قبل عناصر وضعت نفسها بمواجهة الحزب عشقاً بالسلطة والزعامة، وتخلصاً من العمل القيادي الجماعي المنظم.

أخبرت الرفاق في المعتقل أنباء أعادة البناء وأن الحزب سوف يتجاوز محنته وسوف يقود الجماهير مرة أخرى. وكان كل الرفاق بلا استثناء تقريباً على درجة عالية من الإخلاص، إلا أن آخرين كانوا يطرحون شكوكاً ويضعون علامات استفهام حول هذه وتلك، وماذا لو؟ وكيف؟ ومتى ..؟ وهكذا كانت بذور الانقسام في الحزب متوفرة.

لم يكن انضمام الحزبي إلى تنظيم اليسار يعني بالضرورة أنه يساري الفكر، وكذلك اليمين، بل كان الأمر ينطوي في كثير من الأحيان على موقف شخصي من هذا القيادي والحزبي أو ذاك، أو بسبب ما يمتلكه هذا القائد من قدرات تأثير وإقناع، ولكن، نعم الأمر في جوهره كان حقاً له علاقة بدرجة ما بالعمق الأيديولوجي والثقافة والرغبة العارمة بالتطور والوضوح في الهوية الفكرية، وأخيراً كانت الشرعية الحزبية شأناً يدعي كل طرف أنها إلى جانبه.

على أن الأمر أكتسب مزيداً من الوضوح، إذ عينت القيادة القومية مطلع عام 1964/ ربما في شهر كانون الثاني، في قصور رؤية لما قد يسفر عنه تصرفها، عندما أقدمت على تعين قيادة قطرية تضم عدداً ممن ساهموا بانقلاب تشرين بالاشتراك مع اليمين الغير حزبي أو كان قد أيدها، أو لم يعارضها، وبذلك تفجرت الأوضاع داخل الحزب وقادت تفاعلاتها إلى الانقسام. وكان الأستاذ ميشيل عفلق، قد تعرض موقفه إلى الضعف في المؤتمر القومي السادس، ولم يكن ليحتمل المزيد من الضعف أو التعرض إلى النقد، أو أن يتقدم الحزب إلى أكثر مما كان وارداً في ذهنه. ومن المؤسف أن تدور مثل هذه المداولات والخيارات بعيداً عن الأصول الحزبية والديمقراطية التي يكفلها النظام الداخلي للحزب.

بعد أيام من وجودنا في ذلك المعتقل(الكرخ)، نقلنا ليلاً إلى معتقل كتيبة خيالة سعد الواقعة في الكسرة قرب ملعب الكشافة وكانت هناك أربعة قاعات كبيرة، يشغل المعتقلون الشيوعيون أثنين منها، فيما كانت هنا قاعة يشغلها رفاق بعثيون، معظمهم من العناصر التي كانت تعمل في مكتب التحقيق الخاص،

   

ومن أبرز هؤلاء ناظم كزار(اللواء مدير الأمن العام لاحقاً)، فيما خصصت القاعة الرابعة لنا (ضباط الشرطة)، وهكذا قسم المعتقل بالعدل إلى قاعتين للشيوعيين ومثلها للبعثيين تفصل بيننا حديقة واسعة، وكانت أقامة الصلة بيننا غير ممكنة موضوعياً، وإن كنا نتبادل التحيات، لاسيما عناصر الاتجاه اليساري منا. ومضت أيامنا هادئة وكان معنا مناضل بعثي رائع وهو فاضل جلعوط وكان عاملاً ونقابياً من مصلحة نقل الركاب، تكفل بأعداد وجبات الطعام التي كان يتفنن في أعدادها لاسيما تلك الوجبات الشعبية المعروفة في مناطق الفضل وشارع الكفاح(غازي).

وما لبث أن شهد القاطع البعثي ورود المزيد من الرفاق البعثيين الذين وضعوا معنا ومنهم الأخ فيصل عبد نجم(الذي كان قائمقام الفلوجة) وكذلك الأخ سمير عزيز النجم(السفير وعضو القيادة القطرية لاحقاً). وقد شهد معتقل الخيالة أولى الندوات الحزبية الساخنة عن وجود تنظيمين: لجنة تنظيم القطر، والقيادة القطرية، وكان تنظيم اللجنة يستقطب فعلاً ليس فقط الأكثرية الساحقة للجهاز الحزبي، بل وأفضلها. وكان تنظيم (القيادة القطرية) يعاني من صعوبات جمة في الاتصال بالمنظمات، لاسيما بالمعتقلات التي كانت تضم مئات بل ألوف الحزبيين.

ولكن القيادة القطرية(الرسمية) استطاعت أن تقيم تنظيمات مهمة في القوات المسلحة لأسباب كثيرة، ذلك أن اليسار ومفاهيمه تفترض قدراً من الثقافة، وعمل على المدى البعيد، فيما كان الضباط البعثيون يميلون إلى العمل السريع وأستعادة السلطة من جديد، ودون التدقيق في التفاصيل والبرامج، وعدم استبعاد أي بعثي من العمل، وبعبارة أخرى أتباع سياسة عفا الله عما سلف، والتسامح حتى مع الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة تقترب من خيانة الحزب.وكان لوجود الرفاق أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وضباط آخرين برتب كبيرة يعملون متعاطفين مع البكر، مثل طاهر يحي وحردان عبد الغفار وذياب العلكاوي وحماد شهاب، أثره الهام في أتساع التنظيم العسكري والذي كان بقيادة القائد المتمكن صدام حسين، مباشرة يبذل جهوداً كبيرة في أعادة بناء التنظيم العسكري وبذهنية وأساليب براغماتية.

وفي ليلة ليلاء، جاء إلى القاطع البعثي في المعتقل، أحد ضباط كتيبة خيالة سعد وأخبرنا بلزوم رزم حاجاتنا والتهيؤ للحركة إلى مكان لم يفصح عنه، أو لم يكن يعرفه. وأضاف وكان قد بدا على بعضنا ملامح من يريد التمرد على هذا الأمر، والمعروف أن المعتقل أو السجين، يكره التنقلات حتى من غرفة إلى أخرى فما بالك إلى معتقل جديد ! فأضاف قائلاً، من الأفضل أن تنفذوا الأمر، لأن الأوامر التي بحوزته تنص على ضرورة تنفيذه ولو باستخدام القوة والإكراه.

نقلنا في ذلك الليل البهيم، ونحن نضرب أخماساً في أسداس، إلى باب المعظم ولم يدر بخلدنا أن تكون محطتنا الأخيرة سجن بغداد المركزي(سجن الموقف)، أفرغت لنا قلعة(قسم) يضم قاعتين وحوش ومطبخ ومخزن وحمام كبير، وسرعان ما بدا لنا هذا المكان الجديد مقنعاً لنا، رغم أن أنظمة السجن تطبق هنا، وكان سجن الموقف يضم خمس أقسام ( قلاع) اثنتان منها للبعثيين وثلاثة للشيوعيين. وكان من أبرز الرفاق البعثيين المدنيين: الرفاق : محسن العساف، ومحمود ناصر، وأكرم المهداوي ودحام الآلوسي وهاشم قدوري. وحل بيننا لفترة قصيرة الرفيق د. محمد عمار الراوي(عضو القيادة القومية لاحقاً)، وكانوا جميعاً من تنظيمات لجنة تنظيم القطر، وسرعان ما ألفنا هذا الوضع الجديد، وصرنا نحن في القلعة الرابعة ورفاقنا في القلعة الثالثة نتبادل الزيارات ونعقد الاجتماعات والندوات الحزبية، ضمن التنظيم الحزبي، وكان لرفاقنا في الاتجاه الآخر أيضاَ تنظيمهم الحزبي ولهم اتصالهم مع قيادتهم. وأذكر أن الرفيق (المرحوم) محمد محجوب كان يأتي إليهم كمندوب للقيادة والرفيق محمد محجوب، وهو من خيرة المناضلين ومن المؤسف أن يكون مصيره دامياً. وخلاصة القول، نعم كانت هناك مسألة يسار ويمين، ولكن الصراعات لم تدر على هذا الأساس إلا نادراً.

وإلى جانب التنظيم الحزبي، كانت هناك لجنة غير حزبية مهامها تنظيم الحياة الداخلية داخل المعتقل من طعام ولباس وغذاء، ولكن أيضاً المسؤولية السياسية والتنظيمية ومن ذلك الموقف حيال إدارة المعتقل. ومن ذلك أن الإدارة كانت تسلمنا الأرزاق من الأغذية غير مطبوخة، بكميات قليلة ونوعية سيئة، فكنا نبيع هذه المواد، أو بالأخرى السيئة منها ونشتري أنواعاً جيدة مع زيادة الكمية بصفة عامة، وبذلك نوفر غذاء جيداً لكافة المعتقلين سواسية(كبعثيين)، أما المال فكنا نوفرها من استقطاعات تجمع من المعتقلين. وبالطبع كان هناك من ليس بوسعه تقديم المال، تجاوزنا هذا الأمر بسهولة، فمن ليس بوسعه الدفع كانت المنظمة الحزبية تدفع عنه. والمنظمة كانت تستلم الاشتراكات الحزبية والتبرعات، لذلك كانت تتوفر على مبالغ لا باس بها، بل كان بوسع المنظمة أن تقدم مساعدات مهمة لعدد من الرفاق ممن أصيبت أوضاعهم المالية والعائلية بأضرار نتيجة الاعتقال.

كانت هناك أساليب ممتازة في تهريب المنشورات والتعليمات الحزبية إلى داخل السجن، بل وبعض الكتب وجهاز راديو، وطرق مبتكرة في توزيع المعلومات، وعقد الاجتماعات وإدارة النشاط الحزبي على أفضل وجه. ورغم أن الجميع كانوا من الحزبيين، إلا أن أعلى درجات العمل الحزبي كانت متبعة، والكتمان والانضباط الطوعي والقناعة التامة بالعمل وهذا أمر مهم للغاية في النضال السياسي، وهنا أيضاً كانت ربما المصادفات تضع أمامنا مجموعة من الرفاق الرائعين تعلمنا منهم الكثير.

في أواسط تموز، ترتبت ظروف تستدعي الوقوف حيالها بحزم، ومن تلك المعطيات أن إدارة السجن حاولت أن تشمل السياسيين بظروف ومعاملة السجناء العاديين لا سيما في موضوع المواجهات، وكنا نريد الإسراع في أنجاز قضايانا التحقيقية وسوقنا إلى المحاكم إلى جانب قضايا أخرى غير مهمة، وكان رفاق لنا من معتقلات أخرى يواجهون ظروفاً ربما أكثر صعوبة، لذلك تقرر شن إضراب عام عن الطعام، وأعلمنا إدارة السجن، وتأكدت الإدارة من امتناعنا عن تناول الطعام، ولكن بعد يومين أو أكثر، ابتدأت علامات الانهيار الصحي تظهر على المعتقلين، ونقل بعضهم إلى مستشفى السجن، وكنت في اليوم الثالث أو الرابع ممن نقل إلى المستشفى، وكنا قد امتنعنا عن تناول الطعام عدا الماء، وفي هذه الحالة توارد إلى السجن عناصر حكومية، بعدها استجابت السلطات لتلك الطلبات، والأهم من ذلك أن الإضراب بحد ذاته كان عملاً أثبت الحزب فيه للسلطات أن الحزب ما زال موجوداً وبقوه!!

في تلك المرحلة شاع ما أطلق عليه بقضية البراءات. كان الحزبيون، البعثيون والشيوعيون، يرغمون بالإكراه أو الأغراء، تقديم براءة من أحزابهم في الصحف، وبصورة فوتوغرافية، ونص مهين ينكر على الإنسان حقه في اعتناق أي فكرة أو مبدأ، وقبول مبدأ البراءة يعني وقبل كل شيء الرضوخ لابتزاز السلطات وقبول إهانة ألذات إهانة علنية قبل إهانة الحزب السياسي. وفي الواقع أن بضعة براءات اشتهرت في أوساط الحزبيين كانت مدعاة للأسف والأسى، وكان لرضوخ بضعة رفاق رائعين للابتزاز مفاجأة مدهشة، أنهى بها معظم هؤلاء الرفاق نضالهم في الحزب، ولكن آخرين منهم أستطاعوا بمواصلتهم طرق باب الحزب، أن يعودوا إلى صفوفه.

قدمنا إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية العرفية الثانية وكان في معسكر الوشاش(حديقة الزوراء) في أواخر تموز /1964 (وأنا أعرف هذه المحكمة إذ سبق لي وأن مثلت أمامها عام 1962 وكانت وجبتنا تضم ضباط شرطة ومدنيين من بينهم الرفيق القائد عزة إبراهيم (الأمين العام للحزب لاحقاً) من تنظيمات الرصافة /الفضل وكان قرار المحكمة بالإفراج عن معظم عناصر القضية، ولكن حكم على رفاق آخرين بالسجن لمدد متفاوتة. وأذكر إننا عدنا من المحكمة في ثلاث سيارات كبيرة مشبكة لنقل السجناء ذات أقفال وأقفاص، كنا نهتف وننشد أناشيد الحزب :
يا عروبة جينا جيناك ... جينا تناضل وياكي ... عاش الصوت اللي ناداكي ... صوت البعث الاشتراكي.
وكانت الساعة الثانية (وقت خروج الموظفين وزحام الشوارع) وكان بعض أبناء الشعب يحينا برفع قبضة اليد تضامناً، أما نحن فكنا سعداء.... بل في غاية السعادة، وبيننا رفاق قد حكم عليهم بالسجن، ورفاق آخرين حكم عليهم بالإعدام (الرفيقين عبد الله المشهداني وكريم معيوف).

ولكن إدارة المعتقل لم تطلق سراحنا، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام، تم تسفيرنا إلى مديرية الأمن العامة، حيث أجري لنا ما يسمى تحقيق هوية في ختامها، وكنا أربعة ضباط طلب منا تقديم البراءة وكانت يومها عملية رائجة، وقد واجهنا هذا الطلب بالرفض الصارم، وبعد جولة من التهديد والوعيد تراجعت سلطات الأمن عن طلبها، أعدنا إلى السجن مرة أخرى ولكن بعد أيام تم تحويلنا إلى مديرية شرطة بغداد، ومن هناك أطلق سراحنا ليلاً بعد منتصف الليل إلى منازلنا.

عندما خرجت من السجن، كنت على درجة عالية من التصميم أن أمنح حياتي كلها للحزب، وأن أعمل بلا هوادة من أجل أعادة الحزب. وكانت حركة 18 / تشرين أمراً يستحق الغضب على القائمين بها والمتعاونين معها، بل وحتى من وقف منها موقف الصمت، وقد بقيت على هذه الدرجة من الحدة من الحركة إلا من قام بنقد نفسه، أو لم يكن أساسياً فيها، وكان لنا رفاق في زنزانات الإعدام يواجهون الموت منهم عبد الله المشهداني وكريم معيوف/ من التنظيم العمالي للحزب، والرفيق البطل عبد الأمير الرماحي، الذي أبى بكل بطولة تقديم براءة مقابل الإفراج عنه، وفضل قبول تنفيذ حكم الإعدام، على تقديم البراءة، التاريخ يسجل للرفيق الشهيد عبد الأمير الرماحي وقفة العز هذه التي أصبحت أمثولة للحزب في كافة تنظيماته القومية. وبعد سنين عديدة، كنت ذات ليلة أروي قصة هذا البطل في ندوة للفلاحين وعمال في أحدى أقطارنا العربية، أجهش العديد منهم بالبكاء، وفي تلك الليلة الرائعة أنضم حوالي ثلاثين فرداً إلى الحزب، بفضل أمثولة الرفيق الخالد عبد الأمير الرماحي.

كنت قد تزودت بكلمة سر من منظمة السجن من أجل الاتصال، وفعلاً وبعد أيام قليلة أتصل بي الرفيق خلف كاظم عبد الأخوة، وتحقق الارتباط ولكن بعد عدة لقاءات أضطر الرفيق خلف إلى مغادرة العراق إلى بيروت تخلصاً من ملاحقة السلطات، وكانت مهمة خلف هي نقل البريد الحزبي بين بيروت والقيادة في بغداد.

ثم أتصل بي الرفيق صبري فارس، وأبلغني بقرار ضمي إلى قيادة فرقة الأعظمية وكان ذلك في شهر أيلول/1964 وبدأت فعلاً بحضور أجتماعات قيادة الفرقة وكان أعضاء قيادة الفرقة على ما أذكر: عبد الإله موسى، وفاروق، تركي الراشد، خالد الجرجفجي، وكان تنظيم الأعظمية قد تعرض إلى عدة ضربات قلصت من عدد أعضاؤه وأنصاره بصورة كبيرة، وكذلك الانشقاق، كما كانت الاعتقالات ما تزال متواصلة وكنا نخسر باستمرار من تنظيمنا، ولكن الحزب كان قد أستوعب النكسة والتنظيم الجديد ابتدأ يشق طريقه ويستعيد توازنه ومكانته في المجتمع العراقي كقوة سياسية مؤثرة، ولم تمضي بعد سنة على 18/ تشرين، وبتقديري كان عملاً كبيراً جداً، وكلفنا مشاق كثيرة وتضحيات.

دعاني مسئولي السابق صباح ناجي (و كان قد أصبح ضابطاً مظلياً في الجيش)، للتعرف على ضابط برتبة ملازم أول وهو الرفيق الملازم أول فارس حسين الذي تحدث معي عن تشكيل منظمة عسكرية بعثية تسعى إلى وحدة الحزب وإنقاذه مما هو فيه عبر تنظيم عسكري موحد يتجاوز حالة الانشقاقات، وكان صادقاً ووجدانياً في حديثه وينطوي على أخلاص، وإن كان ذلك لا يكفي في العمل السياسي، ولكننا شئنا أن لا نكون بعيدين عن هؤلاء المناضلين المخلصين في مساعيهم.

ومع الرفيق فارس حسين (لاحقاً: عضو قيادة مكتب عسكري، ملحق عسكري بباريس/ سفير في ألمانيا) ابتدأنا العمل وكنت مكلفاً بقيادة تنظيم الشرطة ضمن التنظيم العسكري. ولكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، وكنا فعلاً على أعتاب حركة عسكرية تعيد الحزب إلى السلطة، لكن السلطات قامت بإلقاء القبض على أبرز العناصر الحزبية العسكرية (1964/9/5) منهم الرفاق : أحمد حسن البكر والعميد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت والعميد صالح الرمضاني، وكان من بين المعتقلين، الملازم أول فارس حسين والملازم صباح ناجي وكثيرين غيرهم.

أمضيت فترة من الوقت مختفيا وفي حالة تهيؤ خشية أن تطالني الاعتقالات، بيد أن التحقيق لم يسفر عن شيء مهم، إذ تبعثرت الإفادات بسبب صمود الرفاق في التحقيق، رغم أنهم واجهوا التعذيب على أيدي المحققين. وباعتقال الرفيق فارس حسين أنتهي عملي مع هذه المنظمة، ولكني كنت مستمراً بالعمل في قيادة فرقة الأعظمية التي كانت قد شهدت مسئولا جديداً وهو الرفيق عبد الكريم المشهداني بسبب اعتقال مسئول الفرقة صبري فارس، وما لبث أن أنتقل الرفيق المشهداني إلى عمل آخر، فأستلمت مسؤولية قيادة فرقة الأعظمية، وأصبحت عضو قيادة شعبة قبل نهاية عام 1964، وقد جرت هذه الأحداث بسرعة مذهلة لا تتجاوز أشهراً معدودة.

ربما في مطلع الشهر العاشر، بلغت بكلمة سر معقدة(جملة مركبة)حضور لقاء حزبي مهم وسري للغاية مع شخص يرتدي نظارات شمسية، بيده اليسرى صحيفة ومسبحة بيده اليمنى على بعد مئة متر (يمكن بسهولة في العرف العسكري قياس مئة وعشرة خطوات لتعادل مئة متر) من مطعم أبو يونان في الكرادة ليلاً. وكانت كلمة السر تضم أسم حسن. والتقيت بهذا الشخص الذي عرفني على نفسه بأسم طارق، ولم يكن في الواقع سوى الرفيق الملازم الأول عبد الوهاب سلمان من أحدى كتائب الدبابات في معسكرات بغداد، مسرح من الخدمة العسكرية، كان يقود المكتب العسكري لتنظيم اليسار. وكانت قيادة المكتب قد فقدت اثنان من أعضاءها وهما: الرفيق العميد صالح الرمضاني والرفيق الملازم الأول عبد زيدان الحديثي. وبهذا تم انضمامي إلى قيادة المكتب العسكري كان يضم أيضاً الرفيق سليم عيسى الزئبق والرفيق على كريم والرفيق الصفار. وباشرنا العمل بإيقاع نشيط وحماسي ومثمر، كان التنظيم يتسع يومياً ويشتد بسرعة وقوة، وكانت حملة 9/5 التي قادتها أجهزة أمن السلطة(الاستخبارات العسكرية والأمن العامة) لم تنل من تنظيمنا العسكري اليساري بالشدة التي نالت من تنظيم القيادة، الذي كان الخرق قد وقع في تنظيمهم، أو حتى من البعثيين المستقلين، ولكننا مع ذلك كنا نتبع أشد إجراءات الحيطة والحذر والسرية والكتمان.

كان للمكتب العسكري أساليبه الخاصة في العمل والتنظيم والاتصالات، ومن البديهي أن يكون انتقاء الشخصيات قائم أساساً على الشجاعة والقدرة على الصمود في المحن، وما أكثرها في تلك المرحلة، بالإضافة إلى القدرة التنظيمية العالية المستوى، وهي ضرورية، وكذلك الثقافة الحزبية والسياسية العامة. لذلك يمكن القول تماماً أن اختيار العناصر في مرحلة النضال السري تختلف كثيراً عن تلك في مرحلة العمل العلني، ففي مرحلة النضال السري تبدو هذه الشروط ضرورية، وإن أي خطأ مهما كان صغيراً، يدفع له ثمناً فادحاً، وربما بأرواح مناضلين.

ما لبث أن تكاثرت مسؤولياتي، فقطعت علاقتي بالتنظيم المدني، ولكني كنت ألتقي بأعضاء القيادة القطرية، وأعضاء قيادات فروع وشعب، بحكم واجبات حزبية كنت أكلف بها، فكنا نلتقي في أوكار حزبية في مناطق مختلفة ببغداد، ليلاً بل وفي ساعات متأخرة من الليل. وكانت أوكار الحزب تقع على الأرجح في مناطق شعبية، الحرية، الكاظمية، قناة الجيش، الإسكان، وكنا نتعارف بالأسماء الحزبية، وفي مناسبات كهذه تعرفت على الرفيق قحطان خلف الذي التقيناه كعضو، أو أمين سر القيادة القطرية، كذلك الرفيق صباح محمد يحي، والرفيق محمود حياوي، والرفيق إبراهيم عيدان، والرفيق عزيز المشهداني.

تلك المرحلة الكثيفة بإحداثها وتجاربها، وقد صادف فترة كنت أقود فيها ربما 17 منظمة حزبية، بعضها منظمات بالغة الخطورة والأهمية، حتى خيل لي بأن المنظمات التي أقودها، بالإضافة إلى منظمات الرفيق سليم عيسى الزئبق، وكان هو الآخر يقود منظمات مهمة لم أكن أعرفها، ولكني استطعت أن أخمن ذلك تخميناً، بأننا نستطيع القيام بحركة عسكرية بتنظيماتنا فقط!، وكنا أنا وهو نجد صعوبة فعلاً في أيجاد وقت فراغ أو ثغرة بين المواعيد الكثيرة، وقد جمعتني والمرحوم الرفيق سليم عيسى الزئبق جمعتنا صداقة متينة وأخوة إلى جانب العمل الحزبي.

والمرحوم سليم عيسى الزئبق، هو واحد من أروع المناضلين البعثيين، وكان على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء دون تردد بشجاعة قل نظيرها، وسمو ورفعة أخلاق نادرة، وكانت القدرات النضالية لسليم قد اختبرت أكثر من مرة، وفوق ذلك كان صديقاً مخلصاً، وقد عملنا معاً سنوات عديدة في منظمة واحدة منذ 1964، ثم حدث أن كلفني الرفيق أحمد العزاوي الأنصال به بعد أعادة التنظيم 1968، وعدنا للعمل معاً حتى وفاته في أواسط 1969، وكانت وفاته المفاجأة بعد عملية جراحية غير مفهومة في مستشفى السكك. لقد بكيت سليم بكاء مراً، رفيقاً وصديقاً وأخاً، وكان يوم وفاته من الأيام السوداء في حياتي.

كنا نعمل في المرحلة 1964 وما بعدها في ظروف صعبة ومعقدة جداً. فالحزب كان في طور أعادة تنظيم، بكل ما تنطوي عليه تلك العملية من تعقيدات. فالحزبيون كانوا مكشوفين لسلطات الأمن ومراقبين على الأرجح، لاسيما العسكريين منهم(الجيش والشرطة), كما كان الحزب يعيش مرحلة انشقاقات وتكتلات، وبروز أراء وتيارات، فكان علينا أن نبحر في هذه المياه العميقة في ظروف معركة وفي ظلام ليل دامس وتحت قصف مدافع من كافة العيارات والمواصفات. كنت أخرج يومياً من البيت(وكنت محالاً على قائمة نصف الراتب) في الصباح الباكر 8 -7 صباحاً ولا أعود قبل الواحدة ليلاً، وللمرة الأولى في حياتي، كنت أحمل فيها أجندة صغيرة في جيبي أحدد فيها المواعيد حتى لبضعة أسابيع سلفاً برموز ومصطلحات خاصة، ولا أمتلك وقتاً للظروف والمناسبات الشخصية إلا نادراً.

ورغم أني مررت في ظروف عمل وظيفية مهمة وحزبية قيادية أيضاً في المراحل اللاحقة إلا أنني لم أمر بمثل تلك الظروف المرهقة جداً، عملت فيها مع عناصر حزبية كثيرة من القيادات والقواعد ومررت بتجارب نضالية وشخصية نادرة، تبلورت فيها مقدرتي على فهم أدق للناس وقدراتهم والأحداث والتنبؤ بنتائجها وخبرة في بناء التنظيمات السرية. وكنت مشغولاً لدرجة أني لم أراجع حتى وحدتي العسكرية(الفوج الخامس اللواء الثاني /حدود) بعد الإفراج عني من المحكمة العسكرية العرفية لغرض إعادتي إلى الوظيفة. وكان هذا مثيراً للدهشة في قيادة قوات الحدود التي اتصلت بي عن طريق التبليغ بالبريد الرسمي... !!

كان الحزب قد قرر مبدئياً أن لا أعود إلى الخدمة، وأن أبقى كادراً متفرغاُ للعمل الحزبي في بغداد . إلا أنهم انتبهوا لاحقاً أن عودتي للخدمة قد يكون مفيداً من أجل بناء تنظيمات عسكرية في قطعات الجيش أو الحدود التي تكون قريبة من منطقة عملي، وهكذا التحقت إلى قيادة قوات الحدود التي نسبتني إلى فوج احتياط كركوك، (ربما نيسان / 1964)وكان مقره في معسكر اللواء الثاني/ حدود. وكان تعيني كأمر فصيل مشاة حماية ناحية ألتون كوبري.

              

قلت ابتداء أن الحزب كان يحبذ بقائي في بغداد، وكنت خلال هذه المدة التي تنوف على ستة شهور قد تفرغت بشكل مطلق للعمل الحزبي، ولكن القيادة ارتأت أمكانية عمل حزبي في كركوك، وكانت من أنشط منظمات الحزب المدنية والعسكرية. ففي سفرة الالتحاق إلى كركوك كنت محملاً بالبريد الحزبي إلى قيادة منظمة الحزب في كركوك(بمستوى قيادة شعبة)، وكانت صفتي العسكرية تبعد عني كل شبهة وتفتيش، وزودت بكلمة سر للاتصال بمسئول المنظمة الذي لم يكن سوى الصديق والرفيق محمد عبد الطائي، الذي سبق وأن نوهت عنه في مقدمة هذه المذكرات، وكنت واياه قد عملنا معاً في الإتحاد الوطني لثانوية الأعظمية، وفي واجبات ثورة رمضان، وها نحن نلتقي مرة أخرى، وكان بدوره قد زود بكلمة سر، وهكذا جرى اتصالنا الحزبي في أحدى مقاهي كركوك الشعبية، ضحكنا كثيراً وتعانقنا كأخوة وأصدقاء. وبدأنا العمل في واجب حزبي جديد .

كان الرفيق محمد عبد يزودني بأسماء رفاق عسكريين يجري نقلهم من التنظيم المدني إلى العسكري، مع كلمات سر. وكان هناك عمل دقيق يجري هناك، والرفيق محمد عبد، مناضل مجرب ذو قدرات قيادية مميزة، وكان الرفيق فؤاد عبد الله مبعداً في محافظة السليمانية ولكنه كان يعمل من هناك بنشاط في اتجاهات عديدة، منها التنسيق في قضايا الرفاق العسكريين، وكان ممن عمل معنا في تلك الحقبة الرفيق الشهيد وليد محمود سيرت، كأحد أبرز المناضلين العسكريين اللامعين، ومحور تجمع لعسكريين بعثيين ضم العديد من الرفاق.

كان وجودي في ألتون كوبري لا يعيق نشاطي الحزبي تقريباً، فقد كنت أستغل كل سانحة للنزول إلى كركوك، وهي لا تبعد سوى حوالي نصف ساعة بالسيارة، وكانت ظروف عملي جيدة، إذ نجحت في تحقيق علاقات جيدة مع الموظفين الإداريين، وكان في التون كوبري، آمر رعيل هندسة، النقيب رشيد صالح العزاوي، وبإمرته ثلاث مدرعات زيل، تقوم واحدة منها بأعمال الدورية بين كركوك والتون كوبري، كنت أستغلها في التنقل في النزول إلى كركوك. كان عملاً كثيفاً ويدور بصورة رائعة، رغم أن تثقيف العناصر العسكرية بأدبيات يسارية لم يكن أمراً هيناً، ولكن كان هناك دائماً من يجعل العمل النضالي أمراً ممتعاً، من أمثال الرفيق محمد عبد الطائي.

ولكن عملي الجديد النشيط في كركوك انتهى (في غضون ذلك كانت صلتي بمنظمتنا ببغداد مستمرة) بعد مدة لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة أشهر، ولكنها كانت فترة عمل نشيطة وتجربة عمل مضافة، والعمل ببغداد بمراتب قيادية وبالتماس مع القيادة القطرية يجعلك على مقربة من الأحداث ونبضها اليومي، ولكن مواقع العمل في الشمال كانت مهمة بالأخص للعسكريين العاملين في القطعات هناك. فعدت إلى بغداد وقد تم نقلي تعسفاً من الخدمة العسكرية إلى موظف مدني في الحسابات، وبذلك ابتعدت عن العمل والتواجد المباشر بين القطعات العسكرية، إلا أن وجودي في بغداد كان فرصة لمتابعة العمل الحزبي بقوة ونشاط من جديد. العمل الحزبي كان يدور بإيقاع منتظم وجيد ولكن !!

كان الحزب يشهد تحولات كثيرة وسريعة، والانشقاق يتوغل عميقاً. وفي أواسط 1965 كان الحزب قد عقد مؤتمره القومي السابع أضاف إلى أسمه الرسمي عبارة(اليساري) ليصبح اليسار كعنوان رسمي، وانتخبت قيادة جديدة للحزب. وفي العراق استمرت ملاحقات أجهزة الأمن لتنظيمنا، وكان تبدل القيادات أمراً متوقعاً على الدوام، أما الموقف السياسي العام فكان رتيباً، إذ انفرط عقد التنظيمات القومية المؤتلفة في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أريد منه أن يحاكي التجربة الناصرية في مصر ولكن التجربة لم تستمر إلا فترة قصيرة لكونها تجربة معلبة، وكثرة عدد التنظيمات والتنافس بينها. وكان الشيوعيين يتقربون منهم ويطرحون مناهج متساهلة، وكان بعضهم يحاول الدخول في تجربة الاتحاد الاشتراكي، وكانوا يعانون مشكلات داخلية كبيرة سوف تسفر عن انشقاق كبير يهز تنظيمهم هزاً، فالأسئلة الكثيرة بحاجة إلى أجوبة واضحة:

• نقد تجربة الحزب مع عبد الكريم قاسم،
• تقصير القيادات حيال مواقف نظرية وسياسية هامة، الموقف من مشكلات كبيرة لها طابع نظري/سياسي، في المقدمة منها الموقف من القضية الفلسطينية، العلاقة مع الإتحاد السوفيتي، وغيرها.

أما السلطة (عهد عبد السلام عارف) فكان أمرها كأمر الرجل المريض، باق على قيد الحياة بسبب خلافات الآخرين، أو تفرق المتنافسين وضعفهم.

كان عملي في الحسابات مملاً وفي وسط روتيني، فتقدمت بطلب إعادتي إلى الخدمة، أو قبول استقالتي من الوظيفة، وفي تلك الظروف بالذات كانت حملات الاعتقال قد اشتدت، ففي تشرين الثاني / 1965 طلبني مدير الدائرة، وكنت لما أزل بعد موظفاً مدنياً، فشاهدت عنده ثلاثة رجال يرتدون الملابس المدنية، وعلمت أنهم قادمون لاعتقالي، فذهبت معهم إلى مديرية الأمن العامة في موقعها القديم(القصر الأبيض)، ولي ذكريات غير ممتعة مع هذه الدائرة، وأخذت على الفور إلى التحقيق، وكان لحسن الحظ على يد ضابط بالغ التهذيب والكياسة هو النقيب هاشم البازل، ميالاً إلى المساعدة أكثر من التنكيل، وكان هناك إلى جانبه ضابط معروف بالشراسة وقلة التهذيب(ع. ل)، وواجهني المحقق باعتراف ورد ضدي عن تنظيمات مدينة الثورة، حيث ورد فيها أسم (ضرغام) فأنكرت معرفتي بهذه المنظمة، إلا أنني أدركت أن أحد الرفاق القياديين قد حوصر وتعرض للمضايقة، لذلك ربما أدلى بأسمى، ثم أنهم وبعد إصراري على الإنكار، جلبوا ذلك الرفيق القيادي أمامي، وكان عضو قيادة قطرية، فكرر اعترافه، ولكني عدت إلى الإنكار، ثم أني استطعت أقناع المحقق بصورة ما، ولكنها لم تقنع مرؤوسيه، ولا سيما أن الضابط الأخر الشرس كان يتدخل في التحقيق، وحاول الاعتداء علي، ولكن النقيب البازل منعه من ذلك.

وأخيراً أخذت إلى مكتب مدير الأمن العام، وهي ذات الغرفة التي أخذنا إليها عام 1962 قبل سنوات، وحاول معي(ر. م) مدير الأمن العام (الذي التقيت به لاحقاً ولكن في ظروف مختلفة تماماً !) حاول تارة بالتهديد وتارة بالترغيب، والأغراء تارة أخرى، ولكنني كنت مصمم على الإنكار، ثم إلى مقابلة مدير الشعبة المختصة بالنشاط البعثي اليساري، (وتنشق دوائر الأمن بدورها مكاتبها على ضوء انشقاقات الأحزاب !!!) مما حملني على القناعة، أن هناك معلومات تفصيلية عني، والمسألة ليست تنظيم مدينة الثورة فقط، التي لم أكن على علاقة مباشرة بها، وشاهدت أضبارتي على طاولة المقدم مدير شعبة البعث اليساري، وكانت أضبارة سميكة جداً هي حصيلة المتراكم من الأوراق خلال أربعة سنوات من دخولي دائرة الأضواء لدوائر الأمن. وقد أخبرني لاحقاً أحد أصدقائي من ضباط الأمن وكان من دورتي في كلية الشرطة، أن أضبارتي هي من أضخم الأضابير في مديرية الأمن العامة، تضم التحقيقات التي أجريت معي على مر السنين، ثم حصيلة التقارير المختلفة وصور كثيرة، ورسائل، وأشرطة تسجيل، وقد أخبرني هذا الصديق أن أضبارتي المقسمة إلى عدة أضبارات، تعد من أضخم الأضابير، في شعبة القيود.

واصلت إنكاري بقوة، وربما خلق ذلك نوعاً من الشكوك والتضارب في الآراء بينهم، وفي صحة المعلومات بحوزتهم، وفي اعتقادي أن النقيب البازل كان إلى جانبي، والمقدم مدير الشعبة لم يجد ما يستوجب، وقد أخذت إلى الموقف لحين البت في قضيتي، ووضعت في غرفة كانت تضم موقوفين اثنين، كنت أعرف أحدهما وهو القائد القومي الناصري، سلام أحمد، وكان الأمين العام لحركة القوميين العرب قبل أن تحل نفسها وتنضم إلى الاتحاد الاشتراكي، وقد تواصلت علاقتي بسلام أحمد حتى وفاته رحمه الله، وكان قائداً كبيراً، والآخر كان القائد البعثي السابق فؤاد الركابي ولم أكن قد التقيته سابقاً.

لا يمكن الحديث عن فؤاد الركابي ببضعة كلمات، فقد كان هذا الرجل قائداً عملاقاً وشخصية نادرة بكل معنى الكلمة، كان دمث الأخلاق طلق المحيا عالي التهذيب، إنساناً رائعاً يأسرك بوجوده وحديثه الساحر بلحظات، نعم كان ساحراً حقاً، له إطلالة تأسر الجالسين، وهذه الشخصية كانت تمثل لوحدها اتجاها ورأياً، بل قل ربما تكتلاً أو حزباً، كان فؤاد يجتمع صباحاً مع شخصيات، وظهراً مع غيرها، والعصر مع أخرى، وفي الليل يكون حديثه حديث بغداد بأسرها، أراء فؤاد وما يقوله فؤاد. وقد لاقى هذا القائد الفذ يا للأسف مصرعه في ظروف مؤسفة، فكم هي الضحايا العزيزة !!

قام الأخ سلام أحمد بمهمة التعريف بيننا، وفؤاد الركابي كان يعتبر البعث أبناً له، ويحق له الوصاية عليه، لا أعرف كيف أحسست بهذا الشعور في تلك اللحظة، ربما شعر هو أيضاً أنه أمام بعثي شاب من القيادات الجديدة، كان يتصرف معي بأبوية لم أكن أقبلها، ولكنه واصل ذلك، بأن أحضر لي وجبة طعام ممتازة وشاي ساخن وقدم لي السكائر، وهذه الأشياء في تلك المواقف لها قيمتها المادية والمعنوية الكبيرة. كان لطيفاً ورائعاً ومهذباً لدرجة أخجلتني، فهذا الرجل كان أمين سر القيادة القطرية لحزبنا ذات يوم، ونحن تربينا على احترام قادتنا، وكان هو والأخ سلام أحمد في هذه الغرفة في الأمن العامة، وكانت غرفتهم تحتوي على أسرة وتلفزيون وصحف ومجلات و وأطعمة ممتازة، وكانا رهن الاعتقال بعد خلاف طرأ بين الأطراف القومية في عهد عبد السلام عارف، وكان ذلك بياناً أو مقدمات لإعلان وفاة الاتحاد الاشتراكي العربي ..... في المساء نودي على لتقديم كفالة أطلاق سراحي، وكانت تلك الحادثة، قد أكدت وضعي تحت أضواء المراقبة الكثيفة.

كان قراراً قد صدر من وزير الداخلية بإعادتي إلى الخدمة في قوات الحدود مرة أخرى، وكانت قوات الحدود تعتبر المنفى الملكوت لكل ضابط مغضوب عليه. نسبت إلى الفوج الرابع /اللواء الثاني. وكان مقر اللواء والفوج في مدينة كركوك، وسريتان من هذا الفوج خارج كركوك: السرية الأولى في ناحية طقطق التابعة لقضاء كويسنجق/محافظة أربيل. والسرية الثانية وكانت في مضيق طاسلوجة/ محافظة السليمانية، والسريتان الثالثة والإسناد ومقرهما في معسكر اللواء الثاني داخل محافظة كركوك، وكانت بعض فصائل السرية الثالثة موزعة في أطراف مدينة كركوك. فكان من الطبيعي أن أنسب إلى السرية الأولى /طقطق، بوصفها السرية الأبعد والأصعب لجهة المواصلات. لكن الموقع السيئ للسرية تعوض بصحبة رائعة مع الضباط هناك: الملازم جمعة خلف، الملازم حكمت موسى(اللواء الدكتور فيما بعد) والملازم فاضل علوان. ثم علمت فيما بعد أنني كنت موضع مراقبة ومتابعة من الجهات الأمنية، وكانت صلتنا بمدينة كركوك، مقر فوجنا ولوائنا، وحيث كنا نستلم الأرزاق والعتاد والرواتب، وكان الضباط المجازين يسلكون طريق كركوك صعوداً إلى بغداد أو بقية المحافظات.

وقد حدث أن تعطلت أجازتي الدورية الأولى بصورة مريبة، لم يكن بوسعي أن أعلم أن كان ذلك مقصوداً أم لا، على أية حال، كنت قد وجدت طريقة لمعاودة الاتصال بمنظمة كركوك مع الرفيق الرائع محمد عبد الطائي وواصلنا العمل على ذات المنوال، وأعتقد أن الرفيق محمد كان يقود منظمة كركوك بطريق ممتازة تدل على استيعابه التام للموقف بتفاصيله، فكان للمنظمة نشاطها الواسع، بل كانت ربما من أنشط منظمات الحزب. كان عملي يتركز أساساً في تنظيم وإعادة تنظيم رفاق بعثيين مقطوعين اتصال، ومواصلة علاقتهم الحزبية، وأحاطتهم علماً بالتطورات السريعة الدائرة في الحزب، وكان الانشقاق هو الأمر اليومي الذي كنا نعاني منه، والتثقيف باتجاه اليسار يلاقي صعوبات إلى حد ما في القوات المسلحة، ذلك أنه يستلزم عملية تثقيف متواصلة طويلة الأمد، لكننا كنا في الأخير نتوصل إلى مناضلين أشداء، لذلك كان عملنا مؤشر بهذه الاتجاهات بالإضافة إلى مخاطر العمل السري المألوفة التي كنا قد أعتدنا عليها، ولكن احتمالات حدوث خطأ بسيط أو كبير وارد دائماً، وقد تلعب الصدفة دورها، ولكني لم أصادف خيانة حزبية، وعلى أية حال، كانت سير الفعاليات الحزبية تمضي دون مخاطر كبيرة حتى ذلك الوقت. ثم حدث أن أبدلت سريتنا الأولى بالسرية الثالثة التي كانت تعسكر في معسكر اللواء الثاني، وهكذا انسحبنا إلى كركوك، وتجددت بالطبع الظروف لعمل حزبي نشيط في هذه المدينة، وكانت منظمة حزبنا في المدينة بقيادة الرفيق محمد عبد الطائي تتقدم بخطى رائعة، وتفرض وجودها السياسي بكفاءة.

أتصل الرفيق محمد عبد الطائي بي هاتفياً ذات يوم إلى المعسكر (وهو أمر لم يكن يحدث إلا اضطرارا) وأخبرني، أن الرفيق ناظم كزار، وكان يومذاك موجود في سجن كركوك، وأحد عناصر تنظيمنا، وكان الرفيق محمد عبد يزوره باستمرار، وعلى الأرجح يلبي له حاجاته، أخبرني أن الرفيق ناظم يطلبك لمواجهته، وكان يرقد في مستشفى كركوك العام، الذي يضم قاعة ذات تجهيز خاص(الشبابيك والأبواب والحراسة)، فذهبنا سوية أنا والرفيق محمد وكنا نعلم كلانا (دون أن نتحدث في ذلك تفصيلاً) أن وضع ناظم هو شيء غير مريح له أولاً ثم للحزب، فقد كان حزبنا ماضياً بطرح شعارات التحالف، مع قوى اليسار، بل كان شعار (وحدة قوى اليسار)، هو الشعار الأساسي الذي طرحه حزبنا منذ أيام لجنة تنظيم القطر وما بعدها، وما زال.
وكان وضع ناظم ينطوي على شيء من الإحراج، مع ذلك توجهنا أنا ومحمد إليه، وكان يرقد على سريره وقد بلغ به الهزال فوق ما كان به أصلاً ولكنه مقيد إلى السرير. حياني بود وصداقة ورفاقيه، وبادلته نفس التحيات طبعاً، كنت أرتدي الملابس المدنية، وأراد أن يوجه لي عتاباً ناعماً، ولكن محمد أوضح له وضعي الحساس، ثم أنه أبلغنا(لي والرفيق محمد) أن بوسعه التخلص من القيود في معصمه بسهولة، بعد وضع قليل من الدهون أو شيء من الزيت على يده، وفعل ذلك أمامنا للتدليل على قوله، وأن بوسعه أن يهرب من المستشفى إذا تلقى المساعدة مني أو من محمد على ذلك، ومن ثم الاختفاء بترتيب من الحزب. فقال له الرفيق محمد، أن ذلك يستلزم قراراً من القيادة القطرية، لاسيما مشاركتي في الموضوع، (لأن بقائي في العراق بعدها سيكون صعباً)، وأنه سيفاتح القيادة وبمجرد حصول الموافقة والترتيبات فأننا سنعمل على تهريبه إلى سورية، وقد أستغرق طلب موافقة القيادة من بغداد بعض الوقت، وعندما وردت الموافقة، اتفقنا أنا والرفيق محمد على تفاصيل إخراجه من المستشفى على أن أذهب أنا بملابسي العسكرية مزوداً بكتاب مزور من الشرطة، وقد فعل ذلك الصديق والأخ الشهيد داؤد الدرة(وكان الضابط الآلي في مقر اللواء الثاني) وداؤد رفيق بعثي، كان في تلك الفترة يعمل مع اليمين، ولكنه بأخوية ونخوة رفاقية قدم لي تلك الخدمة التي تنطوي على بعض المجازفة، ولكن ناظماً تحول فيما بعد إلى اليمين، بعد ذلك، وتشاء الأقدار أن يكون مدير أمن عام وداؤد الدرة ضابط عنده، ويشترك في حركته، ويعدم مع ناظم كزار، لاحظ ما أغرب الأقدار !!!.

ذهبت في الموعد المقرر كنت أرتدي ملابسي العسكرية، بالسيارة العسكرية التابعة لسريتي، وكان الرفيق محمد ينتظرني بالقرب من المستشفى، وعندما شاهدني، أخذ يؤشر بلهفة وعلامات القلق بادية عليه والحيرة والتعب. وقال لي: أن محاسن الصدف أن يلقاني قبل أن أدخل إلى المستشفى بملابسي العسكرية، متجهاً إلى ردهة السجن. وقال: أن الطبيب المسئول عن الردهة أكتشف ظهر اليوم أن ناظماً ليس مريضاً، بل هو متمارض، لذلك قرر إخراجه من المستشفى وأعادته إلى السجن فوراً. وهكذا فشلت العملية قبل أن تبدأ، وصرفت السيارة العسكرية وذهبنا أنا ومحمد إلى أحد المقاهي، ومزقنا الكتاب الذي كنا قد زورناه. وقد أخبرني الرفيق محمد عبد فيما بعد أن ناظماً كان يشكك بصدق تعاملنا، رغم أنه كان يعرفني شخصياً بدقة (وكنا على صلة طيبة)، كما أعتقد يعرف نزاهة الرفيق محمد، ولكنه على الأرجح كان يوجه اللوم المستتر للقيادة القطرية.

على أية حال، حسم ناظم كزار وضعه بعد خروجه من السجن قبل 17/ تموز/1968 بفترة قصيرة، فغادر صفوفنا ، ولكن ناظماً وهو الذكي والمثقف والنزيه، أدرك بعد فوات الأوان أي منحدرات مضى إليها، وهو ذلك المناضل من أسرة كادحة رائعة، من أب وأم وأخوة وأخوات وكانت تربطني بهم جميعاً أطيب الصلات. كان ناظم وما فعله وما آل إليه أخيراً خسارة في خسارة، من الأول وإلى الأخير، خسارة ..... يحتار المرء على أية قائمة يسجلها، ناظم الشجاع، المناضل المخلص، المستعد للتضحية، خسر نفسه وخسره الحزب.

أريد هنا أن أسجل ذكرى أحد رفاقنا الرائعين: الرفيق الملازم عباس السامرائي، فقد تعرفت على هذا الرفيق الرائع في كركوك، وكان أحد ضباط اللواء الرابع مشاة /الفرقة الثانية. وكان رائعاً في الاستجابة بكل ما طرحت عليه، بل كان يبدي استعدادا عالياً للعمل النضالي، أبلغت الرفاق بهذا الرفيق المستعد للعمل وبقدرات ممتازة، وكنت أنتظر لقاءنا الحزبي بلهفة، وكنت أجد فيه (ولي في ذلك تجربة وتقدير لا يخطئ) الاندفاع والحماس والرغبة في التطور، وكنت آمل أن يحوز في فترة قصيرة امكانات عمل قيادية، كنت سعيداً بهذا الرفيق، وأن أجد نفسي مكتشفاً لهذه الطاقة. ولكن ويا للأسف الشديد، أبلغني أحد الضباط الأصدقاء، نبأ استشهاده في أحدى معارك لواءه، كان يوماً أسود حالك السواد بالنسبة لي، كنت وكثيراً ما زلت أذكر ذلك الرفيق الرائع بألم وحسرة.

كانت خدمتي في الفوج الرابع اللواء الثاني/ حدود، فرصة ذهبية لي لوفرة الوقت في معسكراتنا النائية، للانغماس في قراءة كثيفة، وبالفعل قرأت كميات هائلة من الكتب، أعمال أدبية وسياسية، وكنت أتزود بالكتب من بغداد وكركوك أكثر من تزودي بالطعام، وكانت فترات تواجدي في كركوك فرصة لإقامة الاتصالات والفعاليات وكنت لما أزل في قيادة المكتب وكان مسئولي هو الرفيق عبد الوهاب سلمان، ولمدة ستة شهور انسحبت سريتنا من طقطق إلى كركوك، وبذلك توفر جال أوسع للعمل الحزبي وإعادة تنظيم الكثير من الرفاق، ومن هؤلاء الرفيق الرائع المرحوم الملازم جاويد جهاد الخالدي، وكان بطلاً شجاعاً ورفيقاً ملتزماً، عمل معنا وأستمر بالعمل إلى النهاية، وكان رفيقاً وصديقاً وأخاً لي.

كانت فترة وجودي في كركوك فرصة ذهبية انسج علاقات كثيرة منها ثقافية بصفة خاصة، تلك الجلسات الرائعة في نادي الموظفين مع الرفاق الملازمين طارق البديري وإسماعيل غلام ورجاء الخليلي(وكانوا ضباط احتياط في وحدات كركوك)، كانت همومنا وآمالنا مشتركة، بلادنا والمنطقة بأسرها تواجه أقداراً غريب، كانت حركة 23 / شباط، قد حسمت موقف الرفاق السوريين حيث سيطرت عناصر يسارية على الحزب والموقف هناك، ولكن الحركة كرست انشقاقا جديداً، وبعثنا اليساري تحول إلى حزب العمال الثوري، وهنا قبلت عناصر كثيرة العودة إلى الحزب الرسمي، بعد أن تغلبت سمات أخرى على الخط العام، فيما تحولت عناصر أخرى إلى حزب العمال الثوري، ورفاق آخرون إلى تشكيل منظمة وحدة العمال، وربما تخلى آخرون عن العمل الحزبي، في ربيع الانشقاقات إن جاز التعبير، وازدحام المنظمات، أما التنظيم البعثي الرسمي فقد أستمر في نشاطه ولكن مع ميل متفاقم إلى الضعف، وتعاظم مكانة تنظيم الحزب وقيادته القومية في سوريا، وكان التنظيم الرسمي يطلق علينا صفة (المنشقين).

ويستحق القول أن التمزقات والانشقاقات لم تكن من نصيب حزب البعث العربي الاشتراكي لوحده، بل كذلك كانت الحركات القومية الناصرية التي تشظت إلى ستة أو سبعة حركات، وكذلك الحزب الشيوعي العراقي. وللأسف لابد من التأكيد على أن حزبنا كان قد طرح مبكراً شعار وحدة قوى اليسار، وكان في ذلك استباق للتشظية من جهة وانحدار أوضاع البلاد والعمل الوطني، والمنطقة بأسرها.

في 1/ حزيران / 1967 كنت في طريق إلى الالتحاق بوحدتي الجديدة: الفوج التاسع اللواء الأول، وكان معسكر مقر الفوج في مصيف سرسنك، وتتناثر سراياه بين بيباد / تل العنب/ آرادن، وسرسنك وسكرين وسوارة توكا، وبينما كنت أتنقل بالسيارة من الموصل إلى سرسنك للالتحاق يوم 1/ حزيران، كنت ألاحظ تقدم وتنقل مقر وأثقال اللواء الثامن الآلي باتجاه الأردن..! وبعد مبيت ليلة واحدة في مقر الفوج، أبلغت بتنسيبي كآمر للسرية الأولى في معسكر سكرين، وكنت قد ترفعت إلى رتبة الملازم أول.

سرعان ما سقطت على رؤوسنا مطرقة هائلة هي هزيمة5 / حزيران/1967 ، وبدا كل شيء على حافة الانهيار، كنت أمراً للسرية الأولى في الفوج التاسع من اللواء الأول / حدود وكان مقر فوجنا في سرسنك، وكان مقر سريتي في منطقة سكرين، التي تبعد تسعة كيلومترات عن مقر الفوج، واستلمت في اليوم التاسع أو العاشر من حزيران برقية بلزوم نصب الرشاشات الثقيلة وكل وسائط الدفاع الجوي، استعداداً لأحتمال قيام العدو بقصف قاطعنا !!!

ولست أشك مطلقاً أن عدوان 5/ حزيران كان مؤامرة واسعة النطاق، شنتها قوى عديدة بالتنسيق التام بين الولايات المتحدة وبريطانيا، وكان دور الكيان الصهيوني هو أداة التنفيذ فقط، للأسف كانت المهام المطروحة ضخمة، بل هي أضخم مما تستطيع أحزابنا وحركاتنا استيعابه، أما بسبب ضعف التجربة، أو بسبب عدم وضوح الأهداف والوسائل، أو بسبب تغليب التناقضات الثانوية على الرئيسية، وعدم قدرتنا تجاوز همومنا الصغيرة والمواقف السياسية، والثأر في العمل السياسي الذي تسلل إلى الذهنية السياسية من تقاليدنا الشرقية.

كان انتصارا مدهشاً لمؤامرة حيكت بدقة تامة، وتوهم العدو ومن وراءه أن تتصل به السلطات العربية طالبة الاستسلام !! وهنا نزلت الجماهير إلى الميدان برد فعل غريزي يفوق قدرة أحزابنا، أنه الشعب الذي لا يعرف الكثير من الساسة ما هي قوة الشعب، فقد اندفعت الجماهير العربية في كل مكان، لاسيما في البلدان التي شهدت النكسة، تضع حداً لا يجوز التراجع عنه: لا استسلام لا صلح لا تفاوض. مع استعداد للبذل والتضحية. فكان مؤتمر قمة الخرطوم، وقرارات استمرت لفترة طويلة صالحة، كانت ضرورية لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الصفوف.

أمام تلك المخاطر الحقيقية على مصير الأمة ومكتسبات الجماهير، كنا نعيد منظمتنا العسكرية من جديد، بناء على ضوء التطورات الحزبية الجديدة. أتصل بي الرفيق عزيز حميد الحسون(أستشهد فيما بعد بالإعدام ) وهو من رفاقنا المعروفين. وعزيز صديق قديم عشنا تجربة السجن بعد 18/ تشرين الثاني/1963 وعمل معنا طيلة المرحلة، وأشترك في دعوته صديقا العمر، الرفيق فؤاد عبد الله والرفيق صباح عبد الغني عرب، وكلاهما من خيرة الرفاق وذوي تجربة ممتازة، وكنا نحن الثلاثة مع الرفيق عزيز، أفضل مجموعة عمل، وباشرنا كقيادة مكتب شرطة تابع مباشرة للمكتب العسكري، وكان لنا وكرنا الحزبي في منطقة الوزيرية. بعد فترة قصيرة من عملنا، حدثت حركة تموز/1968.

وسوف يتغير كل شيء، عملنا وأساليب العمل، بل كان تاريخ العراق كله قد أفتتح صفحة جديدة !!!

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/38369-2018-12-25-12-09-19.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

714 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع