روايةحنين الصايغ تمثل نصا جريئا يعيد قراءة المجتمع الدرزي في جبل لبنان من منظور اجتماعي نقدي، إذ تحوّل المعاناة الفردية إلى قضايا إنسانية عامة وتكشف التوتر بين التقليد والحداثة عبر رحلة البطلة 'أمل'.
ميدل ايست اونلاين/فراس حج محمد - تُمثّل رواية "ميثاق النساء" للروائية والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الآداب عام 2023، إضافة نوعية في المشهد الثقافي العربي المعاصر. لقد نجحت الكاتبة في تقديم عمل أدبي عميق يتجاوز كونه سرداً فنياً ليلامس قضايا اجتماعية ونفسية حساسة، خاصة في مجتمع يتسم بالخصوصية والانغلاق مثل المجتمع الدرزي في جبل لبنان.
أثارت الرواية، منذ صدورها، جدلاً واسعاً وقوبلت بردود فعل متباينة، مما يؤكد أهميتها كنص أدبي لا يكتفي بالتصوير، بل يمتد تأثيره إلى إثارة الحوار والتفكير حول الأعراف والقوانين التي تحكم حياة الأفراد، وكتب حولها الكثير من المراجعات النقدية، وأجري مع الكاتبة حنين الصايغ العديد من المقابلات التلفزيونية والصحفية، حتى شكلت إرثا نقديا موازيا آخر، يمكن أن يدرس دراسة أخرى بنيوية ضمن مفهوم النصوص الموازية الفوقية، وآمل أن ينجز أحد الباحثين أو الباحثات الجادين دراسة حول هذه "النصوص الفوقية" المواكبة لهذا المتن الروائي الطاغي في حضوره، وقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2025، ولقد كنتُ أحد المراهنين على أن تكون الرواية الفائزة بالجائزة لتفردها في طرح القضايا الاجتماعية الحساسة.
تستهدف هذه المقالة تقديم قراءة نقدية للرواية من منظور المنهج الاجتماعي، إذ يرى هذا المنهج أن الأدب ليس نتاجاً فردياً معزولاً عن المجتمع الذي أنتج فيه، بل هو مرآة عاكسة للواقع المعيش، ووثيقة معبّرة عن التحولات الاجتماعية، والأيديولوجيات السائدة، والانتماءات الطبقية للأديب والمجتمع الذي يصوره. إن الكاتب، وفق هذا المنهج، هو ابن بيئته، وأدبه جزء لا يتجزأ من سياقه الاجتماعي. وعلى الرغم من أن هذا المنهج قد واجه نقداً بسبب إفراطه في التركيز على المضمون على حساب الشكل، وتصويره للأدب كانعكاس آلي للمجتمع، إلا أنه ما زال ذا جدوى في تحليل الأعمال الأدبية ذات الصبغة السياسية والاجتماعية كرواية "ميثاق النساء"، إذ أقدّر أنه من الأنسب دراسة هذه الرواية حسب هذا المنهج، إذ ربما يكون الأقدر على الكشف عما تختزنه البنية السردية من مقولات اجتماعية وسياسية وفكرية، لها ارتباط بالبنية الاجتماعية كنظام متحكم بالفرد من خلال عيشه في مجتمعه، ليكون جزءا منه.
هذا جانب، عدا أن هذا المنهج قد شهد تطوراً كبيراً ليصبح ما يعرف بـ"علم الاجتماع الأدبي". وقد أتاح هذا التطور إطاراً أكثر مرونة لربط البنيوية بتحليل رؤى العالم داخل النص، كما نلمس في أعمال نقاد عرب بارزين كالناقد المصري محمود أمين العالم، إضافة إلى تينك النقطتين المهمتين فإن الرواية بشكل عام هي فن المجتمع قبل أن تغرق في المقولات الشكلية والتقنيات السردية، ومهمة الروائي هي اجتماعية قبل أن تكون فنيّة.
لا تهدف هذه المقالة إلى سرد أحداث الرواية، إنما تسعى لتطبيق هذا المنهج النقدي، مع التركيز على التفاعل الجدلي بين النص الروائي وواقعه الاجتماعي. ليتم الكشف عن مدى استطاعة الكاتبة أن تحوّل التجربة الفردية المعقدة إلى قضايا إنسانية عامة، وكيف استخدمت بنية الرواية وشخصياتها للكشف عن الصراع الاجتماعي بين التقليد والتمرد. وتطمح هذه القراءة في فك شيفرات هذا العمل، ووضعه في سياقه الثقافي الصحيح.
تتكون الرواية من مئتين وتسعين صفحة تقريباً، موزعة على (15) عنواناً، ولهذه العناوين دلالتها التي تجعلها علامات سيميائية تشير إلى قضايا المتن السردي، وهذه العناوين هي: "الجدار، الصفقة، سبع سنوات داخل الرحم، امرأة الأنبوب، الدروز سلسلة، الشرنقة، الجامعة الأمريكية، أقفال معلقة على حياة جديدة، زهرة فوق أرض محترقة، المتربص داخل غرفتي المظلمة، عناق ذاكرتين، ألف عام من العزلة، رحلة العودة من الاحتمالات، إهداء منفصل، نافذة على حديقة الله". لقد بدأت الرواية بالجدار وما يشير إليه من تعنت وانسداد أفق، وانتهت بفتح النافذة على المطلق "حدائق الله"، وما بين العنوانين ألوان من المعاناة النسوية في مجتمع عربي طائفي مغلق، كما أشير إلى أن أحد هذه العناوين، وهو "إهداء منفصل" جاء على صيغة قصيدة شعرية قصيرة تحتل وسط الصفحة لتدخل إلى العنوان الأخير "نافذة على حديقة الله"، ويتضمن أيضاً هذا الفصل قصيدة شعرية كتبتها أمل لحامد.
أما المؤلفة حنين الصايغ فمن مواليد معصريتي، لبنان، عام 1986. وحاصلة على إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، وشهادة ماجستير في تدريس مناهج اللغة الإنكليزية من الجامعة الأميركية في بيروت. تعمل في التدريس والترجمة الأدبية. وهي شاعرة أوّلاً قبل أن تكون روائية، وصدرت لها ثلاث مجموعات شعرية: "فليكن 2016"، و"روح قديمة 2018"، و"منارات لتضليل الوقت2021". ورواية "ميثاق النساء" هي روايتها الأولى، وقد ترجمت إلى الألمانية، وصدرت عام 2024. وسيلاحظ قارئ الرواية أن لبعض هذه الخطوط العامة في حياة حنين الصايغ حضوراً في المتن السردي من خلال الشخصية الرئيسية "أمل"، لا سيما أمل الطالبة في الجامعة الأمريكية والتي تكتب الشعر أيضاً، كما ورد في الفقرة السابقة.
الأبعاد الاجتماعية والبيئية في النص الروائي
تُقدم الرواية للقارئ صورة حية للبيئة القروية الدرزية في جبل لبنان، لكنها لا تكتفي بها خلفية للأحداث، بل تحوّلها إلى محرك أساسي للصراع الدرامي. تصف الرواية مدينة عاليه بأنها مكان "مملّ ومتوقع لدرجة تبعث على الموت". هذا التوصيف لا يقتصر على الملل الناتج عن الروتين اليومي، بل يعكس حالة من الجمود الاجتماعي والروحي الذي يفرض نفسه على حياة الأفراد. إن هذه "الوفاة الرمزية" تدفع البطلة، أمل، إلى البحث عن مخرج، فتخوض مغامرة محفوفة بالمخاطر في رحلتها إلى بيروت، ما يثبت أن البيئة ليست إطاراً مكانياً عديم الفاعلية، بل هي المحفز الرئيسي للتمرد الداخلي.
يُبرز العمل الطبيعة المنغلقة للمجتمع الدرزي الذي يتسم بالسرية التامة حول معتقداته، ويُشكّل هذه السرية حاجزاً نفسياً واجتماعياً يولد الخوف والترقب في نفوس أفراده. هذا الانغلاق يفسر الكثير من السلوكيات الاجتماعية التي تتناولها الرواية، من الخوف من "الوشاية" إلى التقيّد بالتقاليد، وهو ما يجعل النص بمثابة "إطلالة نادرة" على مجتمع غالباً ما يفضل إبقاء شؤونه الداخلية طي الكتمان.
تكشف الرواية عن البنية الهرمية المعقدة للمجتمع الدرزي التي تقسمه إلى ثلاث درجات: "العُقّل" (رجال الدين)، و"الأجاويد" (المطلعون على الدين)، و"الجهال" (عامة الناس). هذا التقسيم ليس توصيفا دينيا معزولاً قائما بذاته، إنما يتجاوز ذلك ليضبح ممثلاً لنظام قوة اجتماعية يمنح طبقة معينة احتكار المعرفة الدينية والسلطة، ويفرض بذلك نوعاً من الرقابة على حياة الأفراد، كما يتجلى في شخصية الأب الشيخ.
تُعيد الكاتبة توظيف مفهوم "الميثاق"، وهو أحد أركان المعتقد الدرزي، ليكون "ميثاق النساء". هذا التوظيف يُمثل عملاً تفكيكياً جريئاً، حيث تحوّل الكاتبة الميثاق من عقد ديني واجتماعي يحدد أدوار الفرد، إلى "ميثاق من التضامن والفهم والوجع" يربط بين النساء ويتجاوز كل الحدود الدينية والثقافية والجغرافية. إن هذا الانتقال الدلالي العميق هو لبّ المنهج الاجتماعي في الرواية، إذ يوضح كيف يمكن للأدب أن يؤول الرموز الاجتماعية الثابتة ليخدم رسالة تحررية، ويُعيد تعريف العلاقة بين المرأة والمعتقدات التي تحكم حياتها.
يُشكّل التوتر بين قيم التقليد والحداثة المحور الأساسي للرواية، وتُجَسّده الكاتبة بشكل رمزي وفعلي. فالقرية تمثل عالم التقليد المغلق، في حين تمثل بيروت، وخاصة الجامعة الأميركية، عالم الحداثة المنشود. إن رحلة أمل إلى بيروت ليست انتقالاً جغرافياً خاويا من الدلالة الفنية والمجتمعية، إذ تشكل هذه الرحلة رمزية نحو الانفتاح والتحرر. هذا الصراع لا يقتصر على الأمكنة، بل هو صراع داخلي يعيشه الأفراد؛ فخوف أمل من الظهور بمظهر "أبله" أو "غبي" أمام سائق التاكسي تجسيد حي للصراع بين هويتها القروية المحافظة وطموحها للاندماج في عالم الحداثة الذي تمثله بيروت والجامعة الأمريكية، مما يؤكد الترابط الوثيق بين البعدين الخارجي (الجغرافي) والداخلي (النفسي)، ويؤكد البعد التقابلي التضادي بين بيئتين ونظامين اجتماعيين يصلان إلى حد التعارض، وإن بدا أنهما أصلا متعايشان ضمن النظام الاجتماعي الأكبر الذي تحكمه القوانين العامة الدستورية والقوانين الطائفية كذلك، دون أن يطغى أي جانب على الجانب الآخر، وهذا ما أقصده بالتعايش المتفق عليه بين أفراد المجتمع، وخاصة في المجتمع اللبناني ذي السمة الطائفية.
تُوضع هذه الرواية، من خلال تناولها لهذا الصراع، في سياق أدبي عربي أوسع، حيث يمكن موازنتها بأعمال رائدة أخرى تناولت العلاقة بين القرية والمدينة، مثل "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي و"طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد. هذه الموازنة تؤكد أن "ميثاق النساء" جزء من تقليد أدبي يهدف إلى رصد التحولات الاجتماعية والنفسية في المجتمعات العربية، ولكن من وجهة نظر امرأة خبرت هذه البيئة وعاشت فيها، ولا شك في أنها قد عانت من بعض متطلباتها في العزلة والرقابة، لأنها في نهاية المطاف هي فرد من مجتمع، يخضع لقوانينه، القوانين الكلية وحتى الجزئية الطائفية تحديداً (على مستوى الطائفة)، فيتدخل في التفاصيل وأدق الأشياء وأصغرها التي تحكم حياة الفرد وتصرفاته واختياراته وقراراته المصيرية.
الصراع الاجتماعي
تُعدّ أمل، بطلة الرواية، نموذجاً للمرأة الريفية الطامحة التي تعيش تحت وطأة الخوف والعجز. حيث تظهر في الرواية الحالة النفسية المتردية لهذه الشخصية القلقة، فهي تعاني من توتر شديد لا يهدأ، وتُظهر عليها أعراض جسدية مثل الغثيان والدوار. ورغم ذلك، تحاول التظاهر بالقوة والذكاء، وهو ما يستنزف طاقتها ويشير إلى عمق صراعها الداخلي، ويبدو شيئا من هذا القلق في بداية الرواية التي استهلته الكاتبة بنوع من الاعتذار لابتها ما يحيل مرة أخرى إلى أن الرواية قد تفسّر على نحو شخصي، لتكون رجعاً لسيرة الكاتبة الذاتية، وهنا يتعالق مرّة أخرى المتخيّل مع الواقعي، لصالح التفسير الاجتماعي للأدب.
تُبرم أمل "صفقة اجتماعية" مع الحياة من خلال زواجها المبكر بسالم، أحد أثرياء الطائفة. هذه الصفقة، التي كان الهدف منها إكمال تعليمها، تكشف عن الآليات القسرية التي تدفع النساء إلى تقديم تنازلات مؤلمة لتحقيق أحلامهن الأساسية. إن قوة شخصية أمل لا تكمن في تمردها الصارخ، بل في واقعيتها وصمودها في وجه التنازلات والألم. فهي ليست بطلة خارقة، بل شخصية حقيقية تُظهر أن التغيير الاجتماعي ليس ثورة سريعة، بل عملية بطيئة ومؤلمة تبدأ من أعماق النفس.
وربما من هذه النقطة أيضاً لا بد من الربط بين أمل الشخصية الروائية وحنين الكاتبة، بحيث يمكن أن يساعد المنهج الاجتماعي على إيجاد التقاطعات بين النص الروائي، بوصفه سردا متخيلا وبين المرجع الواقعي الحقيقي الذي يشير إلى تجربة الكاتبة الواقعية، إذ يبدو أنها امرأة مطلقة ولها بنت، أهدتها روايتها هذه كما أشرت أعلاه، ووراء الطلاق- عادة- قصص وحكايات، وخاصة في المجتمع الدرزي والعربي عموماً، فهذه المقايضة بين الخضوع والتحرر، ثمة مسافة مقطوعة وبحسابات نسوية مدروسة، تتحكم بالنظام الكلي للرواية.
تقدم الرواية مجموعة من الشخصيات النسائية التي تشكل معاً نسيجاً متصلاً من المعاناة، وهو ما يُعرف بـ"ميثاق النساء". ابتعدت هذه الشخصيات عن منطق الشخصية الثانوية، لتصبح أكثر فاعلية، إذ إنها تجسد أوجهاً متعددة من القهر الاجتماعي، وبالتالي يمكن أن تشكل كل شخصية نموذجا خاصّا في المجتمع الذي تعيش فيه، ومن هذه الشخصيات:
الجدة: تُمثّل الجيل السابق الذي عاش تحت وطأة الخوف والجنون، وهو خوف فرض عليها العزلة بعد الطلاق.
الأم: تُمثّل الخضوع والصمت، حيث أمضت حياتها في خبز الصاج وإخفاء صوتها، مما جعلها "شبحاً" يحيط بحياة أمل، وينقل لها إرث الألم.
العمة سليمة: تُجسّد إيمان الدروز بعقيدة التقمص، حيث ترى في ابنة أمل صورةً لأمها المعذبة، وتجعل منها نذراً للماضي.
الأخت نرمين: تُمثّل التمرد الهش، حيث سعت للتحرر بالزواج من رجل درزي يحمل الجنسية الأمريكية، ولكنها عادت إلى المجتمع بتقمصها "صحوة دينية" بعد مرارة تجربتها، مما يوضح هشاشة التمرد إذا لم يكن قائماً على أساس نفسي وفكري صلب.
تُشير الرواية إلى أن معاناة الأجيال السابقة تنتقل "كمصائر محتومة" إلى الأجيال اللاحقة. هذا التراكم في الألم يوضح أن قضية أمل ليست فردية، بل هي قضية تراكمية وميراث من الأجيال، وهذا ما يجعل الرواية عملاً نقدياً اجتماعياً عميقاً، يكشف عن النظام الاجتماعي الكلي المتحكم بالناس، رجالا ونساء.
لا تُقدم الرواية صورة نمطية للرجل كـ"عدو" للمرأة كما يبدو في بعض الكتابات النسوية المتطرّفة، بل توضح أن هناك الرجل الظالم، والرجل الضحية، والرجل المنقذ. الكاتبة حنين الصايغ أكدت أنها كتبت عن الرجل من منظور إنساني ورفضت الإدانة الصرفة، مما يجعل الرواية أكثر عمقاً وواقعية. فالأب الشيخ علي بو نمر والزوج سالم هما رموز للسلطة الأبوية، لكنهما في الوقت نفسه نتاج لبيئتهما المحافظة وضحايا للمفاهيم التي تربّوا عليها. هذا ما يجعل الصراع في الرواية صراعاً مع منظومة اجتماعية بأكملها، وليس مجرد صراع بين جنسين. هذه المقاربة ترفع الرواية من مستوى "الأيديولوجيا النسوية" إلى مستوى "النقد الاجتماعي" الشامل الذي يسعى لفهم العوامل الاجتماعية التي تشكّل سلوكيات الأفراد من الجنسين.
القضايا الاجتماعية في الرواية
يُعدّ طموح أمل في إكمال تعليمها في الجامعة الأميركية في بيروت رمزاً للتحرر من القيود التقليدية. تتصادم هذه الرغبة مع التوقعات الاجتماعية التي ترى أن مصير الفتاة هو الزواج فقط، وتعتبر أن الإنفاق على تعليمها "مصاريف زائدة" لا حاجة لها. هذا الصراع يكشف عن واقع مؤلم في العديد من المجتمعات المحافظة، حيث يُنظر إلى المرأة كأداة لإنجاب الأطفال، لا ككائن له طموحاته الفكرية والمهنية.
تُظهر الرواية الزواج المبكر كـ"صفقة" مؤلمة في حياة أمل. تشير الدراسات إلى أن الزواج المبكر في المجتمعات الريفية يُنظر إليه كوسيلة لحماية الفتاة من "العار" أو لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن العائلة. وتؤكد هذه الدراسات أن زواج القاصرات يؤدي إلى ارتفاع معدلات العنف الأسري، والحرمان من التعليم، والعزلة الاجتماعية، والانهيار النفسي. لم يكن زواج أمل بسالم مختلفاً، فقد كان مجرد "قفص ذهبي" يفرض عليها دوراً لا يشبهها، ولم يلبِ رغباتها العاطفية، بل كان وسيلة للسيطرة عليها.
تُلقي الرواية الضوء على الأبعاد النفسية للشخصيات، خاصة أمل، التي تعاني من القلق والتوتر والدوخة والغثيان، وهي أعراض جسدية ونفسية مباشرة للضغط الاجتماعي. إن تناول هذه القضايا في الرواية يساهم في كسر التابوهات الاجتماعية حول الصحة النفسية، خاصة في المجتمعات المحافظة التي تُهمِل هذا الجانب. إن الكاتبة لا تكتفي بعرض المشكلة، بل تقدمها كـ"أداة تغيير". فبوحها بمعاناتها الشخصية في المقابلات الصحفية والتلفزيونية التي اطلعتُ عليها، وتناولها لهذه القضايا في الرواية، يهدف إلى توليد التعاطف لدى القراء ووعي المجتمع بأهمية هذه القضايا. وهذا ما يؤكد أن الوظيفة الاجتماعية للأدب لا تقتصر على عرض المشاكل، بل تتعداها إلى خلق حوار مجتمعي حولها. وأظنّ أن الرواية قد ساهمت في إحداث هذا النقاش الثري حول قضايا مجتمعية حساسة، تجاوزت المجتمع الدرزي إلى عموم المجتمع اللبناني، بل والعربي بشكل عام، وهذه ميّزة تحسب لهذا النوع من الأدب.
الخاتمة
تُشكّل رواية "ميثاق النساء" إضافة قيمة للأدب العربي المعاصر، خاصة في مجال الأدب النسوي المتوازن في طرح القضايا الخاصة بهذا النوع من الأدب، ولجرأتها في طرح قضايا مجتمعية حساسة، وقد نجحت الرواية في تمثيل المنهج الاجتماعي بشكل فعال، حيث قدمت صورة حية وتفاعلية للمجتمع الدرزي في جبل لبنان، وكشفت عن ديناميكيات القوة والصراعات الداخلية فيه، دون الوقوع في فخ الإدانة أو الخطابية المباشرة.
وتكمن القوة الحقيقية للرواية في "أنسنتها" للمجتمع الدرزي. فبدلاً من تقديم المجتمع ككيان أسطوري غامض، أعادته الكاتبة إلى كونه مجتمعاً إنسانياً فيه الشخصيات من لحم ودم، وتعيش صراعات من أجل تحقيق العدل في حياتها. إن الرواية تحوّل القصص الفردية إلى قضايا إنسانية عامة يمكن لأي قارئ، بغض النظر عن خلفيته، أن يتعاطف معها.
يمكن اعتبار الرواية "أداة للتغيير البطيء". فمن خلال خلق الوعي وتوليد التعاطف حول قضايا مثل الزواج المبكر، والتحرر، والصحة النفسية، تساهم الرواية في تمهيد الطريق لإعادة النظر في الأعراف والقوانين التي تحكم حيوات النساء. إنها دعوة قوية للتحرر من الخوف، ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى المجتمعي ككل. إن "ميثاق النساء" صرخة مُعلنة في وجه الصمت، وميثاق للتضامن بين النساء يمتد كجذور أشجار السنديان العتيقة التي تتعانق تحت سطح الأرض.
1030 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع