29/5/1944 : إني أفكر في أن اتحرر من الرسم يوماً من الأيام، لأني أشعر شعوراً أكيداً أنه ليس بالشيء الذي أعيش من أجله. إنه لا يعبّر عن نفسي تمام التعبير. في المعرض الربيعي الأخير لجمعية أصدقاء الفن وضعت ثماني صور زيتية كانت عندي أحسن ما عملت، ولقد هُنئت عليها كثيراً (…)
مع هذا كنت أشعر أن هذا الشيء ما كنت أنطق به تماماً. من المعروضات التي عرضتها قطعة صغيرة من المرمر العراقي الشفاف تقريباً، سميتها النهر الأسود، نحتها رأساً في المرمر بعد أن طبختها وقتاً طويلاً في رأسي وأتممتها خلال شهرين بعمل متواصل. وضعتها بسعر بخس جداً. لم يشترها أحد ولم تثر إعجاب إلا القليلين. إنها تثير في نفسي كلما رأيتها نوعاً من الكبرياء والراحة…
16/11/1944 : إنني من الذين يؤمنون بالمستقبل. إنني أثق بالغد وأؤمن بفوز الحق والأفضل. وكل إنسان يتطلع الآن للمستقبل. الغد ما أقربه. غداً السلام يقترب وأشباح الموت وآلات الشر تحتضر في بيوتها. ألم تتحرر باريس كعبة الفن؟ وبيكاسو النبي ألم يخرج للعالم الجديد بعد انكماشه في بيته طوال أربع سنوات لم ير فيها باريس؟
خلال هذه الأربع سنين التي توقفت فيها باريس وأوروبا عن العمل الجميل، لم تقف بغداد عن العمل. كانت تعمل ببطء وصمت. كانت فقيرة جاهلة. ولكنها كانت تشتغل خلال هذه الفترة، فأنشيء أول معهد فنون وفُتح أول متحف حكومي للرسم والنحت وابتدأت أول حركة قوية ومباركة في مضمار المسرح والموسيقى الكلاسيكية والوطنية.
كانوا قلائل تحدق بهم المصاعب من كل جانب في عملهم الإبداعي وتهيئة الجمهور للفهم والتذوق. أما عملهم، فبصفتهم البعث الأول منذ خمسة قرون، كانت محاولتهم صعبة وهم يهيئون الأسس للأجيال الشابة القادمة. كان عملهم ينحصر في تأليف حلم هذا الأعرابي الملون غير المتناهي في كتب التاريخ وزخارف الريازة العربية، وحتى أبعد من ذلك التأليف بين إنسان عاش بين أحضان النهرين منذ آلاف السنين وصنع من طين هذه التربة تماثيل صغيرة جميلة، وبين تعبير استمده من لندن وباريس وروما.
وأما الجمهور فإنه على سذاجته وانصرافه عن تذوق هذا الشيء الجديد، قد مهد للفنان أرضاً خصبة بكراً لبذر الثقافة الجديدة.
14/9/1945:انتهت الحرب والحمد لله. وقد أثير خبر رجوعنا لإتمام الدراسة في إيطاليا، أنا والدروبي وعطا صبري. مستحيل بعد ما حصل لها، ولذا فإننا على الأكثر سنذهب إلى لندن. على كل فإنني أفضّل البقاء في بغداد سنة أخرى لأتمّ بعض المشاريع والدراسات، منها القيام بتتمة بعض الأعمال ثم المعرض وإلقاء بعض المحاضرات لتكون دراسة عميقة عن ميول الجمهور العراقي وما يحبه وما يفضله.
جمعية أصدقاء الفن على وشك الانهيار والموت. أما ما حصل بيني وبين باقي الأعضاء فإنه يضحك ويبكي. وقد انفصلت عنهم جميعاً.
3/10/1945 : قبل أيام أنهيت عمل «البنّاء»، التي كنت قد سميتها كذلك وعساني قد حققت فيها الشيء الذي أريده.
استقرت في رأسي فكرة إنشاء هذا الموضوع منذ عدة سنوات. وقد استوحيت الشكل عند رؤيتي أسطة طه البنّاء الوحيد في العراق في عمل الزخارف وهو يعمل بكل دقة وهدوء في زقاق القصر العباسي. وقد أعجبني شكله وما جاوره من الصور والحركة والحياة واهتمامه بعمله وتأكده منه، ثم العظمة التاريخية والفنية في الشكل الذي يحاول إصلاحه، بعد رؤيتي هذا المنظر ازدحمت في رأسي ذكريات وأفكار حفرها هذا المشهد في زوايا منسية من رأسي. وتلا ذلك اتصالي المباشر بأهل البناء والأسطوات والخلفات والصناع الصغار عند بناء بيتنا الحالي. وكنت أعرف، وعلى الأخص في هذه الأيام، أن هذه الصناعة لم تكن ما كانت عليه في الأزمنة القديمة في العراق أو فارس، صناعة يقدسها أصحابها ويندمحون فيها كما يندمج الكهنة في الدين. ولم يبق من ذلك الصانع الذي تخلق يده جامعاً كجامع مرجان أو قصر الحمراء، فاضطررت وأنا أدرس هذا الموضوع إلى الاتكال على الماضي، على القباب القديمة التي هي أهم شيء يفخر فيه العربي (…).
٭ فقرات من مذكرات نُشرت في مجلة «حوار»، العدد 8، 1964؛ أعدّها للنشر الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا.
موسيقى النحت المرئية
جواد سليم (1921 – 1961) أحد كبار فنّاني العراق الحديث، وأحد أبرز نحّاتيه، إنْ لم يكن الأبرز، والرائد الذي انخرط في تطوير التشكيل العراقي على صعيد الأداء الشخصي، من خلال الرسوم والمنحوتات واستلهام التراث المعماري المحلي العريق، وكذلك في مستوى تطوير مؤسسات تعليم الفنون وجمعيات الفنانين والمعارض والمتاحف. ولا يعادل التماعاته الباهرة في هذا المضمار، إلا رحيله الفاجع المبكّر، إثر نوبة قلبية، وهو في ذروة استكمال واحد من أعظم أعماله: «نصب الحرّية»، بالتعاون مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات محمد غني؛ الأثر الذي سيحتل ساحة التحرير في بغداد، وسيصبح رمزاً للعراق الجمــهوري المتطـــلع إلى الحرّية والعدالة والتقدّم.
ولد سليم في أنقرة، لأسرة عراقية عُرفت باحتراف فنون شتى، من الوالد إلى الأخوة والأخوات. درس في باريس، وروما، ولندن؛ قبل أن يعود إلى بغداد، فيؤسس ويترأس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة، ثمّ يطلق «جماعة بغداد للفن الحديث»، صحبة الفنانين شاكر حسن آل سعيد ومحمد غني، ويشارك أيضاً في تأسيس جمعية التشكيليين العراقيين.
وأعمال سليم، في النحت والرسم، تعكس تأثيرات تيارات الحداثة الغربية في عصره، لكنّ تراثات الفنون العراقية القديمة (السومرية تحديداً، ورموز القمر والهلال، وعناصر الحكاية الشعبية…) احتلت موقعاً تكوينياً في ذلك المزاج الحداثي. وليست مبالغة أن يُقال إنّ جوهر البحث التشكيلي عند سليم كان استخلاص أسلوبية فنّية وطنية، عراقية أساساً، في الشكل والمحتوى، وفي التركيب الزخرفي مثل الكتلة النحتية.
وفي كتابه «جواد سليم ونصب الحرّية»، 1974، يكتب جبرا إبراهيم جبرا: «لقد قال جواد أنه جعل هذه المنحوتة، من الناحية الفنية، في الأسلوب المفضل لديه، حيث تبرز الفكرة بأقل التفاصيل، معتمداً الخطوط الزوبعية الحركة والدوران. وأقرب الوحدات الأخرى أسلوباً إليها تمثال الحرية. ومهما يكن من أمر فإنه من السهل أن نرى هذه الوحدات الأربع تؤلف معاً مجموعة مترابطة ترابطاً عضوياً، تكاد العين تفرزها عما يليها، وتصبح فيها خطوط السيقان أشبه بأصداء يردد بعضها بعضاً، وفي الطرف الأعلى تتردد خطوط الأذرع في أنغام مقابلة. في احدى كتابات شبابه، شبّه الفنان النصب الكبير بالسمفونية، وفي عمله
هذا أبرز الناحية الأوركسترالية في معالجة أجزاء موضوعه، كأنما أراد لمنحوتاته أن تكون موسيقى مرئية، ترن في الذهن رنين الأنغام بعد صمتها».
ومن مفارقات الأقدار أنّ لوحة تمثّل فتاة تجلس إلى جانب إناء زهور، رسمها سليم سنة 1950، بيعت في أحد مزادات سوذبي، سنة 2011، بأكثر من 362 ألف دولار؛ في حين أنّ صديق عمره الفنان محمد غني استردّ له منحوتة، نُهبت من متحف بغداد بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، مقابل… 100 دولار!
1386 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع