رحلت عفيفة واستراحت من الزمن المُهين‏

          

      رحلت عفيفة واستراحت من الزمن المُهين‏

             

                                  

           بقلم:الموسيقار سالم حسين الامير

       

في صيف 2005 حضرت السيدة الفنانة الكبيرة عفيفة اسكندر الى دمشق قادمة من بغداد في زيارة خاصة بها.

وفي امسية وصولها رن تلفون شقتي في ضاحية القدسيا في دمشق واذا بالمتحدث الشاعرالكبير مظفر النواب ليقول لي ان السيدة عفيفة تريد ان ترى الفنان سالم حسين (سلومي) فسررت لهذا النداء التلفوني واوعدته في غدٍ مساءً أنا فاستقبالكم جميعاً
وفي مساء اليوم الثاني واذا بالسيدة عفيفة وهي تعانقني وتبكي زمانها فانطلقت مني هذه الابيات:

عبقت مرابعنا اللطيفة - بأريج فنكِ يا عفيفة
الشعر والفن الجميل - وفيض الحانٍ خفيفة
بغداد عاشت مثلها - أيام هارون الخليفة
اهلا وسهلا بالوجوه - النيّرات وفي عفيفة
وحين التفتُ الى الاستاذ مظفر النواب رأيته ينظر باستغراب الى الشاعر الغنائي السيد رياض النعماني الذي كان يرافق الشاعر الكبير دائماً في زياراتهما لي استدركت الأمر سريعاً واخذت في الاسترسال بالشعر فقلت:

وبصحبة الأدب الرفيع - وقائل الشعر البديع
{بمظفر النواب} أكرم - {بالرياض} وبالجميع
هناك صفق الجميع وصافحت من رافق السيدة عفيفة والاستاذ مظفر النواب وكان العدد كبير، وقد احضرت كامرة الفديو وما يمكن تحضيره لهذه السهرة الجميلة التي امتدت الى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، غنت بها عفيفة وغنى وعزف الفنان وعازف العود المبدع والملحن سليم سالم ومن حضر الامسية

وقبل تناول العشاء كانت لي اسئلة طرحتها على السيدة عفيفة كيف بدأت حياتك الفنية ومتى وكانت كامرة الفديو تسجل الحديث والكل يستمع الى هذا السفر الممتع..

فذكرت ان اول ظهورها كطفلة تذهب مع والدتها (ماريكا دمرتي) التي تعمل في ملهى كراقصة في مدينة اربيل، وكانت ترقص وتغني قبل ظهور والدتها على المسرح والاغنية المحببة لها هي اغنية لبنانية ظهرت في اوائل الثلاثينيات على اسطوانة باسم (زنوبة زنوبتنه راحت ماودعتنه يامصيبة يامصيبتنه على فراكك زنوبة) ولم تغني او تحفظ او تؤدي اي اغنية عراقية..

                

إذ كانت الاغاني العراقية في ذلك الوقت تتطلب الصوت الكامل والمعرفة للغناء والمقام ومطربات قديرات على الغناء أمثال سليمة مراد اي سليمة باشا والمطربة زكية جورج والمطربة منيرة الهوزوز وجليلة ام سامي وبدرية انور وصديقة الملاية وغيرهم.

كان الفنان اسكندر عازف الكمان للفرقة التي ترافقها اثناء الرقص والغناء وكانت تظهر لاكعمل فني اذ ان عمرها لايسمح لها ان تكون فنانة تعمل في الملهى انذاك لكنها كطفلة تظهر احيانا بالحاح السيد اسكندر الذي اقترن بها اخيراً وتزوجها ولم تنجب منه اي طفل وان ابنة اسكندر الحقيقية هي الفنانة انطوانيت اسكندر التي عملت مغنية في ملهى الاوبرا في الباب المعظم جنب سوق هرج في بغداد

هذا ما ذكرته لي السيدة انطوانيت ابنة السيد اسكندر عندما زرتها في بيروت بعد اعتزالها العمل الفني وطلبت مني ان تسجل اغنية عراقية من تلحيني على اسطوانة وفعلاً تم ذلك والاغنية (بوية محمد) ولكن المقام غير المقام الاساسي اذ غيرته الى مقام العجم لنعمل به موسيقى موزعة هارمونيا وشاركني في العزف مع الفرقة الموسيقية العازف الكمان الشهير الاستاذ عبود عبد العال وتم التسجيل باستوديو شلهوب في بيروت العام 1960م.

                                          

انتقلت السيدة عفيفة الى بغداد بعد ان اكتمل عودها ونضجت فنيا واصبحت مغنية تلهب اكف من يستمع وينظر ويتذوق اللحن الجميل والخفيف اذ كان يطلق عليها المنلوجست الحسناء عفيفة اسكندر

وكانت تنتقي الشعر الجميل واللحن الخفيف والسريع في ايقاعه وموسيقاه والتف حولها كبار شعراء الغناء وكبار الملحنين وكانت بحق (فاتنة بغداد) كما جاء في المسلسل الذي تحدث عن حياة عفيفة اسكندر فظلمها واساء لهذه الفنانة التي ظهرت في زمن جميل برجاله وعلمائه وادبائه وشعراءه وفنانية ومجتمعه المتذوق اذ كان المسلسل بعيداً عن حياة عفيفة اسكندر من الناحية الفنية والناحية الاجتماعية

ارجو المعذرة من السيد علي صبري فكانت مسلسل (فاتنة بغداد) ومن قام بالغناء ووضع الموسيقى لهذا المسلسل لاصلة بعفيفة بهذا اللون فهو للمطربة الكبيرة سليمة مراد.

              

هناك كتب ومجلات تكتب عن حياة الفنانات والفنانين في ذلك الوقت فالكتب التي صدرت في بغداد (قيان بغداد) وكتاب (الطرب عند العرب) لمؤلفهما الشاعر القدير والشاعر الغنائي المعروف الاستاذ عبد الكريم العلاق الذي امتد به العمر وزامل الكثير والعديد من الفنانات في بغداد،

والكتاب الاخر هو (مغنيات بغداد) للسيد كمال لطيف سالم وكلها تتحدث عن عفيفة اسكندر وكتاب (الموسيقى والغناء في بلاد الرافدين) لكاتب هذا المقال والذي يتحدث به من زمن السومرين الى هذا الزمن استحق عليه جائزة الابداع وقدمة رئيس اتحاد المؤرخين الاستاذ الدكتور حسين امين صدر العام 1999.

وهناك مجلات كثيرة عراقية كمجلة (قرندل) للسيد صادق الاسدي، فكان على كاتب المسلسل ان يذهب الى تلك المصادر او ياخذ ممن يملك ويحفظ او من الصحف والمجلات الاخرى التي كانت تصدر في ذلك الوقت ولو ان اكثرها كانت ادبية وسياسية واخبارية وشعرية ففي الصفحات الاخيرة لبعض الصحف تكون هناك كتابات لبعض الكتاب عن الحياة الفنية كذلك كتب عن بعض الفنانين والفنانات في اواسط الاربعينيات في مجلة (أبولو) عندما توليت تحريرها وادارتها والتابعة الى شركة (سومر السينمائية) لصاحبها السيد حسن الشاوي.

                                 

عفيفة اسكندر من الشخصيات الفنية الكبيرة فهي تملك الجمال والتذوق والكمال في جميع مراحل حياتها الفنية وكانت محبوبة من جميع الناس سواء النساء أم الرجال، صريحة في حديثها وجريئة لم تركن الى شيء لاتحبه فكيف ينسب لها التجسس والعمالة وهي بعيدة عن ذلك،

                   

نعم احبها الكثير من المسؤولين مثل السيد بكر صدقي وغيره لكنها لم تكن جاسوسة عليهم، فبغداد في الثلاثينيات لم تعد كبيرة في سعتها وسكانها كما هي الان فكل شخص فيها ومن له شهرة سواء كان سياسياً او عالماً او أديباً او شاعراً او فناناً او صاحب مطعم او مقهى او اي حرفة من المعروفين عند أهالي بغداد الذين لاتجد عندهم سراً يذكر فكل احد يعمل اي عمل تلقاه منتشراً في بغداد يتحدث فيه القاصي والداني

وان السفارات الاجنبية لاتحتاج الى جواسيس فالكل مكشوفة باحاديثها وباعمالها لايخفى على احد شيء. كان الكثير من الفنانات يصادقن بعض رجالات الدولة او الضباط او رجال شرطة وهذا ليس بالغريب ولكن لم تجد من لها ارتباط في سفارة او جهة معينة.

         

كانت عفيفة تحب المطالعة والأدب والشعر وكان يوم الجمعة صباحاً هو يوم الندوة الثقافية في فيلتها الجميلة في بارك السعدون انذاك وقد حضرتُ احدى هذه الندواة التي تجمع العديد من رجال العلم والادب والشعر والحديث وكان يدير هذه الندواة السيد المحامي عباس بغدادي صاحب كتاب (بغداد في العشرينات)

وقد احبت عفيفة بغداد حباً لاحدود له وطرحت عليها الهجرة مراراً ورفضت عندما سافرت خارج العراق حتى في ايام خراب بغداد ولم تقنع رغم المغريات الكبيرة فأثرت البقاء في بغداد رغم ما بها من حروب ودمار وصواريخ حتى في زيارتها لي في سوريا عرضت عليها البقاء فاعتذرت وعادت الى بغداد والصيف الشديد الحرارة وتقول تعجبني بغداد وحرها الشديد وبردها القارس.

                  

عفيفة كانت نبراس المسارح في بغداد وقدوة فناناتها علاوة على ماتملكه من جمال فهي انسانة رقيقة كريمة النفس عفيفة المنطق صاحبة نكتة ومقولة ظريفة كانت المساعدة الكبيرة لجميع الفنانين سواء كان ذلك ماليا او قضاء حاجة متعسرة فكأنها هي صاحبة الحاجة ولا تعتذر من احد بعدم مقدرتها على تلبية طلبه

اذا دخلت في بيت او حفلة رأيت المرح والابتسامة على شفتيها، هذه هي عفيفة عندما تغني تبعث النشوة في النفوس تملك الصوت المعبر والكلمة الطيبة (الله لو تسمع هلي.... واني بغرامك مبتلي الله)، (ياعاقد الحاجبين)...

(حركت الروح لمن فاركتهم)، (يا حلو يا أسمر غنى بك السمر)، (هلك منعوك لو انت ابعدت عني..... هلك علموك كالولك تعذبني)، (جوز منهم لاتعاتبهم بعد جوز)، (يايمة انطيني الدربين لأنظر حبي واشوفه)، وغيرها وغيرها من الاغاني الجميلة كلاما ولحناً

كثيراً ما شكتني عند اصحابي والمعجبين بي وبالحاني وعزفي انها تكلفني في التلحين وعندما تسألني اين اللحن يجيبني (ولما اشوفك يروح مني الكلام وانساه) هذا هو سالم حسين معي دائماً مع انه ملحن كبير وقديروشاعر اغنية ايضاً رغم انه شاعر كبير ومعروف كلولي سأرد على كلامه هل صحيح ينسه كل شيئ عندما يراني، وهكذا نقضي ليلتنا او اي اجتماع لنا في الضحك والنكاة الحلوة الضريفة،

وهكذا رحلت فنانة الزمن الجميل كما رحل قبلها من الفنانين الرواد الذين تركو بصمة فنية باقية على امتداد الزمن.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1455 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع