الديارات واجواؤها الثقافية والترفيهية
الدير هو المبنى أو مجموعة المباني التي يضمها حيز جغرافي واحد، تعد لإقامة الرهبان والراهبات المتنسكين الذين كرسوا حياتهم للعبادة وخدمة الدين، وتطلق اللفظة على صومعة الراهب، يرجح بعض الدارسين أن الدير تعود إلى أصل آرامي ومعناها البيت أو المنزل (تاج العروس) ومنهم من يعود بها إلى أصل سرياني (دائرة المعارف الإسلامية)، ويسمى الدير أيضا العٌمْر وجمعه أعمار، وقد اشتهر بهذه التسمية عمر مار يونان بالأنبار، وعمر نصر في سامراء، وعمر الزعفران في نصيبين.
نشأت الاديار وتكاثرت مع نشوء تيار الترهب وتناميه في القرن الرابع الميلادي بفعل تجمع الناس، والمتزهدين بخاصة حول بعض النساك والزهاد، فأخذوا يقيمون الاديرة التي تشبه الحصون والقلاع ثم ما لبث أن وضعت التشريعات والقوانين تنظم الاديرة والحياة فيها.
ولابد من التفريق بين الدير والكنيسة، فالأول مكان إقامة، يقيم فيه الرهبان والمنقطعون إلى العبادة، وقد ينزل فيه الضيوف والمسافرون والمرضى، وأبناء السبيل ، بينما الكنيسة بيت عبادة فحسب يتلاقى فيه المؤمنون المسيحيون، رهبانا وكهنة ومدينين (عادين)، لإداء شعائر العبادة أيام الآحاد والأعياد وفي أوقات الصلوات، وفي المناسبات الاجتماعية المتصلة بالشعائر الدينية كالزفاف، المعمودية، والجنازات، ويعودون بعد انتهائها كلٌّ إلى حيث يقيم، وتقفل الكنيسة أبوابها، أو في الأقل تخلو من الناس في غير تلك الأوقات، ولا يقيم فيها أحد قط، وإن اقام في حرمها كاهن أو راهب أو خادم فإنما تكون الإقامة في بيت ملاصق للكنيسة أو مجاور، أعدَّ لهذا الغرض فالكنيسة بيت عبادة والدير مقر إقامة، وفي كل دير كنيسة خاصة تابعه للدير.
يضاف إلى ذلك أن لتلك الديارات جانباً ثقافياً وأدبياً وفنياً سابقاً، يقوم على وجود نخبة مثقفة من الرهبان يمارسون القراءة والبحث والتأليف، ويتأثرون يمن يفد عليهم من الشعراء والأدباء والندماء، بحيث تصبح الديارات أشبه بندوات ثقافية وأدبية تُطرح فيها مختلف القضايا، والآراء والطرائف في أجواء يهيمن عليها الجد تارة، والهزل والمجون تارات أخرى، مما تنشرح به النفوس، ومما يمكن أن يسمى «أدب الديارات».
أما أدب الديارات فقد نشأ في القرن الثالث والرابع الهجري، ضمن الأدب الجغرافي العربي الناتج عن أدب الرحلات، وعن التوسع في الدولة العربية الإسلامية نتيجة الفتوحات، في تلك الفترة والأجناس والأقوام والبلدان والأماكن التي انضمت إلى هذه الدولة المنتشرة على طول الأرض وعرضها.
في تلك المدة الزمنية لم تجتذب اهتمام الأدباء والشعراء بوصفها أماكن عبادة، بل بسبب شهرة نبيذها ففيها كان يطيب إقامة مجالس الشرب، وإنشاد الشعر في بساتين الدير بعيداً عن أعين الرقباء، ودائما الدير في موضع حسن كثير البساتين والمياه عجيب البناء وأرضه مفروشة بالبلاط الملون، وكانت الأشعار المنشدة فيها تصف هذه المجالس وصفاً حياً يقدم لنا لوحة دقيقة لحياة ذلك العصر.
مواقع الأديرة الجميلة قرب الأنهار، وإحاطتها بالرياحين والبساتين والكروم جذب الخلفاء والأمراء لبناء قصورهم على مقربة منها، فضلاً عن أن الموقع النزه ومحيطه الهادئ كانا يجذبان الناس لزيارة تلك الأديرة منها ومشاركتهم في أعيادهم.
في بغداد كان يوجد (دير درمالس)، هذا الدير وهو نزه كثير الأشجار والبساتين بقربه، ومن طيب حسنها في الاعياد تطيب نفس الزائرين وتطرب وفيه يقول أبو عبد الله أحمد بن حمدون النديم:
يا دير درمالس ما أحسـنـك... ويا غزال الدير ما أفتـنـك
لئن سكنت الـدير يا سـيدي... فإن في جوف الحشا مسكنك
والدير الأعلى بالموصل (دير مار ميخائيل) كان تحت الدير عين كبيرة، تعرف بعين الكبريت، قال عنها ياقوت إنها ظهرت تحت الدير الأعلى في سنة 913 م وإن فيها عدة معادن كبريتية، ماء هذه العين بارد في جميع فصول السنة، ويقصدها الناس صيفا ليستحموا بمائها الذي ينفع المصابين منهم ببعض أمراض الجلد، ومنهم من يشرب شيئا من مائها تخفيفا من حرارة معدهم، واثناء الشعانين في هذا الدير يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيام يشربون، ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله. قال فيه سعيد الخالدي:
قمر بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلت من حسد ... قبل الحبيب فمي بها أولى
في أحد الأيام خرج الخليفة المأمون، فنزل الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته، وجاء عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير، وزُينَ الدير في ذلك اليوم بأحسن ما عندهم، وخرج رهبانه وكهنته إلى المذبح، وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر (المبخرة) قد تقلدوا الصلبان وتوشحوا بالمناديل المنقوشة. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه.
انصرف القوم إلى اعمالهم، عطف إلى المأمون من كان معه من الجواري والغلمان ، بيد كل واحد منهم تحفة من رياحين وقتهم، وبأيدي جماعة منهم كؤوس فيها أنواع الشراب، فأدناهم وجعل يأخذ من هذا ومن هذه تحية، وقد شغف بما رآه منهم، وما فينا إلا من هذه حاله. وهو في خلال ذلك يشرب والغناء يعمل، ثم أمر بإخراج من معه من وصائفه، فأخرج إليه عشرون وصيفة كأنهن البدور، عليهن الديباج، وفي أعناقهن صلبان الذهب، بأيديهن الخوص والزيتون. فقال: يا أحمد، يقصد الشاعر المرافق له، قد قلت في هؤلاء أبياتا، فغني بها، وهي:
ظباء كالدنانير ... ملاح في المقاصير
جلاهن الشعانين ... علينا في الزنانير
وقد زرفن أصداغا ... كأذناب الزرازير
وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزنابير
ثم أخرج جاريته، وكانت وصيفة، فغنت:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في كبدي بسهم نافذ
نعم ظلمتك فاصفحي وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ
وكان أيضا في بغداد دير الثعالب هذا الدير، بالجانب الغربي منها، بالموضع المعروف بباب الحديد وأهل بغداد يقصدونه ويتنزهون فيه، ولا يكاد يخلو من قاصد وطارق. وله عيد لا يتخلف فيه أحد من المسيحين والمسلمين، وباب الحديد أعمر موضع ببغداد وأنزهه لما فيه من البساتين والشجر والنخل والرياحين،.
أن عيد دير الثعالب، هو آخر سبت من أيلول، إلا أن يكون أول تشرين الأول من السنة الآتية يوم الأحد، فيتأخر العيد إليه ويخرج من أيلول، فتتعرى تلك السنة، ويتكرر في الآتية مرتين: في أولها وأخرها.
وقال ياقوت إنه: دير مشهور بينه وبين بغداد ميلان أو أقل، في كورة نهر عيسى، على طريق صرصر، وبالقرب منه قرية تسمى الحارثية. يقول ابن دهقانة الهاشمي:
دير الثعالب مألف الضلال ... ومحل كل غزالة وغزال
كم ليلة أحييتها ومنادمي..... فيها أبح مقطع الأوصال
وذكر الأب أنستاس ماري الكرملي أن بقايا دير الثعالب، تعرف اليوم باسم عين الصنم، ورجح الاب لويس شيخو، أن دير الثعالب منسوب على ما نظن، إلى بني ثعلبة المتنصرين، قريب من بغداد عند الحارثية.
كما هناك دير الجاثليق هما ديران يحملان نفس الاسم، الأول دير قديم في رأس الحد بين السواد وأرض تكريت، والثاني: كان في غربي مدينة بغداد، وصفه الشابشتي قائلا: هذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين، وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة.
وفي بعض المصادر، أن دير الجاثليق هذا، كان يقع على نهر الرفيل، من أنهار بغداد القديمة في أيام العباسيين، وكان مأخذه من نهر عيسى، ومصبه في دجلة عند الجسر، و دير الجاثليق البغدادي كان يسمى أيضا (دير كليليشوع) وهي لفظة سريانية بمعنى (إكليل يسوع) .
ويؤخذ من النصوص التاريخية، أن دير الجاثليق دير قديم يرقى زمن إنشائه إلى ما قبل تأسيس بغداد، بل إلى ما قبل ظهور الإسلام.
أما دير سمالو هذا الدير يقع شرقي بغداد بباب الشماسية، على نهر المهد،. وهناك أرحية للماء، وحوله بساتين وأشجار ونخيل، والموضع للنزه، حسن العمارة، آهل بمن يطرقه، وبمن فيه من رهبانه.
وعيد الفصح ببغداد، فيه منظر عجيب. لأنه لا يبقى مسيحي إلا حضر وتقرب فيه، ولا أحد من أهل الطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنزه فيه، وهو أحد متنزهات بغداد المشهورة.
ولمحمد بن عبد الملك الهاشمي، فيه:
ولرب يوم في سمالو تم لي ... فيه السرور وغيبت أحزانه
وأخ يشوب حديثه بحلاوة ... يلتذ رجع حديثه ندمانه
صافي الرحيق من المدام شرابة ... والمحسنات من الأوانس شانه
نكمل في العدد القادم.
المصادر:
الديارات: أبو الفرج الأصبهاني
الموسوعة الدينية
شعر الديارات في القرن الثالث والرابع الهجريين، صالح علي سعيد.
587 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع