شاي العصرية في اربعينيات الكرخ ...

  

       شاي العصرية في اربعينيات الكرخ*

     

     

              


ليس ثمة من طقسٍ مقيم في بغداد كما (شايّ العصرية)، وهو التقليد المحبب الحميم في دربونة زنْگوّْ حتى حسبه الصبيّ ميقاتاً مقدسا، وفرضاً واجباً يحتم على أمهاتنا التقيّد به وتوقير تقاليده فى الربيع والشتاء.

تهرع الصبايا غنية، فكتوريا، سنية، قبيلة، ضوّية، وأختي ألمازة، يتآزرن لتوفير دواعي الطقس الجميل، فيبادرن بكل مرح على تنقية الاجواء وتلطيف الانواء، يبدأن بكنس وتنظيف المكان ورشّ الدرب بماء تعبق منه رائحة الريّاحين الناعمة، يبسطن حصران القصب الاصفر، وعليها حشيات وطيئة (منادل) لزوم الجلوس، حتى إذا إستوى كل شئ،

  

تُقبل أمهاتنا حاملات العدد من (منقلة النار) وأباريق الشاي الخزفيّة الزرقاء، و(الاستكانات المحلاة بالسعفة الذهبية) و (كعك السيّد)، وأرغفة الخبز الحار التي أخرجتها عمتي فتحية على التو من (التنور)، وتحضر حفصة (الرشاد)، و(النعناع)، و(الكراث) و(الرياحين).

       

ومابين صب الشاي والتمتع برشفاته (المهيلة) و(لقمات) الخبز الحار.. ينساب صوت زكية الشجي، يستعيد أغنية صديقة الملاية ؛
خدري الچاي خدري.. عيوني إلمن أخدره
مالچ يابعد الروح دومچ مكدرة
أحلف ما أخدره ولا أ گـعد گـباله
إلا يجي المحبوب واتهنه بجماله

          

تبتدئ المرأة الوقور الحاجة حمدة المحْنّة موعظة شاي العصر، تحث فيها ربات البيوت على نظافة الابدان وعفة اللسان، وتوصي الحاجة أم جميل بضرورة العناية بالزوج المتعب الذي يكدّ طوال النهار، فعلّى الزوجة الحاذقة أنْ تجعل من البيت كما جنة المأوى وملاذا هنيّا، وأنْ تكون لراعي بيتها سكنا طيبا، وتحذر الامهات من الشكوى وإثقال كاهل الزوج بالهموم الصغيرة العابرة.
تعقبها السيدية حمدة النعيمي (عمة الدكتور طه تايه النعيمي) لتشيع كعادتها أجواء المرح، وهي تواصل إلقاء الطرف، قبل أن تبدأ بأسداء النصائح لأمهاتنا، ففي رأيها كما تروي أمي عنها ؛ بأن أعظم ما في الانسان هو القلب الذي يجب أن يكون على الدوام أبيض طاهرا، بمثل هذا القلب تعمر البيوت بالمحبة وتزدهر الحياة بالرحمة والغفران،..أما حفصة صاحبة القلب النبيل والوجه الجميل، فإن جملة حديثها ينصب على المظهر الحسن وأن تكون المرأة حريصة على تنظيم الحياة داخل بيتها، أن تكون أما وأبا لاولادها، وان تعلم بأن الحنان غير التدليل، فالاول مطلوب أما الدلال الزائد عن حده فمفسدة للولد في المستقبل، وكأنها تستعيد القاعدة الذهبية لارسطو (فلا إفراط ولا تفريط ) فلابد من متابعة أولادنا خارج البيت، وأن لاتنس (الزوجة) أن تحافظ وفي كل الاحوال على بشاشة وجهها في حضرة زوجها وأمام صغارها، وأنْ تكون قسمات الوجه منبسطة تسرّ أهل البيت، فالـ (وجه) كما المرآة من الضروري أن يكون بشوشا وبهيا، وإياكن والعبوس فإنه يجلب النحس والكآبة ويتسبب في فرار الزوج و(هجمان) البيت،!!

  

يجلجل صوت زكية الضحوك وهي تعيد على الاسماع مقالب زوجها عمران العربنجي، وآخرها يوم إنقلبت به عربة (الربل)، أثناء مروره بشارع الشيخ معروف، وكيف رضت أضلاعه رضا بليغا ، وفقد أحد أهم (أسنانه) الامامية، فصار (أكلخا) وعندما أفاق من غيبوبته في مستشفى خضر الياس، إنفجر بالضحك فجأة، إذْ إكتشف بأن العربة كانت بثلاث عجلات بدلا من أربع، وإنه نسي أن يربط عتلة العجلة المتضررة، فغصت الامهات بالضحك...

*عبدالستار الراوي ـ كتاب قمر الكرخ ـ القاهرة 2015

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1085 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع